وجهة نظر

البراق.. ذكرى إنجاز كبير ورسائل أكبر

مرت سنة على انطلاق أول رحلة للقطار السريع “البراق”، بحصيلة متميزة بلغ فيها عدد المسافرين أزيد من 2 مليون شخص، كلهم شهدوا على خدمات جيدة، بتدبير تقني وإداري مغربي مائة بالمائة. كما أن “البراق” واكبه بناء محطات أصبحت معالم عمرانية عصرية، بمواصفات راقية، بكل المدن التي ينطلق أو يمر منها القطار السريع.

و لأن المناسبة شرط، أتمنى في ذكرى ميلاد مشروعنا السككي الوطني الجديد، الذي يبقى هو الأول من نوعه عربيا وإفريقيا، أن نرى في الإعلام، هذا الأسبوع، كل تلك الأصوات التي كانت تعلو انتقادا للمشروع، لنطمئن بأن الجميع اقتنعوا، اليوم، بما كان لهذه المنجزة من طابع استراتيجي استباقي، لم يفهموا معناه و دلالاته حين خرجت الفكرة إلى حيز الوجود.

أقول هذا الكلام من منطلق ملاحظتي بأن كثيرا من المواطنين، ربما تحت وطأة ضغط المشاكل الكثيرة والطموحات، لا يركزون بالقدر الكافي في معاني إنجازات كبيرة تتحقق، هنا و هناك، دون أن يتم التفاعل معها بما تستحقه و كما يجب. لاحظنا ذلك في عدة مناسبات، سواء في مثال التعاطي مع حالة القطار فائق السرعة، أو مع حالة الميناء المتوسطي، أو حالة المناطق الصناعية الكبرى المتخصصة في صناعة السيارات و غيرها، وحالة إطلاق المغرب لقمرين صناعيين، رغم ما لذلك من تمكين تكنولوجي و تقني، يتعزز من خلاله ضبط المجال الجغرافي و توسيع أفق التنمية، و خلق فرص الشغل، و عصرنة الخدمات، وتقوية قدرات الدفاع عن تراب الوطن و صون أمنه.

و إذا كنا متفقين على واجب استمرار المواطنين و القوى الحية، في تتبع السياسات العمومية وانتقاد أوجه العجز في التدبير الحكومي لعدة قطاعات، و التنبيه إلى خطر استمرار مجالات جغرافية دون أخذ حظها من التجهيزات المهيكلة، والمطالبة بوقف الريع في عدة قطاعات، و الحد من الفساد وتجويد الحكامة، و التنبيه إلى أولوية إدماج الشباب و مواجهة التهميش الاجتماعي و البطالة، لكن من الأخلاق السياسية، ومن أساسيات الحرص على المصالح العليا المشتركة، أن نسجل الإيجابيات عندما تحدث، و أن نثمن بكل جرأة و ثقة، كل مكتسب من تجهيزات و خدمات تتحقق للوطن، أينما ومتى ما تحققت، لأنها ملك حصري لكل أبناء هذا الشعب قبل أن تكون شيئا آخر.

في اعتقادي، لم يكن توفير القطار السريع مجرد إضافة وسيلة نقل، عصرية ومتطورة، إلى ترسانة التجهيزات المتوفرة في بلادنا. الأمر كان أكبر و أشمل، حيث أن “البراق” حمل إشارة رمزية بالغة على ضرورة أن ينخرط المجتمع بكل قواه الحية، و بكل الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين و الاجتماعيين، في مجهود المرور إلى سرعة أكبر في تدبير الشأن العام، بشكل يتيح مواجهة أسرع لتحديات المرحلة، وتجاوز ما تراكم من تأخر و عجز وسلبيات تؤثر في أداء بعض المرافق العمومية الأساسية، وتقلل التنافسية الاقتصادية، و لا تساعد في تحقيق التنمية الاجتماعية المدمجة لكل الطاقات الشابة ببلادنا.

للأسف لم يستوعب الجميع مضمون الإشارة و دقة معانيها، كما يحدث أن لا ينتبه كثير من الناس إلى أهمية التعاطي مع واقعنا الوطني، بما فيه من إيجابي و من سلبي، مع أخذ ما نراه في المحيط الجهوي والدولي من اضطرابات معقدة الأبعاد، وكثيرة التجاذبات و شديدة الاصطفافات، بعين الاعتبار خصوصا عند انتقاد ما لا يسرنا.

ويبقى أن هامش الحركة الضيق في الجانب الاقتصادي والمالي، خصوصا مع الإكراهات الاجتماعية المتنوعة، يضعنا أمام حتمية خيار تحديث أنظمة التدبير العمومي، و تحرير الطاقات الاستثمارية الرأسمال الوطني، وتشجيع الكفاءات في الإدارات العمومية و مواقع المسؤولية، و عصرنة التجهيزات اللوجيستيكية بكامل تراب المملكة، تحقيقا للتكامل التنموي بين كل الجهات، و تثمينا لرصيد مؤهلاتها و رأسمالها المادي و اللامادي.

و إذا كان الأهم، هو أن نوقف كل إضاعة للجهد السياسي، وللقدرات المالية لمؤسسات الدولة والجماعات المحلية، فيما لا جدوى فيه و لا نفع الناس، فإن علينا أن نعترف، أيضا، بأن وجود الاختلالات و المشاكل، لا يلغي مشروعية أن تكبر في دواخلنا أحاسيس قوية بفخر الانتماء للمملكة المغربية، وأن نعبر عن ذلك بأعلى صوت، و نحن نرى مجموعة من المشاريع، كمنوذج القطار السريع، التي تؤكد أن بلادنا تستطيع رفع التحدي كلما توفرت الإرادة و الثقة و العزم والتدبير الإستراتيجي.

لذلك، من الضروري أن تستمر يقظتنا الجماعية، و أن تظل غيرتنا الوطنية قوية، و أن نتحرك بشكل هادف وشجاع على مستويات عدة، حتى نحاصر ترهات التسفيه، و نبعث الأمل في نفوس الشباب، على أساس عقد اجتماعي جديد يرتكز على ديناميكية تطوير حقيقي لدواليب المؤسسات الخدماتية العمومية، من صحة و تعليم و تكوين مهني و مساعدة في الإدماج المهني، و تحديث أنظمة التدبير فيها، حتى تعانق تطلعات المواطنين و تسير بهم نحو مساحات أرحب من الرفاه و التقدم، ضدا في إرادات كل من يتمنى أن تتوقف مسيرة هذا الوطن، و يسود العبث و الشعبوية. و هيهات هيهات أن ندع لأي كان، أي حظ في الفرح بأفق رمادي كهذا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *