وجهة نظر

إذ قـــــال لابـــــنه وهـــو يعظــــــه

مدخل :
قال حكيم لابنه:
“يا بني، عز المال للذهاب والزوال، وعز السلطان يوم لك ويوم عليك، وعز الحسب للخمول والدثور، وأما عز الأدب فعز راتب رابط لا يزول بزوال المال، ولا يتحول بتحول السلطان، ولا ينقص على طول الزمان. يا بني، عظَّمَتِ الملوكُ أباك وهو أحد رعيتها، وعبدتِ الرعيةُ ملوكها؛ فَشَتَّانَ ما بين عابد ومعبود. يا بني، لولا أدبُ أبيك لكان للملوك بمنزلة الإبل النقالة والعبيد الحمالة” – التذكرة الحمدونية –

أخبرني المهند قال:
حشرت أنفي في وعاء حوار أخرس، ولم ألتفت إلى نصيحتك أبي عندما نهرتني ذات يوم بسبب عدم التزامي بنظرية ” من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه” و” ما ملأ ابنُ آدم وعاءً شرًّا من بطنه”.
ولكن أبي : هل نترك الحبل على الغارب إذا كان الجهل سيد المواقف والأزمنة؟
قلت : يا مهجة القلب، إنما نهيتك عن ذلك مخافة إصابتك بالتخم والأمراض المعدية.
سُئل لقمان الحكيم أي عملك أوثق في نفسك؟ قال: ترك مالا يعنيني. وقال مالك بن دينار: إذا رأيت قساوة في قلبك ووهنا في بدنك وحرمانا في رزقك فاعلم بأنك تكلمت بما لا يعنيك.
وتابع المهند ملاحظا معاتبا : لماذا نتجرد يا أبي من إنسيتنا ونخرق نواميس الطبيعة والأعراف عندما نلح على جعل الحيوانية الشهوانية ممارسة فوقية لتحرير الجسد من مضانه وسقوفه الأخلاقية والمجتمعية؟
هل الحرية الفردية – يتابع المهند – فوق اعتبار المسؤولية الفردية، ومن خارجها الجمعية؟
هل الحرية الفردية قضية مرتبطة بعلاقاتنا بعضنا ببعض، أم هي مسألة حدود ومفاهيم وجغرافيات وجود؟
اسمح لي أبي لا شيء واضح تماما ، من الجرأة على النضال لأجل الجسد إلى القفز الكبير على حواجز العقل!
أنا أعتبر الحرية مسؤولية وضمير والتزام واحترام بيني .. ومن يحاول إسقاط الفردية كخاصية متقاطعة مع المحيط فهو إما مريض سيكوباتي أو منفصل تماما عن واقع لا تخطئه العين!
اسمح لي أبي نحن نحتاج اليوم لإعادة صياغة وجود وتصحيح مسار .. فما يهتم به الغوغائيون أقصر من قامة الكينونة وأتفه من تقييمات العوادم! ؟
رأيت أن المهند بدا يتفاعل مع أسئلة الوجود والكينونة، ويحتوي أفكاره بمزيد من اليقظة والتحليل المباغت ..
ما أروعك مهندي ..
وسألني المهند: كيف نفكر؟ وماذا نتذكر ؟
استدعى ذلك مني تفكيرا مزدوجا في التوجيه والإقناع.
قلت له ( طبعا مع تبسيط العبارة ) :
الطاقة الخلاقة للحدس الإنساني هي مكمن الذاكرة ووعاؤها الحصيف .
لو كنا ندرك قيمة هذه الرؤية لانشغلنا طيلة بحثنا الحثيث عن نهر الحياة بالجري وراء جهد العقل ونظامه الإبداعي الفوار . لكننا يا للأسف تركنا ذلك كله واعتلينا قبلة الفرح عند كل ( تخريجة ) من حفظ المتون إلى ترسيمها على لوح محفور، في وعاء يرسم حدودا للفهم والسؤال ومآلات التفكير والتعبير والاستسلام النهائي!
أتذكر أني أحببت أن أكون متفوقا عند حاجة والدي لهذا النوع من الانتصار.
كنت أشك في مبدئية هذا الانصياع الروحي، قريبا من فكرة الإيمان، وبعيدا عن ترميم حالات اللايقين..
كثيرة هي القضايا التي نالت حظها من الالتفاف والتدوير والتفكيك، لكن بإزاء ذلك هناك تصريفات من القلق النفسي والارتياب الاشكالي الذهني كانت تضعني في مواجهة غضب أبي وعتاب أمي..
لكن حتما كنت على يقين أن قناعتهما الخفية والمتحدرة من تجربة روحية ووجدانية عميقة ودالة كانت وراء وقوفي وامتلائي إلى جانب كونهما يعتبران بالنسبة لبدايتي الفكرية نموذجا حماسيا دالا على الاحترام والتقدير والاعتزاز ..
قلت أنصح المهند:
كن كــــــــالــــذئـــــب
لا تمسك الحلم قبل أن تهجم على قطيع اللحم ..
هل تظن أن شبعك سيعدل شرط عينيك..
ساقاك في الريح جزهما
فالسنابل لا تحصد خريفا
ثم لا تلتمس العذر إن عاب نهشك السكون
فقد تموت واقفا كالشجرة المنخورة
فتلقى في سوس التاريخ ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *