وجهة نظر

جنود “متقاعدون” بين “نوستالجيا” الماضي و”خيبات” الحاضر

في كثير من الأحيان، يكون النبش في الماضي، مجرد إهدار للزمن وضربا من ضربات الشرود والتيهان، في زمن صعب، يكون فيه التمسك بالحاضر، كالرضيع الذي لا يطيق فراق حضن أمه ولو للحظات، ويكون فيـه التطلع إلى المستقبل بكل ما يمكن أن يحمل من آمال وأحلام، أكثر من مـاض ولى وراح، الخوض في تفاصيله، لن يكون إلا هروبا نحو دهاليز التاريخ وارتماء في حضن النوستالجيا.. لكننا اليوم، وبالقدر ما نتطلع إلى المستقبل بعيون مفعمة بالأمل، قد تنسينا آهـات وانكسارات الحاضر، بالقدر ما نسبـح ضد التيار، ونسيـر عكس الطريق، الذي يقودنا في صمت، إلى ما يمكن أن تحمله لنا الحياة الدنيا من قضـاء وقدر، لنوجه البوصلة، نحو “مغاربة” بسطاء جدا، يعيشون في صمت بين زنازن بدون قضبان، تعشش فيها عناكب “الإقصاء” و”التهميش” والنسيان”، تسيطر عليهم – وهم في آخر أنفاس العمر- مشاعر حبلى بالخيبات والآهات، التي تبدو كالنيران الكاسحة، التي لا يخمدها، إلا ما تبقـى في ذكرياتهم المنسيـة، من نوستالجيا تعـود إلى الزمن الجميل.

هم باختصار شديد “جنود” مغاربة “متقاعدون”، البعض منهم كان ينتمي إلى الجيش، والبعض الآخر إلى سلك “القوات المساعدة”، كرسوا حياتهم وأفنوا ربيع شبابهم، دفاعا عن الوطن وحرصا على سلامة وحدته الترابية.. “جنود” مغاربة، قضوا مسارهم المهني في سلك الجندية، مرابطين في الصحراء المغربية منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي إلى “وقف إطلاق النار” بداية التسعينيات (1991)، شاركوا في “حرب الرمال”(1963) وانخرطوا لسنوات طوال في حروب الصحراء في مواجهة “جبهة الوهم” دفاعا عن الوطن، وحفاظا على سلامة ووحدة التراب الوطني، قبل أن تتم إحالتهم على التقاعد نهاية القرن الماضي.

واليوم، منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، يعيش حالة من اليأس والإحباط، في ظل معاشات هزيلة، لا تكفي حتى لمواكبة وتتبع ما لحق بهم من أعطاب جسدية ونفسية، و من أمراض مزمنة من قبيل السكري والضغط والأعصاب والقلب وغيرها، وفي هذا الصدد، شريحة كبيرة منهم، تتقاضى معاشا شهريا بقيمة “ألف” درهما (1000.00درهما)، بعدما كان في حدود “سبعمائة” درهما (700.00درهما)، قبل الرفع من الحد الأدنى للمعاش، وتوضيحا للصورة، هناك حالات لبعض الجنود المنتمين لسلك القوات المساعدة، قضوا مسارهم المهني مرابطين بالصحراء المغربية، ولما تمت إحالتهم على التقاعد، غادروا السكن الوظيفي الذي كانوا يقطنون به ببعض الثكنات، ووجدوا أنفسهم وذويهم، مضطرين لمواجهة تكاليف الكراء وما يرتبط بها من مصاريف الماء والكهرباء، لا يملكون، إلا معاشا، في حالات كثيرة، قد لا يغطي حتى واجبات السومة الكرائية الشهرية، وقد اطلعنا على حالة لمتقاعد من سلك القوات المساعدة، أفنى زهرة عمره مرابطا في الحزام الأمني، في جعبته معاش شهري بقيمة “ألف” درهما (1000.00درهما) ويكتري منزلا بسومة كرائية قدرها “ألف وخمسمائة درهما” (1500.00درهما)، ولحسن حظه، له أبناء يقدمون يد الدعم والمساعدة.

عزاؤهم الوحيد جميعا، ما قدموه للوطن من خدمات وتضحيات جسام، ورغم قساوة الزمن، يتقاسمون مشاهد النوستالجيا وما تركوه في سجل الوطن من آثار الملاحم والبطولات، دفاعا عن الصحراء المغربية من أن تطالها أيادي العابثين والمتربصين .. رغم البؤس والفقر، ورغم التنكر لما أسدوه للوطن من خدمات جليلة، لا زالوا رغم تقدمهم في السن، أوفياء للذكرى والماضي المشرق، يتذكرون ليالي طوال لم تغمض لهم فيها جفون، ويستحضرون سنوات طوال رابطوا فيها على طول الحدود، في واقع صعب لا طير فيه يطير ولا وحش فيه يسير، اختزلت كل تفاصيله في “تشابولا” (البيوتات تحت أرضية) و “السمطة” (الحزام الأمني) و”الرسيون” (نصيبهم من المؤن الغذائية (خبز، حليب، علب سردين، سجائر..))، ولخصت عناوينه الكبرى، في مفردات “الهلع” و”الرعب” و”التوجس” و”الحيطة” و”اليقظة” و”الأهبة” و”الاستعداد”، وبين ثنايا هذه المفردات، ذبل زهر الشباب، و سرقت منهم الحياة، أياما وليالي وسنوات، بعيدا عن الأهل والأحبة والأصدقاء، في يوميات، لم تخل من مشاهد “الشهادة” و “الأعطاب” و”الأنين” و”الآهات” و “الأحزان”..

قد يقول قائل، إن الدفاع عن الوطن “واجب”، و”مسؤولية” لا تقاس براتب أو تعويض أو تحفيز، وهو طرح، لا يمكن الاختلاف أو الجدل بشأنه، لكن في نفس الآن، نؤكد أن هؤلاء الجنود المغاربة الأوفياء للوطن ولمقدسات الأمة، خاصة الذين رابطوا بالصحراء المغربية إلى غاية “وقف إطلاق النار”، يستحقون “التكريم”، وتكريمهم يمر قطعا، عبر الالتفاتة إلى أوضاعهم المعيشية، ليس فقط، لأنهم ناضلوا ورابطوا من أجل الوطن ووحدته الترابية، ولكن أيضا، لأن ما قاموا به من تضحيات جسام، ترتبت عنه مشكلات صحية متعددة المستويات (أمراض مزمنة، أعطاب جسدية ونفسية..)، تزداد تعقيدا في ظل “معاشات” هزيلة لا تراوح مكانها، فرضت وتفرض على الكثير منهم، الاشتغال كأجراء أو كعمال مياومين، سعيا وراء مدخول إضافي يقي حرارة البؤس وقساوة الإقصاء، أما من “خانته الصحة” أو لم يجد “معيلا” من الأبناء، فليس أمامه سوى المزيد من الصبر والتحمل في انتظار “التفاتة” تبدو كسراب في بيداء قاحلة.

إثارتنا لهذا الموضوع، هو “التفاتة” و “تكريم” لكل الجنود المغاربة الذين رابطوا ويرابطون في الحدود في ظروف ليست بالهينة، حفاظا على سلامة الوطن وحرصا على سلامة وحدته الترابية، وهو أيضا، إحساس جارف، تحرك في ذواتنا، لما لامسناه في نفوس بعض الجنود من أقاربنا أو من معارف أصدقائنا، من مواطنة حقة، ومن إعجاب عصي على الفهم والإدراك، بما صنعوه من بطولات وملاحم من أجل الوطن، والكثير منهم، لا زال يحتضن الصور التذكارية و شواهد و ميداليات الشجاعة والبطولة، كما تحتضن الأم رضيعها، يكشفون عنها لأبنائهم و زوارهم ومخاطبيهم، بمشاعر الفخر والاعتزاز، بل أكثر من ذلك، لا يترددون في البوح والحكي والتعبير بعفوية وكبرياء، عما لازال يحضر في عوالمهم من “نوستالجيا”، وهو إحساس، كان كافيا لترصيع قلادة هذا المقال، لإسماع صوت هذه الفئـة من المغاربة الشرفاء والأحرار، الذين لبوا نداء الوطن لسنوات بكل تضحية ونكران للذات، ومن مسؤولية الدولة، الحرص على تكريمهم وإعادة الاعتبار إليهم، والبحث عن السبل الممكنة والمتاحة الكفيلة بالنهوض بأوضاعهم المادية والمعنوية، خاصة وأن أغلبهم تجاوز عقده السابع.

وهي فرصة للترحم على الشهداء الذين قضوا دفاعا عن الوطن ووحدته الترابية، أما من لازال على قيد الحياة، فنرى أن اللحظة، تقتضي “الالتفاتة” و “التكريم” و “رد الاعتبار”، في إطار “رؤية شمولية” من شأنها النهوض بأوضاع الجنود الذين رابطوا بالصحراء المغربية لسنوات طوال وأرامل الشهداء..و بقدماء المقاومة وأعضاء جيش التحرير، ففي تكريمهم، تكريم للمواطنة الحقة وتكريم لقيم التضحية والوفاء والصمود ونكران الذات، وتكريم لكل من يبني الوطن ويدافع عن ثوابت الأمة ..ونختم، بتحية كل المواطنين الشرفاء والنزهاء، الذين لا يدخرون جهدا، من أجل رفع قواعد ولبنات “المغرب الممكن” بمحبة ونبل ورقي وسخاء ووفـــاء، في مرحلة مفصلية، تفرض منا التعبئة الجماعية وتجاوز مفردات “الخلاف” و”القلاقل” و”النعرات”، وتدعيم “العروة الوثقى التي لا انفصام لها” بين “العرش” و”الشعب”، باعتبارها قوتنا الدافعة، لكسب ما نتوق إليه من رهانات، وما قد يواجهنا من تحديات آنية ومستقبلية..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *