وجهة نظر

الكتاب المدرسي في خدمة الأيديولوجية الرسمية

انه اول ما يتبادر الى الذهن عند الحديث عن “المدرسة” ، فقد اصبح مركزيا داخل الفصول الدراسية و في مستوياتها المختلفة، حتى صار من المستحيل ان نتعلم بدونه. في كل سنة، و عبر ربوع العالم ، تقف ملايين الأسر في طوابير لاقتنائه. من يكن ؟ انه الكتاب المدرسي، تلك البضاعة التي غالبا نجهل مصدرها، و نقلل من سلطتها على الأجيال.
ظهر الكتاب المدرسي في صورته التي نعرفها اليوم، مع بداية القرن العشرين، حين بدأت الدول الاوروبية تتهيأ لتكوين الاجيال الجديدة عن طريق المدرسة .

قبل هذا العهد ، لم تكن الكتب المختصة في التعلم مصممة و معدة للقيام بذلك الدور. و “المواطنون ” لم يكونوا مكونين على مقاعد المدرسة بل على دكة الكنائس.

وعلى سجاد الجوامع و حصير ” المسيد ” هنا . الواح خشبية و صمغ مع دواة و قلم من قصب ،هذه الادوات البسيطة هي من فتحت اعين الاجيال الاولى على عالم القراءة و الكتابة .

لم يكن ذلك صدفة : بل ظل ” المسيد “،و عبر قرون، يمثل الوسيلة المهيمنة ،بل الوحيدة تقريبا ،في عالمنا الاسلامي ، لتعليم الكتابة و القراءة بشكلها المبسط و التقليدي، الى جانب تعليم الاطفال مبادئ و اخلاق دينهم .

نفس الدور كانت تلعبه الكنيسة و التعليم الشفهي في اوروبا، حيث ساهمت و على مدى قرون، في تخريج افواج من “المسيحيين المؤمنين ” .حتى جاء الكتاب المدرسي ،و بدأ يفرض نفسه ببطيء . و توغل في الطبقات الاجتماعية المختلفة بشكل واسع مع اقرار التعليم الاجباري، و بداية وضع وبلورة مقررات دراسية مفصلة ومضبوطة.

وجود الكتاب المدرسي كما نعرفه اليوم ،استوجب مجموعة من الشروط لم تكن متوفرة من ذي قبل : من مدارس تعطي تعليما موحدا،(التعليم المتزامن)، ومقررات ومحتويات دراسية مجزأة الى مواد مستقلة، و توفر كل طالب على كتاب خاص به.

ما كنا نحتاج اليه بالفعل، هي رؤية جديدة عن المدرسة .كان من اللازم انتظار تلك اللحظة التي وضعت “الدولة ” ثقتها في المدرسة، و من بعدها الرأي العام، كي تسند اليها مهمة نقل المبادئ و المثل العليا ،الى الاجيال الناشئة. ما اضفى عليها مهمة شبه مقدسة. حينها اصبحت التربية اجبارية، بعد ان ظلت لمدة طويلة مجرد حق من حقوق المواطن، – قد لا يناله- وحكرا على طبقات اجتماعية محددة. وهكذا امست تستأثر باهتمام بالغ من طرف الدولة و الطبقات الحاكمة. هذه الاخيرة فطنت بسرعة الى الدور الهام للكتاب المدرسي في نقل “القيم” ،التي تلقنها المدرسة. ماا يفسر حرص الدولة على اخضاع هذا الكتاب لتوجيهاتها. ووضعه تحت وصايتها و تكييف محتوياته لصالحها، بمنعه احيانا ، و بالإشراف التام على انتاجه دائما .

واليوم كما البارحة ، تخضع الكتب المدرسية لعملية “انتقاء” محتوياتها ، في بعض المواد تحديدا، مثل التاريخ و الجغرافيا ،و العلوم الانسانية بشكل عام. هذا الانتقاء يتم وفق مصالح الطبقة السياسية الحاكمة… يمكن ان نسرد هنا ان تاريخ المغرب كان يتغير وفق المرحلة السياسية ،و كيف ان محتويات مادة” الفلسفة” كيفت وفق مراحل و مصالح الدولة…

هناك بالطبع المئات من الامثلة التي تبين تأثير السياسة في الكتاب المدرسي، وعلى امتداد دول العالم. هكذا و بمجرد القاء نظرة و لو خاطفة على كتب تلاميذ روسيا و امريكا مثلا، نكون فكرة مختلفة عن مجريات الحرب العالمية الثانية. معسكر الاتحاد السوفياتي يبرز دور الجيش الاحمر في تحرير اوروبا من النازية، بينما تبرز دول المعسكر الغربي دور الولايات المتحدة الامريكية في تلك الحرب…

سنكون مخطئين اذا اعتبرنا ان هذا الاختلاف في تقديم حدث واحد ،مجرد مخلفات الحرب الباردة، و انها ستزول مع مرور الوقت…يتعلق الامر هنا بقراءتين مختلفين تحتملان الصواب ،و منحازتين في نفس الوقت .و هما منقوشتين في اذهان القادة السياسيين و الموظفين الكبار في كلا الجانبين…

من جانب اخر، اذا استحضرنا ان 38% تقريبا من “المغاربة”- حسب الاحصائيات الرسمية في هذا المجال- يغادرون المدرسة قبل استيفائهم السن الاجبارية للتعليم (السنة التاسعة من التعليم الاساسي )، فان معارف النسبة المتبقية ، أي لأكثر من ثلاثة اشخاص على خمسة ، المتعلقة بالعالم وبتاريخ البلاد و التاريخ العالمي ومعلوماتهم حول الجغرافيا ومفهوم الدولة و كيفية اشتغالها … الخ، كل هذه المعارف و المعلومات تعتمد على ما تلقوه من خلال الكتب المدرسية. و تكملها بشكل مشوه ،وسائل الاعلام و الانترنيت و المحادثات العائلية. بل ان بعض الاستطلاعات و لو انها ليست دقيقة تبين ما هو اهول من ذلك ٪ 88 من الاسر المغربية لا تملك من المراجع الا الكتب المدرسية. (دراسة موضوع نيل دبلوم الاجازة انجزت من طرف طلبة بكلية الآداب و العلوم الانسانية ، ابن زهر باكادير)…

يمكن ان نجزم ان المدرسة و الكتب المدرسية ، تلعب دورها بشكل جيد . بما انها المصدر الاساسي و الأوحد للثقافة و التعلم الاساس. لكن بالمقابل نجد ان تكوينا

من هذا النوع يواجه تحديين كبيرين :

_ الاول يتعلق بكون كل ما يتم تعلمه في المدرسة هو عرضة لنسيان سريع .
و ينتج عن ذلك ما يصطلح عليه ب “الامية الراجعة” (لا يعلم بعد علم شيئا…).

الثاني : هذا النوع من التعلم (التعليم المدرسي ) يبلور معارف جزئية واحكام مسبقة و خرافات و حقائق مقلوبة …من الصعب تجاوزها او محوها .

ان اجود الكتب المدرسية صياغة ، تجده مختصرا و مركزا. و هذا في حد ذاته اكبر عيب يلازمه. لكنه يعتبر في نفس الوقت- في عيون المهتمين بالمدرسة -اهم خاصية يتميز بها الكتاب المدرسي.

ان ما جعل السياسيين و معهم البيداغوجيين و الناشرين ، يهتمون بالكتاب المدرسي ، هي ارتفاع وتيرة تعميم التعليم و اجباريته .(مع توحيده طبعا).ففي الوقت الدي انصبت فيه اهتمامات “المثقفين” و” الاساتذة” على تلبية الحاجيات الديداكتيكية” للمعلمين” و “التلاميذ” بتجريب طرق و وسائل تعليمية جديدة ،نجد الدولة تفرغت الى اعداد مقررات و مناهج تنسجم و المواطن الذي تراه “صالحا” لها. و طبيعة “الفرد” -المواطن- الذي ترغب في انتاجه .كما تشرف كليا على غربلة وتمحيص الكتب المعدة للبيع حتى يتسنى لها حجب كل محتوى تراه “خطرا” او غير مطابق” للتوجيهات الرسمية” .

ولنا في الانظمة الشاملة و غير الديموقراطية نموذجا صارخا. حيث تشرف الدولة على توحيد المضامين و مراقبتها مراقبة صارمة و هي من تتولى طبعها و توزيعها. الناشرون من جهتهم يستغلون الفرص المادية الهائلة التي يمتاز بها سوق الكتاب المدرسي ،سوق لا ينضب نظريا، له شروط جد دقيقة، لكنها في الاخير سهلة المنال .

الكتب المدرسية تمثل بذلك مواد استهلاكية ذات مدة صلاحية بالكاد اطول من محتويات مقلمة. تستعمل لمدة سنة واحدة او اكثر بقليل . يتم تجديدها باستمرار، تعتبر غير ذات قيمة كي نحافظ عليها، او تتعاطى معها بحذر و لطف كما هو الشأن بالنسبة للكتب الاخرى، كالروايات او المؤلفات الاخرى مثلا التي قد تباع لأكثر من مرة.

فعملية الطبع التي تتم كل سنة دونما حاجة الى ذلك .اضافة الى الكراسات التي تنجز بها التمارين كتابيا، لا تتيح اعادة البيع و اعادة استغلالها. بل نجد الدولة تتكلف بشراء و توزيع المقررات في السنوات الاخيرة .و هو ما يشكل شيكا على بياض لدور النشر تحت مسميات مختلفة ، لكنها في صالح الناشرين دائما .

ان الكتب المدرسية عرفت تحولات كبيرة في مجال البيع و الانتاج . في الماضي كانت الكتب تتوارثها الاجيال و تبقى في المكتبات لأكثر من مواسم دراسي ، حتى تعود غير صالحة من شدة استعمالها . بالإضافة الى كونها غير مكلفة لدور الطباعة . كما لم تكن معقدة من الناحية التقنية كباقي الكتب الاخرى(و بساطتها تلك جعلتها قريبة من المتعلمين).

كل هذا يفسر الى حد ما ،كون تاريخ الكتاب المدرسي لا يمكن عزله عن تاريخ دور النشر المتخصصة فيه…

ابتداء من سنوات 1840 و 1850 ، بدأت تظهر في اوروبا دور نشر متخصصة في هذا النوع من الكتب . مع مشاريع مهمة في المجال الثقافي و البيداغوجي و احيانا السياسي . هكذا ظهر : الناشر المدرسي ذو توجه مقاولاتي محظ : وواعد في مبادرات ثقافية و يحمل طموحا كبيرا و قيمة تربوية عالية. ساهمت هذه الدور في نسج علاقات متميزة بين متعاونين مرموقين، بيداغوجيين مشهورين، اساتذة مختصين في انتاج نصوص و كتب تعليمية ،و كذلك – خاصة- لوبيات مؤثرة، كجمعيات مهنية و مدارس عليا. و اصبح انتاج و نشر الكتاب المدرسي ،الى جانب نشرات خاصة بالأساتذة و صويرات و ملصقات حائطية وتنظيم ندوات ثقافية …الخ اختصاص هذه الدور.

و عليه، وحتى يتم مواجهة منافسة شرسة متنامية من طرف شركات اخرى، نسجت دور النشر المؤثرة ،علاقات وطيدة و “مدعمة” ،و احيانا بطرق مريبة مع الدولة . حتى تظفر بالصفقات الحكومية و حتى يتم اخبارها بشكل مسبق بكل التوجيهات الوزارية في هذا الصدد. و خاصة المتعلقة بالبرامج و المقررات.

و هكذا احتكرت سوق طباعة و تسويق المنتوجات المدرسية ،و تبوأت مكانة الصدارة في “انتاج” الكتاب المدرسي (محليا).

هذا القطاع الذي ظل الى اجل قريب مصدر ربح مضمون لكل من يتعاطى له، أصبح بحكم المنافسة و الاحتكار(…) يعرف تراجعا نسبيا لعدد كبير من المشتغلين فيه. و تم استبعاد صغار المؤسسات و المقاولات التي وجدت نفسها غير قادرة على مواكبة هذه المنافسة.

حاليا ،اصبحنا نرى ميلاد مجموعات كبيرة من الناشرين، تضم عدة دور نشر متخصصة في الكتاب المدرسي، ابتلعت دور نشر التقليدية و التاريخية، التي لم تسطع الصمود امامها.

هذه السوق المتنامية ، اصبحت تفتح شهية كبار المستثمرين: اكثر من 18 مليون كتاب يتم بيعها في المغرب سنويا( 35 مليون في فرنسا على سبيل الذكر). مما يحقق رقم معاملات يصل الى 900 مليون درهم. و بدأت تظهر الى جانب هذا كله، استراتيجيات موازية ،كلجوء المغرب الى دور نشر اوروبية لطبع بعض كتبه المدرسية). بعض هذه الدور مراقبة من طرف شركات مالية كبيرة لها علاقات مع مؤسسات استثمارية «وطنية”.(هولدينغ).

يتعلق الامر هنا بمرحلة متقدمة من عولمة “الكتاب المدرسي ” التي تواكب عولمة “المدرسة” عموما. هذه السيرورة التي ابتدأت مع الاستعمار الامبريالي ،حيث فرض على الدولة المستعمرة طرائق ديداكتيكية و تكوينا بيداغوجيا على النموذج الغربي .

ظلت الدول الاستعمارية لعدة قرون، تصدر الى جانب “ادبها” ،نصوصا دراسية و كتبا تعليمية ، مطبوعة في دور نشر تابعة لها، و كذلك الشأن بعد الاستقلال ،غير انها تتم تحت مسميات محلية .لكن مع ذلك تبقى عدة اسئلة معلقة ،و رغم كونها استعجالية وملحة، الا انها تبقى في الان نفسه مهملة ومعرضة للنسيان .و تهم مستقبل الانسانية . يتعلق الامر ب:الغاية من الكتب التربوية.

شأنها شان الانظمة التربوية : الجميع يركز اهتمامه على الجوانب التقنية ،كمدى مواءمتها للتوجيهات الوزارية ،مدى تضمنها للحوامل الديداكتيكية و المتعددة الوسائط، الاثمنة…الخ و لا احد يكترث لنموذج الانسان المواطن الذي تسعى المدرسة الى تكوينه.

ما يفسر الى حد بعيد، كون هذه الكراسات المدرسية في اخر المطاف، عاجزة عن لعب الدور الرئيسي و المحوري للتعليم. هذا الدور الذي يجب على الدولة و المجتمع ان ينتبها اليه بجدية: تكوين المواطن !!

* طالب باحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *