وجهة نظر

“مؤسسة أرشيف المغرب” بين “واقع المركزية” و”رهان الجهوية”

تنفيذا لتوصيات “هيئة الإنصاف والمصالحة” تم إصدار القانون رقم 69.99 المتعلق بالأرشيف (30 نونبر 2007) مما شكل نقلة نوعية من الدولة، في اتجاه إرساء لبنات دولة الحق والقانون والمؤسسات والحريات، وبموجب المادة 26 من نفس القانون، أحدثت “مؤسسة أرشيف المغرب” كمؤسسة عمومية تتمتع بالشخصية المعنية والاستقلال المالي والإداري، والتي تفضل صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله، بتعيين مدير على رأسها بتاريخ 30 مارس 2011 في شخص الأستاذ “جامع بيضا” (أستاذ جامعي، باحث في التاريخ لمدة حوالي 30 سنة)، وهي مؤسسة حدد مقرها بالرباط العاصمة، وأنيط بها أساسا “مهمة صيانة تراث الأرشيف الوطني والقيام بتكوين أرشيف عامة وحفظها وتنظيمها، وتيسير الاطلاع عليها لأغراض إدارية أو علمية أو اجتماعية أو ثقافية”، وهي مهمة تمكنها من ممارسة اختصاصات متعددة المستويات، تطرقت إليها بإسهاب مقتضيات المادة 27.

لكن حصر المشرع الأرشيفي مقر “مؤسسة أرشيف المغرب” في الرباط، نراه اتجاها نحو تكريس “المركزية الأرشيفية”، بخلاف التوجه العام للدولة الذي يسير في اتجاه إرساء رافعات الجهوية المتقدمة لتخفيف الضغط على المركز، بما يضمن “جهوية القرار” وتكريس سياسة “القرب من المواطن” وإعطاء دفعة ونفس جديد للتنمية الاجتماعية والمجالية، وهذا الخيار الجهوي الذي يعد خيارا استراتيجيا للدولة، تعكسه الدينامية التشريعية التي شهدها المغرب خلال السنوات الأخيرة، والتي استهدفت تنزيل ورش الجهوية المتقدمة، ونخص بالذكر سن “القانون التنظيمي المتعلق بالجهات” وإصدار “الميثاق الوطني لللاتمركز الإداري”، وفي هذا المستوى من النقاش، نؤكد أن “مركزة” أرشيف المغرب بالرباط العاصمة، له تداعيات آنية ومستقبلية متعددة المستويات، نعرض بعضها على النحو التالي :

– إثقال كاهل “مؤسسة أرشيف المغرب” بالأرشيفات النهائية القادمة من مختلف ربوع المغرب.

– تكديس “الأرشيف العمومي” في جهة واحدة (مؤسسة أرشيف المغرب) له تداعيات أمنية مرتبطة بشروط الأمن والسلامة. (حريق، فيضانات ..)، وحشره بنفس المكان، هو مجازفة بثروة لامادية، تبقى مهددة بشكل مستدام بخطر الحوادث الفجائية.

– حصر “الأرشيف العمومي” في الرباط، هو ضربة لمبدأ “سياسة القرب” من المواطن، إذ من غير المقبول ومن غير المنطقي، أن يشد مواطن أو باحث، الرحال من العيون أو أكادير أو مراكش أو طنجة إلى الرباط، من أجل البحث عن “المعلومة” أو “الاطلاع عليها”، وهذا قد يجرد “الأرشيف” من قيمته، كآلية من آليات فرض “الرقابة” على ما يمارس من سياسات عمومية وما يصنع من قرارات إدارية.

– قيمة “الأرشيف العمومي” فيما يتيحه من إمكانيات في “الاطلاع على المعلومة”، وقيمة هذا الحق الدستوري، رهينة بتقريب “الأرشيف” من المواطنات والمواطنين.

– حصر “الأرشيف العمومي” في “مؤسسىة أرشيف المغرب”، قد لا يخلو من صعوبات عملية وموضوعية، في ظل ضعف الحصيص الذي تعاني منه “المؤسسة” (الموارد البشرية) ومحدودية الإمكانيات المادية والوسائل اللوجستية، وهذا من شأنه أن يعيق سيرورة العمل وتعطيل بعض مقتضيات القانون الأرشيفي، التي تفرض التنقل المستدام عبر التراب الوطني، لتتبع الشأن الأرشيفي والتثبت من مدى الالتزام بأحكام القانون.

– مركزية “الشأن الأرشيفي” من شأنها أن تعطل إجراء قانونيا محوريا، ويتعلق الأمر بمعاينة أحكام ومقتضيات قانون الأرشيف والنصوص الصادرة لتطبيقه، وهي معاينة، تفرض التحرك في الميدان، والقيام بزيارات مفاجئة للمصالح الإدارية في إطار البعدين “الوقائي” و”الزجري”، وهي مهمة يصعب – على الأقل في الوقت الحاضر- القيام بها.

بناء على ما سلف، وانسجاما مع خيار الجهوية المتقدمة التي باتت خيارا استراتيجيا لارجعة فيه للدولة ، واستحضارا للعوائق والمشكلات الموضوعية التي تمت الإشارة إلى بعضها سلفا، والتي إما ترتبط بأمن وسلامة “الأرشيف العمومي”، أو بالمساس بالحق في المعلومة، أو بمحدودية تنفيذ مقتضيات وأحكام القانون الأرشيفي، نرى أنه، آن الأوان لوضع “مؤسسة أرشيف المغرب” تحت “مجهر الجهوية المتقدمة”، بشكل يسمح بفتح نقاشات رصينة ومسؤولة، قادرة على بلورة “سياسة أرشيفية جهوية”، لثلاثة اعتبارات جوهرية : أولها: تخفيف الضغط على “مؤسسة أرشيف المغرب” التي لا يمكن من الناحية العملية أن تحتضن كل أرشيف المغرب، ثانيها: تكريس “سياسة القرب” من المواطن، بشكل يضمن “الحق في المعلومة”، وثالثها: تثمين التراث الهوياتي الجهوي، الذي كلما انتشل من “البيئة الحاضنة” له، كلما فقد “الأصالة” و “الهوية”، دون إغفال، أن “المعلومة” لا يمكن فصلها أو عزلها قسرا عن “محيطها” أو “بيئتها”، وإلا فقدت قدرتها “التأثيرية”، ونختم بالقول، إن المرحلة، تقتضي خلق “مراكز جهوية للأرشيف” تباشر مهامها واختصاصاتها تحت وصاية وإشراف “مؤسسة أرشيف المغرب”، ومراكز من هذا القبيل، من شأنها، أن تقترب من المواطن وتثمن الأرشيف الجهوي، وأكثر من هذا وذاك، ستتيــح إمكانية سانحة، للتنزيل الأمثل لمقتضيات وأحكام القانون الأرشيفي، الذي تنقصه “الروح الجهوية”.. وهذا يقتضي التعجيل بالتعديل، حتى لا يتم الإبحار ضد “التيار” (الجهوية المتقدمة)، وفي انتظار إصلاح من هذا القبيل، ستظل “مؤسسة أرشيف المغرب “بالرباط، رهينة واقع “المركزية”، أما “رهان الجهوية” فسيبقى معلقا إلى أجل “غير مسمى” ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *