وجهة نظر

آمال ممزقة

في أحد أيام فصل الربيع الجميل، و بالضبط، أياماً قليلة بعد حفل التنصيب و أداء اليمين الدستورية على مرأى و مسمع كافة المواطنين، سَلَّمَ الشاب سيزيف اليوسفي– شاب في عقده الثالث، كان قد حصل على شهادة دكتوراة مزدوجة في التربية و التفكير الاستراتيجي قبل حوالي خمس سنوات، لكن لم تكن ثقافة البلد تسمح بتوظيف أشباهه، نظراً للاعتقاد الذي كان سائداً حينها بأنه ما لم تتسلق أسقف الوزارات أو تغلق منافذ الإدارات، أو تتدثر بقنينات البنزيل الجاهزة للاشتعال في أية لحظة، فإنه لن يكون بوسعك ولوج قصر سوق الشغل. هو لم يكن يؤمن بتلك المقاربة.. انتظر طويلا حتى جاء الربيع، فاعتقد أنه حان الوقت لتزهر كل الأشجار و تتفتح كل الورود… — طلباً إلى رئيس الحكومة يعرض فيه عليه أن يشتغل معه مستشاراً مكلفا بالتعليم والتنمية المستدامة،… لكن لم تمضي سوى بضعةُ أسابيعَ حتى التقى نفس الشاب، ذات صباح، بشظايا طلبه تذروها رياح الخريف في أحد أكبر شوارع المدينة… فقرَّرَ أن يتقفى أثر الأوراق المُمَزَّقة، فوجد بعد مسيرة حوالي نصف ميل، أنها تنبعث من حاوية أزبال غير بعيدة عن مقر إقامة رئيس الحكومة !!

لكن، لحسن حظ الشاب أنه لم يُصَبْ بأي أذى جراء الحادث الأليم، اللهم بعض الكدمات الخفيفة على مستوى الجهة اليسرى للنفس، و نزيف حاد على مستوى الأمل، استطاع أن يوقفه – بتطبيق الإسعافات الأولية التي كان قد تعلمها في مخيمات الطفولة الصيفية، و قبلها في أحد الكتاتيب القرآنية..

في مشهد انقسم المارة بخصوصه بين من اعتبره مشهدا بهلوانيا، أو حقيرا، ينحني فيه المرء ليلتقط أشياءً مُّداسٌ عليها كما ينحني الفقراء على حاويات القمامة، و بين من اعتبره مشهداً إنسانيا مؤلماً تداسُ فيه كرامة الشباب و يُعبَثُ فيه بعقارب ساعاتهم، وتّتْلَفُ فيه ساعات عقولهم، لوحظ الشاب و هو ينحني على جمع قطع الطلب الخطي و نهج السيرة، بل و حتى صورة شمسية كانت تتخذ لنفسها الركن الأعلى من الجهة اليسرى من الصفحة الأولى للسيرة الذاتية.. بل كان يلاحق القطع الصغيرة من ذلك الصرح المُتَهاوي، كما يلاحق الأطفال فراشات فصل الربيع، في اعتقاد منهم أنها لا تحسن الطيران أو لا تطيقه، وأنها، تبعا لذلك، قاب قوسين أو أدنى من مَمْسَك أياديهم البريئة الناعمة.

استيقظ الشاب سيزيف مذعوراً و هو يصيح ” سيرتي، صورتي، صورتي، سيرتي..” فتقدم، و هو شبه فاقد للذاكرة، إلى النافذة المطلة على الشارع الفسيح بهذه المدينة العملاقة، من الطابق السابع و الأربعين من المَبْنى…فتذكر حينها أن الأمر يتعلق بكابوس عابر… و أن الشاب الذي تمزقت أوصال سيرته (طلبه) هو نفسه الشاب الذي يشتغل حاليا مهمة “سفير فوق العادة بالبعثة القائمة” لمعالي وزير الحكومة.

قبل هذا الكابوس..( سميه ما شئتَ)..كان الشاب قد برمج منبه الساعة — و هي من نوع جيل السبعينات، حيث قرر مصمموها أن يجعلوها منفتحة على واقع العالم القروي، فسجنوا بداخلها دجاجة ، أو لربما ديكا، كانت مهمتها إلتقاط حَبّ الدقائق المتساقطة، من الزمن المهدور داخل الوطن، بنهم شديد و دون توقف… كان الكل مُلْهَماً بنقرات ذلك الكائن، الذي ينتمي لفصيلة الطيور، التي كانت ترافق رتابة الليل المظلم الطويل— على موعد أذان الفجر لذلك اليوم…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *