وجهة نظر

أي نموذج تنموي جديد لمغرب اليوم؟

سواء كنا ممن يعتقد في نهاية نموذجنا التنموي المعتمد إلى وقت قريب أم ممن يعتقد في فشله، فالسؤال الذي فرض، ويفرض، طرحه بإلحاح على كل الفاعلين ببلدنا هو: أي نموذج تنموي جديد، نبتغيه، لمغرب اليوم؟ لأن الكل معني بالإسهام في إيجاد جواب مغربي الأصل والمرجعية.

بداية، ليس من السهل الإجابة على سؤال التنمية. ولأن كل باحث يعرفها انطلاقا من مرجعيته الفكرية، فقد اختلفت النظرة حولها.

لكن المسؤولية البحثية تفرض الكشف عن لبس، بل تضليل، طالما اعتمده بعض الأوساط المالية الدولية خاصة. والقصد، أنه ظلت التنمية تنحصر في مفهوم ضيق وهو النمو الاقتصادي.

فالنمو الاقتصادي، يحمل ويجسد فقط المحتوى الكمي من مفهوم التنمية، حيث يشير إلى وثيرة ومعدل تزايد الإنتاج والاستثمار والاستهلاك والادخار. وهو يقاس بالمردود أو العائد أي الناتج الداخلي الإجمالي الوطني ومتوسط الفرد منه قياسا إلى تعداد السكان.

أما التنمية، فهي مفهوم معقد، تتشابك فيه جوانب وعلاقات متعددة. وهي تعني إحداث تغيرات جدرية في الهياكل المؤسساتية والاجتماعية والإدارية والذهنية، وحتى في العادات والمعتقدات. وبالتالي، فإن تحقيق نمو اقتصادي في بلد ما لا يعني بالضرورة تحقيق التنمية في هذا البلد.

هذه الحقيقة، أكدتها دراسة للاقتصادي” روبر كلاور” (Robert Clawer) في 1966 بعنوان ” النمو بدون تنمية “، والتي أشارت إلى أن النمو لا ترافقه بالضرورة تغيرات هيكلية مما يجعل النمو محدودا وقد لا يستمر طويلا. وأكدها المفكر الاقتصادي ” أمارتيا سن ” (Amartya Sen) بمناسبة حصوله على جائزة نوبل عام 1998، حيث ركز على ضرورة تجاوز دراسات التنمية لمسألة معدلات الدخل المنخفضة إلى التركيز على أربعة عوامل كبرى تشكل حجر الزاوية في المستوى المعيشي الأدنى المقبول:

• الاختلافات الشخصية مثل العمر، العجز….
• تنوع البيئات، حيث إن العيش في بيئة خاصة (حارة أو باردة) يتطلب نفقات مختلفة بالنسبة للسكن واللباس والوقود…
• تغير المناخ الاجتماعي (النزاعات، الآفات….).
• تنوع الحرمان النسبي.

لذلك، يتفق أغلب المختصين في اقتصاد التنمية على أنها (التنمية) ليست مجرد تحسين للأحوال المعيشية. ولكنها، هدف مستمر وقدرة متواصلة ومتعاظمة على التطور والنماء والارتقاء، تتداخل فيها أبعاد عديدة متفاعلة ومتشابكة مع بعضها البعض، إذ لا يمكن تصور حدوث تنمية في بعد أو محور واحد دون بقية المحاور والأبعاد. فلا يمكن تصور تنمية اقتصادية مع وجود تخلف إداري أو سياسي أو ثقافي أو تقني.

لقد شهدت العقود الأخيرة تحولات واسعة في مفهوم التنمية وفي طرق قياسها، ليس فقط نتيجة للجهود النظرية في اقتصاديات التنمية. ولكن أيضا نتيجة لمراجعة حصيلة الجهود التنموية والنتائج التي أسفرت عنها، إذ أن من أهم نتائج تلك التحولات، بلورة مفهوم التنمية المستدامة على يد اللجنة العلمية للبيئة والتنمية (لجنة برونتلاند) في تقريرها الصادر بعنوان، مستقبلنا المشترك، عام 1987. وبالرغم من أن جدور مفهوم التنمية المستدامة تمتد إلى ما قبل صدور تقرير ” برونتلاند ” إلا أن هذا الأخير هو الذي أكسب هذا المفهوم الشعبية والثقة حيث أصبح منذ ذلك التاريخ متداولا ومألوفا في المناقشات الاقتصادية والسياسية والبيئية والشعبية.

وندرج مفهوما حديثا جدا وواضحا للتنمية المستدامة يقترحه الباحث الاقتصادي الجزائري كمال ديب حيث يرى أنها: ” عملية استغلال الموارد المتاحة، بطريقة عقلانية لأنها تتصف بالندرة ومهددة بالفناء لإشباع حاجياتنا وتحقيق إشباعنا ورفاهيتنا دون المساس بسلامة البيئة وتوازنها ومع المحافظة على حق الأجيال القادمة في استغلال الموارد نفسها والعيش في البيئة السليمة والنقية نفسها “.

إننا في المغرب، نرغب في بلورة نموذج تنموي جديد، مغربي الولادة والنشأة. وطني صرف في مرجعيته وأهدافه وغاياته، مما يضمن مزيدا من إمكانيات التطبيق باستقلالية وبعيدا عن ضغوطات المنظمات المالية الدولية. ولنا أن نستخلص الدروس من تجربتنا مع البرنامج الهيكلي الأول وكذا الثاني في الثمانينيات من القرن الماضي، ومن تجارب النماذج التنموية المطبقة في الدول الأسيوية الناجحة.

هذه الرغبة الوطنية في أن يصبح الإنسان المغربي، الوسيلة والغاية، في النموذج التنموي الجديد، تفرض تجسيده لمبادئ التنمية المستدامة. وهي، وإن كان لا يمكن تحديد عدد معين بشأنها حسب الباحثين المختصين ففي البحث الذي قام به الباحثون الذين أعدوا كتيبا/ تقريرا بعنوان “مجتمعنا مستقبلنا ” (السابق الإشارة إليه)، تم تقديم ستة مبادئ وهي:

1- الدمج: دمج الاعتبارات البيئية والاجتماعية والاقتصادية في عملية صنع القرار بشكل فعال.

2- مشاركة المجتمع: لا يمكن تحقيق الاستدامة أو إنجاز أي تقدم نحوها من دون مشاركة ودعم المجتمع بكافة شرائحه. (وهنا إشارة إلى الديمقراطية التشاركية).

3- السلوك الوقائي: حينما تتأكد احتمالات وقوع أضرار بيئية جسيمة لا يمكن معالجتها، لا يجب الاستدلال بالافتقار إلى التيقن العلمي الكامل لتبرير تأجيل اتخاذ تدابير فعالة من حيث التكلفة لمنع التدهور البيئي.

4- العدالة ضمن الأجيال وبينها: الإنصاف والمساواة في الفرص للجيل الحالي وللأجيال القادمة.

5- تحسن متواصل: إن الوضع البيئي المتدهور يلزمنا باتخاذ إجراءات فورية لتصبح المجتمعات أكثر استدامة وتسعى للتحسن المستمر.

6- السلامة البيئية: العمل من أجل حماية التنوع البيولوجي والحفاظ على العمليات البيئية الأساسية والأنظمة التي تدعم الحياة.

مجمل القول، نعتقد أن النموذج التنموي الجديد لمغرب اليوم، لابد وأن يستمد فلسفته ومضامينه من تحليل المفهوم العميق الدلالات للتنمية المستدامة، ويجسد على أرض الواقع المبادئ الستة على الأقل التي تم ذكرها. وليلمسه المواطن في كل جهات البلد، لا بد من أن تنعكس نتائجه على قدرته الشرائية، وتعليم أبنائه، والتشغيل، والصحة.

وهو ما يفرض، التطبيق السليم للنصوص القانونية المتوفرة والمقبلة، وبلورة سياسات عمومية واقعية تترجم حاجيات المواطن الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية. ويفرض، إعادة الاعتبار للمدرسة العمومية التي تؤسس للتربية والتعليم والثقافة لدى المتلقي، وقيام الإعلام بوظائفه التربوية والثقافية والتحسيسية.

أخيرا، نعتقد أن الجهوية المتقدمة، هي المدخل الحقيقي للنموذج التنموي المنشود في بلدنا. ولا شك أن التنزيل السليم للنموذج المنشود يتطلب ثقافة جديدة، قوامها الروح الوطنية وتمكين من يتوفر فيهم شرطا التكوين العلمي والمهنية من تدبير الشأن العام.

• إعلامي وباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *