منتدى العمق

للفساد رب يحميه..

يعتبر العمل الجمعوي مجالاً خصباً يمكن من خلاله تعلم وممارسة الديموقراطية، واكتساب التجربة وتعلم مجموعة من المهارات في الحياة والاندماج في بناء المجتمع، وحل المشاكل ومواجهة الصعوبات والمجتمع المدني في المغرب عرف تطوراً ملموساً في تكاثر عدد الجمعيات وتنوع مجالات عملها خاصة بعد ميلاد المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وأيضاً نتيجة إحاطة هذه الجمعيات بتأطير قانوني على ضوء دستور 2011، وكلّ هذه الجمعيات (من خلال أدبياتها) مرتبطة أساساً (على الأقل نظرياً) بقيم الديمقراطية والمواطنة والمساهمة في التنمية المستدامة. كيف؟ وبما يمكن تفسير هذا التزايد في عدد الجمعيات؟ ألا يمكن تفسير هذا بوعي الدولة بمدى أهمية العمل الجمعوي؟ ألا يمكن أن يكون هذا المجتمع المدني يخدم أجندة الدولة، وليس لمحاسبة الدولة أو مراقبتها. إنّ الكثير من هذه الجمعيات أعادت اجترار أسطوانة مشروخة، والبارعة في إعطاء إحصائيات غير حقيقية ورفع شعار (العام زِين)، وقامت الدولة بإعادة إنشاء جمعيات موالية لسياستها الرّسمية، وتستمد قوتها من أنها ترفع نفس القيم التي ترفعها الجمعيات الجادة بغرض تقزيمها، وما كان يسمى بجمعيات السُّهول والجبال والوديان، خير دليل على ما ذهبنا إليه، هذه الجمعيات التي أشرف عليها أعيان وعائلات مخزنية، كما أننا اليوم نجد أطر مثقفة ومع ذلك تعتمد في صناعة القرار واتخاذ المواقف على رابطة القرابة والمصاهرة أكثر من أيّة روابط أخرى لها علاقة بالعمل الجمعوي الحقيقي والميداني.

أما توزيع المال العام لدعم هذه الجمعيات، لا يتم وِفْق معايير موضوعية واضحة، بل يخضع لمعايير أخرى: كالزبونيّة، والمحسوبية، والرّيع، والولاء للسلطات، إضافة إلى أنّ هذه الجمعيات في مأمن عن كل مراقبة، وأنّ ما تحصل عليه هذه الجمعية أو تلك، هو في نهاية الأمر بمثابة مال عام تحوّل إلى مال خاص يتصرف فيه المسؤول بشكل عشوائي وكما يشاؤون، إن هذه الجمعيات هي جمعيات أعيان وشخصيات نافذة تستفيد من الريع والفساد مقابل تطبيلهم لما يريده أولياء نعمتهم، ومقابل عملهم على ترسيخ ثقافة الموالاة والتبعية والخضوع، وأيضا التشويش على الفاعلين الجمعويين الجادين بل والتصدي لهم بالقوة والبلطجة إذا دعت الضرورة. فالمال العام يوزع بطريقة عشوائية وغير شفافة، والجمعيات الجادة التي تشتغل بشكل دائم مع المواطن تتعرض لتضييق والتهمش وللإقصاء. بالمقابل خلقت عدد من الجمعيات في السنوات الأخيرة، وأصبحت في مدة قصيرة تحظى بدعم سخي وغير مبرر، لكنها في الميدان لا تشتغل، ومعظمها في يد منتخبين بهدف الاستفادة من هذا الريع واستخدامه في أعمال ذات منفعة خاصة، أو يشرف عليها أشخاص همهم الاستفادة المادية والاسترزاق من العمل التطوعي، فحسب. بالمقابل نجد العديد من جمعيات المجتمع المدني الجادة تعاني من التهميش في غالب الأحيان، والإقصاء الممنهج والمقصود، وتحييدها من الدعم المالي الذي تمنحه المجالس الترابية المحلية والجهات المانحة الأخرى، بل يذهبون إلى أبعد من ذلك ليتم التعامل مع أغلبها على أساس الانتماء السياسي أو ما يسمى بالتبعية المطلقة لرؤساء المجالس أو للسلطات المحلية أو الإقليمية مما يخرجها عن الأهداف التي وجدت لأجلها، وبالتالي إبعادها عن الهدف التنموي المنشود، وتبتعد معظم الجمعيات عن إطارها الصحيح فتصبح لا تؤسس انطلاقاً من قناعات وأهداف نبيلة بل أصبح ميلادها أو تسييرها تتحكم فيه اعتبارات عديدة تضرب في العمق جوهر العمل الجمعوي كالسعي لتصفية حسابات شخصية وذاتية ضيقة مع رؤساء أو أعضاء جمعيات أخرى لهم نفس الاهتمام أو التضييق على إطارات جادة في الميدان. وغالبا ما يكون التأسيس بإيعاز من جهات تتحكم في توزيع منح أو تخصص في توظيف الإطارات الثقافية لأهداف ذاتية تحت شعار خدمة المجتمع وأصبحت مجموعة من الجمعيات عبارة عن مقاولات تبحث عن الربح المادي للقائمين عليها ومن وراءهم عن طريق توزيع المنح على الأتباع، وتمييع وخنق أي ممارسة جادة وهو ما عكسته «مبادرة التنمية البشرية» بشكل واضح وفاضح فصارت الأمور عكس المأمول، مما يجعل الجمعيات غير المحظوظة أو الجمعيات الجادة تجمد أنشطتها أو تسلك سبلاً غير قانونية لإرضاء أصحاب القرار أو لتوفير موارد مالية تمكنها من الإعلان عن تواجدها وإذا أضفنا إلى كل هذا سلوك بعض المتطفلين على العمل الخيري، والباحثين عن الشهرة والمال وتلميع السُّمعة، فسوف ندرك مستوى الفساد الذي قد يصيب بعض المؤسسات التي تعنى بالعمل الخيري. فقد يصل الأمر بالبعض إلى استعمال النصب والاحتيال على المحسنين (المتبرعين)، إذ ما معنى أن تحصل على مبلغ مادي من الغير وتقدمه إلى المؤسسة الخيرية على أنه من مالك الخاص؟ وما معنى أن تقدم مبلغا كتبرع من شخص ما دون الحرص على أن يثْبت ذلك في وصل استلام لتقديمه للمتبرع كدليل على وصول الهبة إلى أهلها؟ فالسؤال البسيط الذي يتبادر إلى الذهن، هنا، هو: هل قدّم هذا الوسيط المبلغ الحقيقي الذي ساهم به المتبرع؟ ويزداد هذا التساؤل إلحاحاً حين تعلم أشياء غير مشرفة عن شخصية الوسيط.

وحتى لا نتهم بالعدمية أو التعميم المجحف، وإنصافاً للمخلصين من المناضلين في هذه الواجهة (واجهة العمل التطوعي)، فلا بد من الإشارة إلى أنه قد نجد داخل هذه الجمعيات مناضلين شرفاء شعارهم النّزاهة يبذلون قصارى جهودهم لمحاربة هذا النوع من الفساد المتدثر برداء الإحسان، لكن الفشل غالباً ما يكون حليفاً لهم على اعتبار أن الفساد مستشرٍ عمودياً وأفقياً.. أو بعبارة شاملة جامعة: “للفساد رب يحميه”.

وخلاصة القول، أن العمل الجمعوي عمل تطوعي غير ربحي لكن مجموعة من الأشخاص استغلوا هذا العمل النبيل لأهداف شخصية مما جعل الفساد يسيء إلى المؤسسات الجمعوية والخيرية، فاللّهم ألطف بهذا البلد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *