وجهة نظر

التقاعد وخطر الإصلاحات المقياسية‎

الحديث عن التقاعد في ظل تعقيدات البنية الديمغرافية للساكنة المغربية، والإكراهات المالية للميزانية العامة، والخصاص المهول للموارد البشرية في جل القطاعات تقريبا، يدفعنا إلى القول أن العمليات الحسابية التي يعالج بها هذا الملف لن تنفع أحدا، لا الأجير أو الموظف ولا المالية العامة ، و التي تخضع دوما لإرغامات المداخيل والمصاريف المتذبذبة حسب الظروف الخاصة والعامة، الداخلية والخارجية.

كما أن الاصلاحات المقياسية المنتقاة غير مساعدة بتاتا للإقلاعين الاقتصادي والتنموي، الذي يطمح إليه الجميع، بغية اللحاق بمصاف الدول الصاعدة، والتخلص من قوقعة الدول النامية، التي تدور في فلك المديونية المتراكمة، والنزاعات التافهة، والتبعية المعقدة المعالم والاتجاهات.

لا يمكن في ظل الظروف المؤسفة، التي أصبح واضحة للعيان ومدبري الشأن العام، تجاهل الوضعية العامة التي أمسى يعيش عليها عموم الأجراء والموظفين، من جراء سيف قوانين الاجبارية، التي تحدد قطعا ضرورة الوصول إلى سن عمري معين للحصول على الأحقية في تقاعد.

هذا التقاعد أصبح لا يسمن ولا يغني من جوع جراء الكبر في السن، وعدم التخلص من رعاية واعالة الأبناء في كبرهم، والتي تتحول إلى الارهاق الدائم والمكلف، بالنظر لتكاليف المعيشة المتصاعدة والمستجدة المتزايدة، خاصة بعدما تلاشت الآمال الذي بنتها الأسر لمستقل الأبناء؟ من جراء البطالة التي أصبحت مفزعة أكثر منها مخيفة! وذلك بالنظر إلى تعدد العوامل المتداخلة البنيوية والمرتبطة باختيارات تنموية برهنت على محدوديتها.

الأرقام والاسقاطات والإصلاحات المقياسة، لن ولم تستطع معالجة تحولات مجتمعية هيكلية متشابكة في كل شيء، كما أن تلك الارقام ترزح دائما تحت وطأة التفاعلات الاقتصادية والقيمية والثقافية غير المحدودة، والمتشعبة المتنوعة الرؤى والمرامي والغايات، عبر المكان والزمان.

الإصلاح الحقيقى لأنظمة التقاعد يقتضي وضع النقط فوق الحروف بشكل صحيح وفي مكانها الصحيح، بعيدا عن ضغوطات المزايدات المنتجة للاحتجاج أو التي تساهم في تيئيس الناس والتراشق الفضفاض اللاواقعي، المضر بالبنية المجتمعية ككل.

اقتصار الإصلاح على نسبة الاقتطاعات والرفع من سن العمل وطريقة حساب التقاعد هو فقط يندرج تحت اسم ضمان ديمومة الصناديق التقاعدية. فعوض التركيز على البعد التنموي، من خلال تنشيط الدورة الاقتصادية باعتماد الليونة في طلب مغادرة وظيفة ما أو عمل ما، لتفادي الملل الذي قد يصاب به الأجراء بشكل عام او غياب الرغبة في مواصلة مسيرة وظيفة او عمل ما، قد يؤثر لا محال على المردودية والانتاجية بشكل عام، انحرف الإصلاح في اتجاه الجانب التقني العقيم غير المنتج.

تحديد السن القانوني للتقاعد، من باب الحكامة أن يصبح اختياريا في حدود 10 سنوات من الخدمة كحد أدنى، مع قبول الأجير أو الموظف بالمبلغ الذي تحدده النسبة القانونية للتقاعد، مهما كانت الأجرة، ولو كانت ضئيلة، بحكم أن الخروج هو طواعية وليس اجباريا.

ومن تم يتحرك سوق الشغل من جديد، بتوظيف آلاف الشباب سنويا لتعويض المغادرين للعمل، مما سيفضي لحركية كبيرة في سوق الشغل، ويساهم في تشبيب مستمر ودائم للادارة وسائر القطاعات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى، كما سيساهم هذا الاجراء في تنشيط الحياة الاقتصادية، باعطائهم دفعة قوية في اتجاه توظيف طاقاتهم الابداعية نحو القطاع الخاص.

هذا القطاع(الخاص) سيجد نفسه قويا، بقوة هؤلاء الذين سيتجهون للاستثمارات الصغيرة، وذلك بعد ضمان الطمأنينة النفسية التي أوجدها لهم الدخل التقاعدي القار، والذي يشكل ضمانة للحاجيات الضرورية، وبالتالي الانخراط بقوة وبأمان في تحريك عجلة الاقتصاد من خلال الاستثمارات الصغيرة، كالتجارة أو السياحة أو المجالات المرتبطة بالخدمات الزاخرة بالفرص المتاحة..

في المقابل تعمل الدولة، على تبسيط المساطر لهؤلاء بغية الانخراط الفعلي في تقوية التماسك الاجتماعي من خلال التشغيل الذاتي، ودعم تشغيل الأقارب والأصدقاء، والجيران وأبناء الحي وهكذا دواليك.

من هنا تنطلق المرونة الاجتماعية، وليس المرونة التي ترهن مستقبل الأجير أو الموظف بالربح والخسارة فيغيب الاستقرار النفسي، ويسود الخوف من المستقبل الأسري، ويصاب المجتمع بخلل اسمه فقدان الثقة.

الحديث عن المرونة في سوق الشغل لا يستقيم مع فكرة ترك العامل متى تعرضت المقاولة أو صاحبها لضائقة مالية ما. فالعامل بشر، وليس من صنف الآلات التي يرمى بها في سلة المهملات، كلما تقادمت أو وجدت الظروف مواتية لذلك.

العامل مرتبط بمؤسسة اسمها كرامة النفس، ومجموعة من العلاقات الأسرية، والاجتماعية المتشعبة، لذا فإن الاقتصار على التقاعد في حده الأدنى 10 سنوات يعد رأفة بعباد الله في هذا العالم، الذي بدأت تتحول في الليبيرالية الاجتماعية إلى رأسمالية غابوية متوحشة.

كما ان اجبارية الانخراط في التأمينات التكميلية للتقاعد مع شركات التأمين المواطنة وبضمانات قانونية من الدولة يعد من صميم تحريك الاقتصاد بشكل العام.

تحديث الترسانة القانونية وفق بعد اجتماعي لصناديق التقاعد، وضمان ديمومتها أمن للاجراء والأسر والاقتصاد والدولة بشكل عام.

لذا جعل مدة 10سنوات من الخدمة الفعلية كافية للحصول على التقاعد النسبي، لمن اراد ذلك، له من الحمولة القيمية والاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية أهمية كبيرة وأثر اجتماعي واقتصادي قادر على بلورة أفكار ونماذج تنموية ذاتية تميل إلى الموضوعية أكثر فأكثر.

إذ سيوفر هذا الاجراء فرص شغل لعشرات الآلاف من العاطلين بصيغة دورية، ويساهم في الدفع بعجلة التنمية لاقطاع الخاص، عن طريق التركيز على المبادرة الحرة، التي يؤمنها الدخل التقاعدي القار، ولو كان هذا الدخل ضئيلا . ويتيح فرصة المغامرة في عالم الاستثمار ما دام هناك دخل ثابت، ومن تم تنشط الدورة الاقتصادية ومحاربة الملل، وكثرة الغيابات، و العمل على تقليص الأمراض النفسية الناجمة عن روتينية العمل، التي تتحول مع الزمن لكآبات تؤثر على المردوية والانتاجية بشكل يعقل جودة الحياة، وهو ما يسهم في تنامي الاحتجاجات الاجتماعية، بطرق غير مباشرة.

ومن تم يمكن استرجاع الثقة للجميع، مع امكانية خلق فرص أخرى، بعيدا عن الاصلاحات المقياسية، التي أصبحت مغبونة بغبن فشلها، مع توالي المستجدات والإرغامات المالية، والبشرية المتنوعة غير الثابتة.

هذا الإصلاح المقياسي قد يشكل خطرا على الجميع. فلا هو حقق التوازنات المالية لصناديق التقاعد، ولا هو ساهم في وضع حد لاستهداف عموم الأجراء والموظفين في موائدهم اليومية.

وبالتالي التفكير بمنطق الأرقام بعيدا عن الشمولية في تدبير الأمور الاقتصادية والاجتماعية، لن يحقق التنمية المنشودة، ولن يعالج خلل مسألة الحكامتين المالية والتنموية!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *