وجهة نظر

الأنثروبولوجية الاقتصادية: مدخل إلى التحرر من الامبريالية المتوحشة

إذا كانت الأنثروبولوجيا علم يهتم بدراسة الإنسان في بعديه الطبيعي والثقافي عن طريق تحليل وتفسير المؤسسات الاجتماعية والإنتاجات الثقافية ومنظومة القيم والأعراف والتقاليد والمعتقدات وكل النظم السائدة بالمجتمعات، فإن الأنثروبولوجيا الاقتصادية، باعتبارها فرعا من فروع الأنثروبولوجيا وتقاطعا بين ميداني علم الاقتصاد والأنثروبولوجيا، قد تعد نتاجا لتفاعلات الثقافات الإنسانية والعمليات الاقتصادية والمكونات الطبيعية لمجتمع معين، حيث تقوم على دراسة الظواهر الاقتصادية في المجتمعات المعاصرة والمجتمعات المسماة “بدائية” من أجل التعرف على الجانب الثقافي المرتبط بالظاهرة الاقتصادية، من خلال استعمال المقاربة سوسيو-أنثروبولوجية، وذلك من أجل فهم الظاهرة الاقتصادية المرتبطة بالإنتاج والتنظيم والتوزيع والمساهمة في حل المشاكل المتعلقة بها.

إذن ما أهمية الأنثروبولوجيا الاقتصادية؟ وماهي المواضيع التي تهتم بدراستها؟ وما مساهمة روادها في تكوين نظرة حول الكون وفهمه؟ أي كيف تقربنا دراستهم إلى فهم اقتصاد المجتمعات الإنسانية عامة والبدائية خاصة؟ وكيف تساعد المسؤولين الاقتصاديين على وضع خطط مستقبلية للتنمية؟

من أجل الإجابة عن هذه التساؤلات سنحاول تسليط الضوء على موضوع الأنثروبولوجية الاقتصادية:

تتناول الأنثروبولوجيا الظاهرة الاقتصادية خارج أنماط العقلانية الاقتصادية الغربية وخارج قواعد الاقتصاد السياسي التي تأسست مع أدم سميث Adam SMITH، المبنية على مفاهيم رأسمالية تقوم على مبادئ اقتصاد السوق في تحديده للاقتصاد، والتي تقصي المجتمعات الموصومة ب “البدائية” من دائرة الحقل الاقتصادي، حيث اعتبرت هذه المجتمعات أنها غير اقتصادية، فهي لا تعرف إلا اقتصاد المعاش والكفاف، وتوصف هذه المجتمعات البدائية بأنها لا تنتج إلا ما تحتاجه، ولا وجود لمظاهر اقتصاد السوق ولا لفائض القيمة، وتغيب العملة والرأسمال والتبادل النقدي الاقتصادي.

ستعرف هذه النظرة الاختزالية للظاهرة الاقتصادية تغيرا جذريا مع فرانز بواز Franz BOAS ومع مالينوفسكي MALINOWSKI وأمثالهما الذين أعلنوا القطيعة، منذ البداية، مع الأنثروبولوجيا الاستعمارية، وانخرطوا في كنف الأنثروبولوجيا الاقتصادية، وجعلوها علما للتحرر، من خلال إبراز آليات الاستغلال لشعوب المستعمرات ونتائجها السلبية، وكذلك من خلال الكشف عن آليات الهيمنة الرأسمالية التي تتخذ من النزعة الإمبريالية كمظهر لها.

خلال دراسته للبوتلاتش Potlatch لدى قبائل كواكيوتل Kwakiutl “هنود الساحل الشمالي الغربي لأمريكا”، سنة 1822، أبرز فرانز بواز Franz BOAS ظاهرة “صراع الثروة في صلب العملية الاقتصادية”، وقد عبر عنها ب “صراع السخاء” «Lutte de la générosité»، إذ أن القوي هو الذي يستطيع منح أكبر قدر من الثروة، وفي تنافس حاد يصبح فيه العرض موضع رهان داخل المجتمع، وتقام حفلات البوتلاتش عامة في عدة مناسبات كالدفن، والتوريث، والزواج والانتقال إلى مكانة جديدة في إطار ما يسمى بطقوس العبور «Les rites de passage»على حد تعبير فان كنيب «Van Gennep»، تقام هذه الطقوس أيضا عند وجود صراعات بين الأفراد أو الجماعات تعبيرا عن التحدي في فعل العطاء، كما تزداد حدة أثناء اتفاقيات السلم.

أما برونيسلاو مالينوفسكي Bronislaw Malinowski، فقد عمل على دراسة نظام التبادل المسمى كولا Kula، لدى قبائل الأرغنوت Argonautes، في جزر تروبرياند Trobriand، شمال شرق غينيا الجديدة، حيث يقوم رؤساء القرى بعملية تبادل القلائد والأصداف والحلي بين مجموعات أو بين جزر متباعدة، هذا التبادل له قيمة رمزية واجتماعية أكثر من قيمته المادية والنفعية الاقتصادية، ويقوم هذا النظام على مراسيم احتفالية وطقوسية بين الجماعات بطرق سلمية خاضعة لمبدأ التباهي والحصول على الجاه الاجتماعي بدل المنفعة المالية الاقتصادية.

مع هذين النظامين الاقتصاديين، البوتلاتش والكولا، لا يمكن اختزال اقتصاد المجتمعات البدائية في اقتصاد طبيعي يعتمد على الكفاف والمعاش، بل إنه اقتصاد يعرف التبادل في إطار التنافس الاجتماعي من أجل احتلال مكانة رمزية في هرم التراتب الاجتماعي والتمتع برأسمال لامادي أو رمزي. ومن خلال الأنثروبولوجية الاقتصادية لم يعد من المقبول حصر الظواهر الاقتصادية في المجتمعات على ما هو اقتصادي محظ، بل يجب الأخذ بعين الاعتبار تدخل القرابة والدين والمعتقدات والأعراف والتقاليد في الاقتصاد، ويمكن تقسيم الأنشطة الاقتصادية في المجتمعات المسماة “البدائية” إلى أنشطة معاشية وأخرى اجتماعية ترتبط بالهبة والتفاخر والتميز «le prestige» التي تبني وتنتج وتعيد إنتاج السلطة السياسية والرمزية والاجتماعية عن طريق تبوء مكانة خاصة في تراتبية السلم الاجتماعي. فالتدمير التفاخري للثروة من أجل التباهي والتميز لا يمكن أن يختزل في ظاهرة الإسراف والضياع والهدر كما ينظر له الاقتصاد العقلاني الرأسمالي، وإنما له حمولة ثقافية واجتماعية وسياسية.

كما أن كارل بولاني Karl POLANYI، من بين أبرز المؤسسين للأنثروبولوجيا الاقتصادية، اعتبر أن كل نظام اقتصادي يجد جدوره في سياقه الثقافي الخاص، فهو وليد العلاقات الاجتماعية والتمثلات الخاصة للمجتمع، وعمل على استخلاص الآليات الأساسية التي تتحكم في اقتصاد المجتمعات الغير رأسمالية والتي تقوم على المبادلة والتبادل والتوزيع «La réciprocité, l’échange et la redistribution»، فيضع بذلك قطيعة مع نظرية اقتصاد السوق القائمة على الإنتاج والتبادل للسلع حسب قانون العرض والطلب. وفي تعريفه للسلع يرى كارل بولاني أنها هي تلك الأشياء التي أُنتجت لبيعها في السوق، حيث يميز بين سلع حقيقية وأخرى مزيفة، إذ أن المفهوم الاقتصادي للسوق وخاصة ذات التنظيم الذاتي هو الذي حول الإنسان والطبيعة إلى مجرد سلع زائفة والتي تؤدي إلى تهديم كل من المجتمع والبيئة الطبيعية.

وبحث موريس كودوليي Maurice GODOLIER، في العلاقة بين البنية التحتية والبنية الفوقية وبين الاقتصاد والقرابة في غينيا الجديدة سنة 1965، حيث اهتم بعلاقة السلطة الذكورية، في مجتمع البارويا Baruya، حيث يعرف هذا المجتمع تقسيما للعمل على أساس الجنس، مع تحقير عمل المرأة التي تعد عنصرا هامشيا في الاقتصاد والسياسة والإيديولوجيا، وتهدف هذه الدراسة إلى فهم علاقة الاستغلال بين الرجل والمرأة من منطلق طبقي في كتابه “إنتاج الرجال الكبار” «La production des grand hommes»، حيث يعرف هذا المجتمع هيمنة مادية ورمزية للرجل على المرأة التي تعرف اقصاء تام من امتلاك الأراضي والخيرات رغم أنها هي التي تشتغل مستخلصا بذلك أن ما يحدد العلاقات الاجتماعية ليس الاقتصاد ولكن الهيمنة الذكورية والعلاقة بين الرجل والمرأة، وأن الدين والسياسة يشكلان أسس المجتمعات الإنسانية. وبهذه الدراسة استطاع كودوليي أن يساهم في تأسيس علم الأنثروبولوجيا الاقتصادية من ناحية المواضيع والمناهج.

وقد أبرز مارشال سالانسMaréchal SAHLINS، في كتابه “العصر الحجري عصر الوفرة”، أن المجتمعات البدائية هي مجتمعات الوفرة الاقتصادية، حيث أن مفهوم العمل لم يكن قائما، كانت وسائل الإنتاج التي استعملها الإنسان البدائي مكيفة مع حاجياته اليومية البسيطة من الاستهلاك ويستطيع تلبيتها بسهولة. ويبرز أيضا بأن المجتمعات البدائية لم تعرف ظاهرة الفقر إلا باحتكاكها مع الغرب ومع المجتمعات الرأسمالية التي ولدت لديها حاجات ليس بإمكان اقتصادها المحلي البسيط إنتاجها وتلبيتها. فالإنسان البدائي، حسب سالانس، كان انسانا اجتماعيا وليس كائنا اقتصاديا، فقيمته الاجتماعية مستمدة من الطبيعة وليست رهينة لإنتاجه وعمله.

وعمل مارسيل موس Marcil MAUSS في كتابه “بحث في الهبة، شكل التبادل وعلته في المجتمعات القديمة” «Essai sur le don, forme et raison de l’échange dans les sociétés archaïques»، على تحليل مؤسسة البوتلاتش والكولا، وأساليب التبادل الاقتصادي بصفة عامة معتبرا إياها وقائع اجتماعية عامة، حيث أن ميدان الاقتصاد في هذه المجتمعات مرتبط بالميادين الثقافية والاجتماعية والسياسية، وأنه لا يتمتع بالاستقلالية إلا مع اقتصاد السوق. وفي دراسته للهبة التي تختلف عن الصدقة في عملية الرد وعدمه، وحيث أن الهبة تتأسس على ثلاث قواعد أساسية هي العطاء وقبول العطاء والرد عليه، كشف من خلالها على البعد الخفي للتضامن والتكافل والمساعدة بين الأفراد والجماعات، حيث أن هناك صراعا رمزيا بين الأفراد والجماعات فيمن يستطيع تقديم الأكثر للآخر، وهي تعد مواجهة مفتوحة ذات بعد خفي ولغة صامتة تتم عبر تبادل الهدايا والهبات، فتنتج الهبة بذلك علاقات اجتماعية تتجاوز ما هو اقتصادي.

لفهم الاقتصاد من وجهة نظر الأنثروبولوجيا يجب إعادة تحديد مفهوم الاقتصاد بما يتناسب مع المجتمعات الغير رأسمالية ولا تخضع لمنطق اقتصاد السوق، حيث يمكن اعتبار المجتمعات العربية وخاصة مجتمعات المجال القروي من بين التي ورثت ثقافات وتقاليد وأعراف اقتصادية تتنافى وتتعارض مع منطق اقتصاد السوق بنظامه الرأسمالي، وهي حاضرة بقوة في إطار نوع من التبذير والتفاخر في مناسبات مثل الزفاف أو ولائم كبيرة يقوم فيها الأعيان والأثرياء بصرف أموال كثيرة بسخاء كبير، من أجل التباهي في المجتمع، همهم هو إظهار التمايز الاجتماعي ورفع التحدي في وجه منافسين محتملين، أو فيمن يضاهيهم في عرض الولائم والأثاث والمظاهر الخارجية لإظهار الثروة والسخاء، في المقابل يعد اختزان المال والشح والبخل في اسرافه كقيمة سلبية ويجعل صاحبه محط سخرية.

يتم حرق الرأسمال المادي لكسب الرأسمال الرمزي والاجتماعي، حيث أن المال وحده لا يخلق الجاه والقيمة لصاحبه، بقدر ما يمنح العطاء والكرم والسخاء قيما اجتماعية رمزية تقوم بصناعة الجاه والنخب في المجتمعات القروية التقليدية، أما في المجتمعات الحضرية الحديثة فأصبح يبالغ فيها من أجل صناعة الشهرة ورفع التحدي تجاه المنافسين الذين ينتمون لنفس الميدان. في ظل هذا التبذير الكبير على الولائم والاحتفالات والسعي نحو الشهرة والنخبوية، تبقى أغلب الدول العربية في أسفل لائحة الترتيب للنمو الاقتصادي والاجتماعي، رغم غناها الطبيعي وامتلاكها للمواد الأولية، فمن الصعب لاقتصاد الدول العربية أن يلحق بركب الدول الغربية المتقدمة التي تعتمد على الاقتصاد العقلاني ضمن منطق اقتصاد السوق.

تدرس الأنثروبولوجيا موضوع الاقتصاد في المجتمعات التي تنعت بالبدائية باعتباره ظاهرة اجتماعية مرتبطة بالثقافة والدين والسياسة والأعراف والتقاليد والاعتقادات، بعيدة كل البعد عن منطق اقتصاد السوق الذي يعد أساس النظام الرأسمالي والليبرالية المتوحشة، الذي يوجد في قفص الاتهام من طرف رواد الأنثروبولوجيا الاقتصادية على أن النظام الرأسمالي هو سبب تعاسة الشعوب البدائية. فقد عملت الليبرالية المتوحشة على استعمار الشعوب التي تعتبر بدائية بدريعة تحضيرها، ولكنها ورثتها الفقر عن طريق خلق حاجيات ليس بإمكان الاقتصاد المحلي تلبيتها. من هذا المفهوم، هل يمكن اعتبار الأنثروبولوجيا الاقتصادية علما ذو نزعة رومانسية؟

* طالب باحث في علم الاجتماع، ماستر سوسيولوجيا المجالات القروية والتنمية بفاس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *