وجهة نظر

قراءة في القانون المنظم لأرشيف المغرب

توطئة:
عقب حصوله على الاستقلال (1956)، دخل المغرب المستقل، في معركة الانخراط في وضع لبنات الدولة الحديثة، وما تقتضيه من أجهزة إدارية وأمنية ومن بنيات اقتصادية ومرافق وتجهيزات عمومية، موازاة مع مواصلة رحلة النضال من أجل استكمال وحدته الترابية، وفي ظل مرحلة البناء وإرساء القواعد، لم يكن – وقتها – “الشأن الأرشيفي” حاضرا في دائرة اهتمام الحكومات المتعاقبة، مما كرس وطيلة عقود، حالة من “البؤس الأرشيفي”، رغم حضور قانون رأى النور في ظل الحماية(1)، وحتى هذا القانون، لم يسلم من ورم التهميش والإقصاء، بشكل عرض الأرصدة الأرشيفية في الإدارات المركزية والجهوية إلى “قدر” الضياع والشتات والإتلاف والإهمال، في ظل غياب الضابط القانوني، وحتى إذا ما سلمت من مخالب العبث، فقد كان يتم إقبارها قسرا في الأقبية المنسية، تحت رحمة موظفين أو مستخدمين مغضوب عليهم من قبل رؤسائهم الإداريين، وكلها “مشاهد” لا تعكس فقط، غياب إرادة رسمية في تنظيم الأرشيف العمومي وتثمينه وإتاحته للجمهور، بل وتعكس أيضا، واقع حال ماض “مرتبك”، طبعته مفردات “العناد” و”الخلاف” و”الصدام” و”الانتهاك” و”الشطط في استعمال السلطة” و “العنف” و”العنف المضاد”، بعيدا كل البعد عن عوالم “الحقوق” و”الحريات”، وكلها تصرفات كان من الصعب “توثيقها”، في ظل فراغ أرشيفي قانوني ومؤسساتي، ضاعت معه جوانب من الحقيقة التي ضاعت معها، فرص “المساءلة” و”المحاسبة”.

وفي ظل هذا الفراغ الكاسح الذي خيم لعقود، فقد جاءت قطرة الغيث عبر “هيئة الإنصاف والمصالحة” (2004)(2) ، التي تولت مهمة النبش في حفريات ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسـان (خلال الفترة الممتدة من 1956 إلى 1999)، في محاولة لكشب النقاب عن حقيقة ما جرى من انتهاكات وخروقات متعددة المستويات، وهي مهمة شاقة، لم تخل من صعوبات وإكراهات موضوعية، ارتبطت بالأساس إما بغياب الأرشيف العامة أو بسوء تنظيمها، توجت بإصدار “تقرير ختامي” تضمن “توصيات” متعددة الزوايا، من بينها “توصية” ذات صلة بالأرشيف وحفظ التاريخ والذاكرة، حملت دعوة إلى إصدار قانون منظم للأرشيف وإنشاء مؤسسة لصيانته، مما أثمر إصدار “القانون رقم 69.99 المنظم للأرشيف” (30 نونبر 2007)(3) ، الذي شكل نقلة نوعية في تاريخ التشريع المغربي، ليس فقط، لأنه كان أول تشريع منظم للشأن الأرشيفي العمومي، ولكن أيضا، لأنه شكل مرآة عاكسة لدولة حاملة لطموح حداثي، وهذا القانون، “لم يكن سوى أرضية صلبـة، تأسست عليها جملــــة مــن اللبنات القانونية

والمؤسساتية، بدءا بإصدار القانون القاضي بتحديد أعضاء المجلس الإداري(4) ، مرورا بتأسيس “مؤسسة أرشيف المغرب” التي أعطيت انطلاقتها أواخر ماي 2011 (5) ، وانتهاء بإصدار المرسوم التطبيقي (6) ، وكدا تنزيل المرسوم القاضي بإحداث المجلس الوطني للأرشيف (7) ، وهو بناء تشريعي ومؤسساتي، تعززت لبناته بإصدار “الدليل المرجعي لتدبير الأرشيف القانوني” (8) ، الذي شكل “خارطة طريق” من شأنها الإحاطة بمختلف جوانب حياة “الأرشيف العامة”(الجارية، الوسيطة، النهائية)”.

– قراءة في القانون رقم 69.99 :

يتكون القانون رقم 69.99 المنظم للأرشيف (30 نونبر 2007) من ثلاثة أقسام كبرى (41 مادة)، ويتعلق الأمر بما يلي :
– القسم الأول : تم من خلاله التعريف بالأرشيف (تعريف الأرشيف) ومقتضيات مرتبطة بتعريف الأرشيف العامة وتنظيمها وسبل إتاحتها للجمهور في إطار الحق في المعلومات، والتعريف بالأرشيف الخاصة (من المادة 1 إلى المادة 25).
– القسم الثاني : تم من خلاله توجيه البوصلة نحو “مؤسسة أرشيف المغرب” من حيث التعريف والمهام وأجهزة الإدارة والتسيير، وكدا التنظيم الإداري والمالي ( من المادة 26 إلى المادة 34).
– القسم الثالث : تم تخصيصه لرصد مختلف المخالفات الماسة بالأرشيف والعقوبات المطبقة عليها (المواد 35 و36 و37) والجهات المعنية بمعاينتها (المادة 38)، وإبرام المصالحات (المادة 39)، فيما تم ختم القانون بمقتضيات مختلفة، ارتبطت بنقل رصيد الأرشيف المحفوظ لدى المكتبة الوطنية للمملكة المغربية بعد جرده، لمؤسسة أرشيف المغرب (المادة 39) وحلول “أرشيف المغرب”، محل المكتبة الوطنية، في جميع الحقوق والالتزامات والاتفاقيات المبرمة – قبل دخول القانون الأرشيفي – حيز التنفيذ، والمرتبطة أساسا، بأنشطة المؤسسة في مجال الأرشيف (المادة 41).

– تعريف الأرشيف :
عرف المشرع الأرشيفي “الأرشيف”، باعتباره “جميع الوثائق كيفما كان تاريخها وشكلها وحاملها المادي الذي ينتجها أو يتسلمها كل شخص طبيعي أو معنوي وكل مصلحة أو هيئة عامة أو خاصة خلال مزاولة نشاطهم”، وهي وثائق يتم تكوينها وحفظها لأجل الصالح العام، تحقيقا لثلاث غايات كبرى، مرتبطة بإثبات حقوق الأشخاص الطبيعيين أو المعنويين الخاضعين للقانون العام أو الخاص، والبحث العلمي وصيانة التراث الوطني (المادة 1).

– أنواع الأرشيف :
علاوة على هذا التعريف، ميز المشرع بين صنفين من الأرشيف، يتعلق الأول منهما بالأرشيف العامة، فيما يرتبط الثاني بالأرشيف الخاصة.

إ) الأرشيف العامة : يراد بالأرشيف العامة حسب مدلول المادة الثالثة، جميع الوثائق التي تكونها في إطار مزاولة نشاطها : الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات والمنشآت العامة، الهيئات الخاصة المكلفة بإدارة مرفق من المرافق العامة فيما يتعلق بالأرشيف الناتجة عن نشاط هذا المرفق، وقد وسع المشرع من نطاق الأرشيف العامة، التي تشمل أيضا، الأصول والفهارس التي يكونها الموثقون والعدول وسجلات الحالة المدنية وسجلات مصلحة التسجيل، وفي هذا الصدد، واستقراء لمقتضيات المواد 3، 14،15،16،17 و18، يمكن إبراز الخاصيات الأساسية المميزة للأرشيف العامة على النحو التالي :
-الأرشيف العامة مرآة عاكسة لأنشطة ذات طابع رسمي.
-الأرشيف العامة غير قابلة للتقادم أو التفويت.
-الأرشيف العامة متاحة أمام الجمهور والباحثين والدارسين، وهي إتاحة مقيدة بضوابط وشروط.

وعلى المستوى التنظيمي، ميز المشرع بين ثلاثة مستويات من الأرشيف العامة، حددتها المادة 6 في : “أرشيف عادية” (الوثائق المستعملة بصفة اعتيادية، ولمدة محددة للأشخاص والهيئات (المشار إليها في المادة 3) في إطار مزاولة نشاطها، ومهمة حفظها، منوطة بالهيئات التي أنتجتها أو تسلمتها، و”أرشيف وسيطة” (وثائق لم تعد مصنفة ضمن الأرشيف العادية، والتي يمكن استعمالها بصفة عرضية، من قبل الهيئات التي أنتجتها، ولم يحدد مصيرها النهائي بعد )، و”أرشيف نهائية” ( الوثائق التي تم حفظها بعد الفرز).

ب) الأرشيف الخاصة : تعتبر ”أرشيفا خاصة” حسب مقتضى المادة 23، “مجموع الوثائق المحددة في المادة الأولى، ولا تدخل في نطاق تطبيق المادة 3 من هذا القانون”، واستقراء لهذا المقتضى، يمكن القول أن “الأرشيف الخاصة” ترتبط بجميع الوثائق كيفما كان تاريخها وشكلها وحاملها المادي الذي ينتجها أو يتسلمها كل شخص طبيعي أو معنوي خلال مزاولة مهامه، ما عدا : الوثائق التي تكونها الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات والمنشآت العامة، والهيئات الخاصة المكلفة بإدارة مرفق من المرافق العامة فيما يتعلق بالأرشيف الناتجة عن نشاط هذا المرفق، إضافة إلى الأصول والفهارس التي يكونها الموثقون والعدول وسجلات الحالة المدنية وسجلات مصلحة التسجيل.

مع الإشارة أن “الأرصدة الخاصة” رغم طابعها الخصوصي، فبعضها قد يكون حاملا لقيمة علمية أو تراثية ذات منفعة عامة، وفي هذا الصدد، أدرج المشرع الأرشيفي بعض المقتضيات التي تتيح لمؤسسة أرشيف المغرب سلطة وضع اليد على بعض الوثائق الخاصة ذات النفع العام، عبر عدة آليات كالشراء أو الهبة أو الوصية أو الوديعة القابلة للاسترجاع، وكلها تصرفات تتم باسم الدولة ولحسابها، مع الإشارة أن شروط وكيفيات اقتناء “الأرشيف الخاصة” والاطلاع عليها، تحدد باتفاق مشترك بين الأطراف المعنية وأرشيف المغرب (المادة 24).

– “مؤسسة أرشيف المغرب” :
بموجب المادة 26 تم إحداث “مؤسسة أرشيف المغرب” التي أعطيت انطلاقتها الفعلية أواخر شهر ماي من سنة 2011، بعد أن عين على رأسها الأستاذ الجامعي والباحث في التاريخ “جامع بيضا”، وهي مؤسسة تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي، صنفت سنة 2012، ضمن قائمة المؤسسات العمومية ذات “الطابع الاستراتيجي” يعين مديرها بموجب ظهير ملكي، وهي مبادرة جيدة، لها دلالات عميقة، ترمي في شموليتها إلى تثمين هذه المؤسسة العمومية، وجعلها بمعزل عن التجاذبات الفكرية والحساسيات الإيديولوجية والحسابات السياسوية الضيقة.

أ) المهام والاختصاصات:
لقد أناط المشرع الأرشيفي بالمؤسسة، مهمة “صيانة التراث الأرشيفي الوطني، والقيام بتكوين أرشيف عامة وحفظها وتنظيمها وتيسير الاطلاع عليها لأغراض إدارية أو علمية أو اجتماعية أو ثقافية، وتنزيلا لهذه الغايات الكبرى، تضطلع المؤسسة، بمهام واختصاصات متعددة المستويات، نحدد عناوينها الكبرى في النقط التالية :
– النهوض ببرنامج تدبير الأرشيف العادية والوسيطة التي بحوزة الأشخاص الطبيعيين أو المعنويين (المشار إليهم في المادة 3)، وتنسيقها وإعطاء التعليمات في هذا المجال.
– صيانة تراث الأرشيف الوطني والعمل على النهوض به.
– وضع معايير لعمليات جمع الأرشيف وفرزها وإتلافها، وتصنيفها ووصفها وحفظها الوقائي وترميمها، ونقلها في حوامل مخصصة للأرشيف.
– النهوض بجمال الأرشيف عن طريق البحث العلمي و التكوين المهني والتعاون الدولي (المادة 27).

ب) الإدارة والتسيير:
– يدير “أرشيف المغرب” مجلس إداري، ويسيرها مدير، وهو مجلس يتألف بالإضافة إلى رئيسه، من ممثلين عن الدولة، ومن شخصيات يعينها رئيس الحكومة، يتم اختيارها من القطاع العام أو الخاص، بناء على كفاءتها، فيما يتعلق بالمحافظة على الأرشيف، ويعينون لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة (المادة 28)، وقد أسند المشرع لمجلس الإدارة، اختصاصات وصلاحيات واسعة، تم التطرق إليها بإسهاب من خلال المادة 29، مع الإشارة أن المجلس يجتمع بدعوة من رئيسه كلما دعت الإدارة إلى ذلك، على الأقل مرتين في السنة : لحصر القوائم التركيبية للسنة المالية المختتمة (قبل 30 يونيو)، ولحصر الميزانية والبرنامج التقديري للسنة المالية الموالية (قبل 15 أكتوبر). (المادة30)، وتعزيزا للصرح المؤسساتي الأرشيفي، تم إحداث “مجلس وطني للأرشيف” كهيئة استشارية لدى رئيس الحكومة، تتولى القيام بتتبع تنفيذ الاستراتيجية الوطنية في مجال تكوين الأرشيف وحفظه وتنظيمه وحمايته وتثمينه (المادة الأولى)، وهو مجلس يترأسه رئيس الحكومة أو السلطة الحكومية التي ينتدبها لهذا الغرض، ويتألف من السلطات الحكومية المكلفة بعدد من القطاعات، أو من يمثلها من درجة كاتب عام على الأقل (المادة الثانية)، وفي هذا الصدد، يمكن القول أن المجلس هو بمثابة هيئة استشارية لدى رئيس الحكومة، وهذا يسائل طبيعة القرارات التي يتخذها ومدى القدرة على أجرأتها على أرض الواقع، خاصة في الحالات التي لا تحضر فيها السلطات الحكومية المكلفة بالقطاعات المعنية (الوزراء) ويتم الاكتفاء بمن يمثلها (درجة كاتب عام على الأقل)، ونرى أن المشرع، كان عليه أن يحصر تمثيلية المجلس في “الوزراء”، حتى تكون القرارات الصادرة عنه، قابلة للأجرأة والتنفيذ .

– بخصوص مدير المؤسسة، فهو يعين طبقا للمادة 30 من الدستور، يتمتع بجميع السلط والاختصاصات الضرورية لتسيير المؤسسة، وتحقيقا لهذه الغاية، أناط به المشرع الأرشيفي، مهمة القيام بعدد من المهام والصلاحيات، منها على سبيل المثال لا الحصر:
– تنفيذ مقررات المجلس الإداري، إدارة المؤسسة والتصرف باسمها، والقيام بتسيير مجموع المصالح، والتنسيــق بين أنشطتها، والتعيين في مناصب المؤسسة، طبقا للقانون الأساسي للمستخدمين،
– تمثيل المؤسسة إزاء الدولة وكل الإدارات العامة أو الخاصة، وإزاء الغير والقيام بجميع الأعمال التحفظية،
– تمثيل المؤسسة أمام القضاء، والقيام برفع الدعوى التي يكون الغرض منها الدفاع عن مصالحها، على أن يخبر بذلك فورا، رئيس مجلس الإدارة.
– حضور – بصفة استشارية – اجتماعات المجلس الإداري، والقيام بتحضير أشغاله، وتحرير محضرا عن القضايا موضوع الدراسة.
– إمكانية تفويض، تحت مسؤوليته، كل أو بعض سلطه أو اختصاصاته إلى المستخدمين العاملين تحت إمرته.
– التحضير في نهاية كل سنة مالية، تقريرا حول نشاط المؤسسة، يعــرض على أنظار رئيس الحكومة.(المادة 32).

ج) التنظيم المالي والإداري:
تطرقت المادة 33 بتفصيل، إلى “ميزانية” مؤسسة أرشيف المغرب على مستوى المداخيل و النفقات :
– على مستوى المداخيل : ترتبط مداخيل “أرشيف المغرب” بالعائدات والموارد المتأنية من الممتلكات المنقولة والعقارية، حاصل الأجور عن الخدمات المقدمة، حاصل الرسوم شبه الضريبية المحدثة لفائدتها، الاقتراضات المأذون بها وفقا للنصوص التنظيمية الجاري بها العمل، الإعانات المالية التي تقدمها الدولة أو الأشخاص المعنويين الخاضعين للقانون العام أو الخاص، والهبات والوصايا والعائدات المختلفة، وكذا جميع المداخيل الأخرى المرتبطة بنشاطها.
– على مستوى النفقات : تتأسس النفقات على نفقات الاستغلال والاستثمار، المبالغ المرجعة من التسبيقات والقروض، وجميع النفقات الأخرى المرتبطة بنشاطها، وفي هذا الإطار، وإذا ما تركنا لغة الأرقام جانبا، نرى أن الميزانية المرصودة للمؤسسة، لا تتناسب وحجم وثقل المهام والاختصاصات المتعددة المستويات المسندة إليها، وهذا يقتضي، إحاطتها بما يكفي من الدعم المادي واللوجستي والبشري، بشكل يسمح بالقيام بما رسمه لها المشرع الأرشيفي من صلاحيات، على أكمل وجـه.

– المخالفات الماسة بالأرشيــف والعقوبات المطبقة عليها:
أولى المشرع الأرشيفي اهتماما بالغا بالوثيقة الأرشيفية، وهو اهتمام يمكن تلمسه من خلال المقتضيات الزجرية التي تضمنتها المواد 35و36و37، التي استعرضت المخالفات الماسة بالأرشيف (السرقة، الإتلاف، إلحاق الضرر، كثمان السر المهني)، وما يترتب عليها من عقوبات سالبة للحرية، تتراوح مدتها بين ثلاث سنوات وست سنوات (المادة 35) ، وبين سنتين وعشر سنوات (المادة 37)، كما يمكن تلمس اهتمام المشرع بحماية الوثيقة الأرشيفية، من خلال إلزام كل موظف أو مستخدم مكلف بجمع الأرشيف أو بالمحافظة عليها، بكتمان السر المهني، في ما يتعلق بكل وثيقة لا يمكن قانونا وضعها رهن إشارة العموم، تحت طائلة الخضوع لمقتضيات المادة 446 من القانون الجنائي(9) .

أما فيما يتعلق بالجرائم الماسة بالأرشيف، فقد أسند المشرع مهمة معاينتها لكل من ضباط الشرطة القضائية، والأعوان التابعين المؤهلين لهذه الغاية، من قبل “أرشيف المغرب” (المادة 38)، وفي هذا الإطار، فإذا كان إسناد مهمة معاينة الجرائم الماسة بالأرشيف للأعوان التابعين لمؤسسة أرشيف المغرب، لا يثير أي نوع من الإشكال، لارتباطهم المهني أو الوظيفي بمهنة الأرشيف، بشكل يجعلهم مؤهلين قانونيا وتقنيا للقيام بمعاينة مختلف مخالفات أحكام “قانون الأرشيف” والنصوص الصادرة لتطبيقه (سرقات، إتلاف إلحاق الضرر، إفشاء السر المهني …)، فإن دور “ضباط الشرطة القضائية” (أمن وطني، درك ملكي) في معاينة المخالفات الماسة بالوثيقة الأرشيفية، قد يثير نوعا من الصعوبات العملية لعدة اعتبارات منها “ضعف الحصيص” و”تعدد المهام” و”ازدواجية السلطة التي يخضعون لها”، و”انحصار عملهم في الجرائم العامة المنصوص عليها في القانون الجنائي”، بشكل يجعل تدخلهم في الجرائم المنصوص عليها بموجب قوانين خاصة (الأرشيف، التعمير، الصيد البحري، المياه والغابات …) تدخلا “محتشما، إن لم نقل “شبه منعدم”.

ورغم حضور البعد الزجري العقابي، فإن المشرع الأرشيفي أتاح فرصا لإبرام المصالحات، فيما يتعلق بالمخالفات ذات الصلة بقانون الأرشيف والنصوص الصادرة لتطبيقه، إذ منح صلاحيات واسعة لمؤسسة “أرشيف المغرب” في إبرام المصالحات، ســواء قبل صدور أحكام قضائية أو بعدها، “إذا تبين أن في ذلك فائدة للمحافظة على أرشيف عامة، أو إذا كانت هذه الأخيــرة ذات فائدة تاريخية أو علمية أو حضارية”، بشكل يجعل من المصالحات المبرمة كتابة، تلغي – بدون تحفظ – “الدعاوى المقامة من قبل النيابة العامة، وكذلك تلك المرفوعة من لــدن الإدارة” (المادة 39).

– مقتضيات ختامية :
وقد اختتم القانون – كما تمت الإشارة إلى ذلك – بمقتضيات ختامية، تضمنت مادتين اثنتين، نصت الأولى منهما على نقل رصيد الأرشيف المحفوظ لدى “المكتبة الوطنية للمملكة المغربية” بعد جرده، إلى “مؤسسة أرشيف المغرب” ابتداء من تاريخ نشر القانون الأرشيفي، طبقا لإجراءات وشروط حددت بموجب نص تنظيمي (المادة 40)، أما الثانية، فقد أقرت بأن تحل “أرشيف المغرب” محل “المكتبة الوطنية ” في حقوقها والتزاماتها المتعلقة بجميع صفقات الدراسات والأشغال والتوريدات والنقل، وبجميع العقود والاتفاقات خاصة المالية، المبرمة قبل دخول القانون حيز التنفيذ، والمرتبطة أساسا بأنشطة المكتبة الوطنية في مجال الأرشيف (المادة 41).

– خلاصة :
نؤكد في خاتمة هذه القراءة، أن الاهتمام الرسمي بالأرشيف العمومي، لازال صبيا في المهد، من منطلق أن أول تشريع أرشيفي وطني، لم يخرج إلى الحياة، إلا سنـة 2007، بإصدار القانون رقم 69.99 المتعلق بالأرشيف، أي بعد مرور 51 سنـة من استقلال المغرب، وهو حيز زمني، قد يطول، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن المؤسسة الحاضنة للأرشيف (مؤسسة أرشيف المغرب) لم تر النور، إلا سنـة 2011، أي بعد مضي حوالي أربع سنوات من إصدار قانون الأرشيف، وبمفهوم المخالفة، إذا لم تنخرط الدولة في مسلسل “الحقيقة” و”الإنصاف” و”المصالحة” في بداية العهد الجديد، وبتحديد أدق، إذا لم يتم المرور من تجربة ”هيئة الإنصاف والمصالحة”، هل كان المشرع، سيبادر إلى إصدار قانون الأرشيف سنة 2007؟

يصعب النبش في سؤال، الجواب عنه مفتوح على كل الاحتمالات، لكن ما هو مؤكد، أن البناء الأرشيفي الوطني، تم عبر مراحل امتدت من سنة 2007 (إصدار القانون الأرشيفي) إلى سنة 2015 (إصدار المرسوم التطبيقي) أو سنة 2017، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار، تاريخ صدور “الدليل المرجعي لتدبير الأرشيف العمومي”، وهذا قد يزكي الطرح القائل بأن “التجربة الأرشيفية” بالمغرب جاءت سابقة لأوانها، ولم تكن ممارسة تشريعية، عاكسة للواقع السياسي والاجتماعي والحقوقي والتشريعي والمؤسساتي، ولعل خير دليل على ذلك، كون “مؤسسة أرشيف المغرب” لم تنعم بعد، بمقر رسمي يليق بها كمؤسسة استراتيجية، تضطلع بمهام متعددة المستويات (تراثية، تاريخية، علمية، هوياتية، ثقافية، حقوقية، حداثية …) رغم مضي حوالي تسع سنوات على انطلاقتها الفعلية (2011).

وفي جميع الحالات، سواء كان “القانون الأرشيفي” عاكسا لدينامية الإصلاح التي برزت معالمها الكبرى مع بداية العهد الجديد، أو مولودا تشريعيا، لم يكن ليخرج إلى الحياة، لولا توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، لا يمكن إلا تثمين إصدار “قانون متعلق بالأرشيف” وتأسيس “مؤسسة” لتنفيذ أحكامه ومقتضياته، وهو قانون وضع “مؤسسة أرشيف المغرب” أمام مسؤوليات جسام، يصعب تحملها كاملة، في ظل انعدام “مقر” لائق يستجيب للمواصفات والشروط الدولية ذات الصلة بحفظ الأرشيف، وتزداد الصورة “ضبابية” في ظل الخصاص المهول في الموارد البشرية (10) ، لكن ورغم هذه الصعوبات والإكراهات الموضوعية، حققت المؤسسة عدة مكاسب منذ سنة 2011، سواء على المستوى التواصلي والإشعاعي أو على مستوى اتفاقيات الشراكة أو على مستوى تسلم الأرصدة الأرشيفية (11) ، بل أكثر من ذلك، استطاعت المؤسسة تقديم “المساعدة التقنية” لعدد من الهيئات العمومية والخاصة (12)، وما تحقق من نجاحات ومكاسب، لا يمنع من التأكيد أن “المؤسسة” تلبس “جلبابا قصيرا”، لا يتناسب وحجم قيمتها ومكانتها وصلاحيتها ومسؤولياتها المتعددة الزوايا، ونـــرى، أنه آن الأوان، لتلبس جلبابا، يليق بها كمؤسسة تعد واحدة من المؤسسات العمومية ذات “الطابع الاستراتيجي”، ونختم بالقول، أن “الاستراتيجية” هي أكبر من تصنيف، هي “بناية” عصرية تنضاف إلى الصروح المعمارية العصرية المتواجدة بالعاصمة الرباط، و”موارد بشرية” تحاط بكل شروط التحفيز(تعويضات، وسائل لوجستية، حماية اجتماعية …) وعناية موصولة من الدولة، تتجاوز هواجس الميزانية ومنطق الربح والخسارة، لأن “الأرشيف العامة” هي حاضنة للتاريخ والهوية والتراث والثقافة والذاكرة الجماعية، وهي قيمة تجعل منها “رأسمالا لاماديا”، لا يمكن البتة، قياسه بأي “رأسمال مادي”.
[email protected]

هوامش:
1) نشير في هذا الصدد، إلى أن فترة الحماية الفرنسية، ميزها اعتماد ظهير مرتبط بالأرشيف، ويتعلق الأمر بظهير 1 نونبر 1926 الذي تم الشروع بالعمل به مطلع سنة 1927 (منشور بالجريدة الرسمية رقم 738 الصادرة بتاريخ 14 دجنبر 1926)، بشأن إدراج المكتبة العامة للدولة الحامية في مصاف المعاهد العمومية، والتي أنيطت بها عدة مهام، منها “حفظ وإتاحة الكتب والجرائد والدوريات الخاضعة لنظام الإيداع القانوني، إضافة إلى الأرشيف والخرائط والأختام والمسكوكات والصور..إلخ، وحتى هذا القانون، لم يكن مفعلا من قبيل الكثير من الإدارات العمومية بعد الاستقلال، مما أدخل البلاد في حالة “تيهان أرشيفي”، تكرس عبر سنوات، من منطلق أن “الأرشيف” لم يكن ضمن أولويات الحكومات المتعاقبة.
(2) لجنة وطنية للحقيقة والإنصاف والمصالحة، أنشأت بناء على القرار الملكي بالموافقة على “توصية” صادرة عن “المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان”، وعلى الظهير الشريف المتضمن للنظام الأساسي للهيئة الصادر بتاريخ 12 أبريل 2004، ذات اختصاصات غير قضائية في مجال تسوية ملف ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، من مهامها البحث والتحري والتقييم والتحكيم والاقتراح، وشمل اختصاصها الزمني الفترة الممتدة من أوائل الاستقلال (1959) إلى تاريخ المصادقة الملكية على إحداث “هيئة التحكيم المستقلة للتعويض” (1999).. – ينظر في هذا الصدد موقع “هيئة الإنصاف والمصالحة”، تاريخ التصفح : 25/02/2020.
(3) القانون رقم 69.99 (30 نونبر 2007) الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.07.167 الصادر في 19 من ذي القعدة 1428 (30 نونبر2007).(ج.ر عدد:5586 بتاريخ 13 دجنبر 2007).
(4) يتعلق الأمر بالمرسوم رقم 2.08.543 القاضي بتحديد أعضاء المجلس الإداري لأرشيف المغرب (21 ماي 2009).(ج ر عدد 5744 (18 يونيو 2009).
(5) تم إحداث المؤسسة بموجب المادة 26 من القانون المنظم للأرشيف بالمغرب، وأعطيت انطلاقتها الرسمية سنة 2011، وهي مؤسسة عمومية تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي، صنفت سنة 2012 ضمن قائمة المؤسسات العمومية الاستراتيجية.
(6) يتعلق الأمر بالمرسوم رقم 2.14.267 القاضي بتحديد شروط وإجراءات تدبير وفرز وإتلاف الأرشيف العادي والوسيط وشروط وإجراءات تسليم الأرشيف النهائي (4 نونبر 2015).
(7) يتعلق الأمر بالمرسوم رقم 2.17.384 القاضي بإحداث المجلس الوطني للأرشيف (8 أغسطس 2017).

(8) دليل مرجعي أعدته المؤسسة لتدبير الأرشيف العمومي تم تعميمه على الإدارات العمومية قصد العمل به، وقد نظمت المؤسسة يوما دراسيا بخصوصه (قراءة في مشروع الدليل المرجعي لتدبير الأرشيف العمومي) بتاريخ 8 يونيو 2017، وهو دليل مرجعي، جاء بعد دراسة أطلقتها المؤسسة حول “واقع الأرشيف والممارسة الأرشيفية بالإدارات المركزية للدولة”.

(9) نصت المادة 446 من القانون الجنائي على ما يلي : “الأطباء والجراحون وملاحظو الصحة، وكذلك الصيادلة والمولدات، وكل شخص يعتبر من الأمنــاء على الأسرار بحكم مهنته أو وظيفته، الدائمة أو المؤقتة، إذا افشى سرا أودع لديه، وذلك في غير الأحوال التي يجيز له فيها القانون أو يوجب عليه فيها التبليغ عنه، يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر، وغرامة من ألف ومائتين إلى عشرين ألف درهم.”
(10) انطلقت المؤسسة سنة 2011 بطاقم بشري لا يتجاوز (6) مستخدمين، وتطور العدد بشكل “سلحفاتي” واستقر سنة 2019 في (51) مستخدم(ة)، ولا يمكن البتة، بهذا الحصيص المتواضع، تفعيل وأجرأة مقتضيات القانون الأرشيفي ومرسومه التطبيقي.
(11) نشير في هذا الصدد إلى أن “أرشيف المغرب” تمكنت من تسلم “أرشيف “هيئة التحكيم المستقلة لتعويض ضحايا الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي” (24 يوليوز 2017)، في حفل نظمته المؤسسة و”المجلس الوطني لحقوق الإنسان”، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، توج بتوقيع اتفاقية تعاون بين “مؤسسة أرشيف المغرب” و”المجلس الوطني لحقوق الإنسان”، كما تسلمت “أرشيف هيئة الإنصاف والمصالحة” (9 دجنبر 2017)، في لقاء تاريخي، ميزه تنظيم ندوة علمية حول “الأرشيف وحقوق الإنسان” بمشاركة نخبة من الدارسين والباحثين والخبراء في التاريخ والأرشيف والعدالة الانتقالية وحقوق الانسان، دون إغفال أن المؤسسة نجحت في وضع اليد على عدد من الأرصدة الأرشيفية الخاصة ذات النفع العام، بعد إقدام بعض الخواص من المغاربة والأجانب ، على تسليم أرشيفاتهم الشخصية أو العائلية لأرشيف المغرب على سبيل الهبة، وإلى حدود خريف 2019، بلغ مجموع الأرصدة الخاصة التي استقبلتها المؤسسة زهاء الأربعين. ينظر في هذا الصدد: نص العرض الذي قدمه مدير أرشيف المغرب، ذ. جامع بيضا، أمام المجلس الوطني للأرشيف، رئاسة الحكومة ، الرباط، 04 دجنبر 2019.
(12) نشير في هذا الإطار أن عدد المساعدات التقنية التي قدمتها المؤسسة للهيئات العمومية انتقل من 14 (2015) إلى 34 (2019)، مقابل هيئتان (2) من الهيئات الخاصة سنة 2015، وهيئة خاصة واحدة (1) سنة 2019. ينظر في هذا الصدد: نص العرض الذي قدمه مدير أرشيف المغرب، ذ. جامع بيضا، أمام المجلس الوطني للأرشيف، رئاسة الحكومة ، الرباط، 04 دجنبر 2019.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *