وجهة نظر

العقل والنقل في مواجهة الكوارث، تنافر أم تكامل؟

تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي في الأيام الأخيرة مقالاعبارة عن تحامل شديد على المعتقد الإسلامي والمسيحي معا في الحرب ضد وباء كورونا المستجد،مقابل انتصار كلي للعلم وللعلماء حصريا. تقول الرسالة في بعض فقراتهابالحرف:

“أنظار العالم ترنو إلى أحفاد فليمنغ وباستور ولافوا زييه الذي قطعت رأسه الكنيسة.”

“لم ينظر أحد إلى البيت الحرام ولا إلى كنيسة المهد.”

“ولم يلجأ مريض واحد للقرآن ولا للطب النبوي .. وسقطت أوهام الحبة السوداء.”

“ولم يطلب مريض واحدرشفة ماء من زمزم لعلها تشفيه”.

“كل الصروح التي شيدها البشر كبيوت لله لم يعترف عليها الله نفسه.”

“وفر المؤمنون منها أفواجاكما تفر العصافير من اللهيب .. ولم يعد للبيت رب يحميه.”

وإذا كانت الظرفية الحالية تستدعي تآزرا وتعاطفا وتضامنا أكثر بين بني البشر في العالم بأسره، لا تصادما بما في ذلكالإيديولوجي، فلا بأس من نقاش هادئ وهادف لموضوع الرسالة ما دام قد أُثير. وسأتناوله من وجهة نظر إسلامية، متمنيا أن تصل محاولتي هذه بين يدي من يتناوله من خلال الفكر المسيحي السمح.

لكن قبل الخوض في الموضوع، لا بد من الإشارة إلى أنّ المؤمنين تصرفوا بدافع عقلاني يقره حفظ النفس، أحد مقاصد الشريعة، عندما علّقوا عمارة بيوت الله مؤقتا بدعوة من السلطات المختصة وقلوبهم متعلقة بها،عاقدين العزم على العودة فور زوال السبب بإذن رب البيت وحاميه دائما وأبدا.

من جهة أخرى، إلى جانب السُنة والإجماع والقياس والاجتهاد، يمثل القرآن الكريم أول أصول الفقه الخمسة. ولأنّ الفقه جزء لا يتجزأ من الفكر الإسلامي، فإنّ للعلم مكانة خاصة مكنت علماء الإسلامأمثال الرازي والخوارزمي والفارابي وابن سينا والكندي وابن النفيس وابن رشد وابن الهيثم وابن حيان وغيرهم، من تأسيس قواعد نظرية يقوم عليها العلم إلى يومنا هذا، عندما كانت الأمة واعية بدورها تجاه الإنسانية وحريصة على أدائه امتثالا لقول الله تعالى: “وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس“. ويكفي التذكير بآيتين قرآنيتين أخريتين للاستدلال على مكانة العلم والعلماء: “قل هل يستويالذين يعلمون والذين لا يعلمون” و “إنما يخشى الله من عباده العلماء“. هذا فضلًا عن أنّ الله أمر نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أول ما أمره بالقراءة والفهم في آية علمية بامتياز هي آية الخلق، قبل أن يأمره بإقامة فرض أو بالإتيان بسُنة: “اقرأ باسم ربك الذي خلق“. فلا مزايدة إذن على الإسلام كمنظومة فكرية وكمنهج للحياة في قيمة العلم الوظيفية وفي مكانة العلماء الاجتماعية.

ويمضي القرآن الكريم بخيط رابط في شرح التكامل بين الأسباب ونتائجها: “أريتم ما تحرثون، آ أنتم تزرعونه أم نحن الزارعون” لتبقى عملية الزرع أولا ثم الإرادة الربانية ضروريتين معا للوصول إلىالحصاد. كما أنّ التناسل يتطلب بدروه تلاقحا وخلقا معا: “أريتم ما تمنون، آ أنتم تخلقونه، أم نحن الخالقون“. وهكذا في الكسب وفي الإنتاج وفي العمل وفي التعليم وفي التطبيب وفي سائر أمور الدنيا، لا بد من السبب يأتي به الإنسان، ومن الإرادة الإلهية للوصول إلى النتيجة الطبيعية، وإلاّ ما كانت لتفشل عملية في أي مجال مثلما يحدث في كثير من الحالات وقد قضت سنّة الله أن تتفاعل الأسباب لمن يفعّلها. ولعل في آية “إياك نعبد وإياك نستعين” تلخيص هائل لما سبق. ذلك أنّ العمل فيما وبما يرضي الله عبادة، وعون الله تكملة، والتتابع الذي جاءا فيه في الآية يدل على ضرورة الجمع بينهما.

وهكذا، فإنّ اللجوء إلى العلم وأهله مع الرنة إلى الله تعالى، لا يتناقضان بل يتكاملان في العقيدة الإسلامية. أما الأخذ بالأسباب وحدها، فإنه يختزل الإنسان في مادية الذات والعقل فحسب، في الوقت الذي يتكون فيه الانسانمن نفس وروح كذلك. وهكذا، من المعلوم بالضرورة في الثقافة الإسلامية ألا تدين بغير علم ولا علم ينفع بدون وحي رباني يؤطره ويوجه الفكر.وما الاختلاف الطبيعي بين الناس إلا من خلال جاذبيةالروح مقارنة مع جاذبية النفس. ذلك أنّ العقل– تلك القوة الخارقة التي حبا الله الانسانبها –يتأثرفيستجيب للجاذبية الأقوى بينهما. وما كان لاختلاف أن يكون بين الناس لولا حكمة الله، حيث قال سبحانه: “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا ما شاء ربك، ولذلك خلقهم“.

في الأخير، ومن باب المزاوجة بين العقل والنقل، أو بين العلم والدين كما تقتضي حقيقة الأمور في الدنيا، ندعوالله تعالى أن يرفع الداء والبلاء والوباء عن البشرية جمعاء؛ ونشكره على نعمة العقل والعلم والعلماء؛ كما نوجه تحية شكر وتقدير واحترام لكل العاملين والمساعدين على مواجهة فيروس كورونا المستجد عبر العالم، ونناشد إخوتنا في الإنسانية أينما وجدوا بمزيد من الصبر والتعاون والتضامن، واحترام إجراءات الوقاية وفي مقدمتها الحجر في البيوت وفقا لما تقرره السلطات.

وأختم محاولتي هذه بالتساؤل أما آن لعصر الأحادية الفكرية وإقصاء الاختلاف أن يموت ويقتنع الناس أنه بالتعايش والتعاون والترشيد والتكامل من جهة، وبالروح والعقل معا من جهة أخرى، يحيا الإنسان؟

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *