وجهة نظر

فيروس كورونا وأطروحات ما بعد الحداثة

مع ظهور فيروس كورونا المستجد كوفيد 19 – COVID 19، ولأول مرة في التاريخ الحديث ما بعد الحربين العالميتين، أصبحت البشرية جمعاء مهددة، لكن هذه المرة من طرف عدو لامرئي. لقد دخل العالم برمته في مرحلة الأعداء اللامرئيين مثل حروب الفيروسات ووكلاء الحروب الاٍلكترونية، حيث بدت هذه الأخيرة تائهة وضعيفة ولم يعد بإمكانها التحكم في مصيرها أو هكذا تبدو على الأقل ، بيد أن تصريحات السياسيين أمثال الرئيس الاٍيطالي { لقد استنفذنا حلول الأرض وبقيت حلول السماء } ورئيس الوزراء بريطانيا { ستفقدون الكثيرن من أحبائكم … } والرئيس الأمريكي { الفيروس الصيني …لا يجب أن نضحي بالاٍقتصاد ، سوف يموت بعض الناس وستعود الأمور اٍلى وضعها الطبيعي مع شهر أبريل … } ، يكتنفها الكثير من الغموض وتحتاج اٍلى الكثير من التأني من أجل اٍستجلاء مكامن اللبس فيها ومن أجل تفكيك شفراتها اللغوية والتداولية وقد نكون اٍزاء هذا الموضوع بحاجة اٍلى براديغم تحليل الخطاب السياسي من أجل الوقوف على الاٍواليات الدلالية لهذه المنطوقات السياسية ، وبدون أن نتسرع في اٍصدار الأحكام الجاهزة أو اٍطلاق العنان للأيديولوجيا ، سوف نكتفي بالرصد العلمي والمعرفي ونضع علامة استفهام كبرى أمام هذه التصريحات.

لقد بدا واضحا أن المجتمعات خاصة الغربية لم تعرف كيف تدبر المرحلة رغم كل التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي حققته في العشريتين الأخيريتين من القرن العشرين والعشريتين الأوليين من القرن الواحد والعشرين، فهل بدأ الموت ينتشر في جسد الحداثة الغربية ولم تعد قادرة على العيش؟

يرى جون فرانسوا ليوتار – Jean François Lyotard ، وهو من فلاسفة ما بعد الحداثة – Postmodernité بانهدام كل فلسفات التاريخ التي تعتقد أن بالإمكان التنبؤ بمستقبل الاٍنسانية وتحديد مصيرها ، ويتجاوز ما يسميه ” الحكايات الكبرى – Les grands récits ، وهي المرويات التي تأسست على كبريات الفلسفات التي أطرت الفكر الغربي و هيكلت الصيرورات الكبرى التي قطعها الوجود الاٍنساني ، وتتجسد هذه المرويات في ” جدلية الروح ” ل هيجل و ” هيرمينوطيقا المعنى ” ل ريكور و ” تحرير الذات العاملة أو تحرير العامل ” ل ماركس و ” نمو الثروة ” ل آدم سميث ، وكل مرويات الليبرالية والرأسمالية والاٍشتراكية ، وكل معرفة تنهل من هذه المرويات أو تربط وجودها المعرفي بها ، وتسمى هذه الحكايات حسب ليوتار بالخطابات الحداثية .

لقد فقدت المعرفة في ظل المجتمعات المعلوماتية التي تجاوزت مرحلة المرويات الحداثوية طابعها الفلسفي والكوني وأصبحت معروضة للبيع ، في حين لا توجد المعرفة اٍلا بغرض تبادلها ، لقد توقفت عن أن تكون غاية في حد ذاتها ، لذلك فهي في صراع دائم وتنافس شديد مه نمط آخر من المعرفة يصفه ليوتار بانه ” حكائي – Narratif ، في هذه المرحلة طغى اٍقتصاد مختلط ذي سمة تقنية – علمية ، و تداخل ما هو سياسي مع ما هو اٍقتصادي نتج عنه ظهور مقاولات ضخمة وطنية أو متعددة الجنسيات ، وفتح المجال لتفاعل المجال التقني – العلمي مع المجال السياسي – الاٍقتصادي ، حيث هيمن الأول على الدول والمقاولات في شكل ميزانيات عسكرية مثلا لغزو الفضاء ، ميزانيات نووية ، ميزانيات بيولوجية ، ميزانيات سيكو- سوسيولوجية ، مثلما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية .

كانت نتيجة هيمنة الاٍقتصادي على كل الاٍستراتيجيات والتنظيمات التي تخص الميادين الأخرى هي ظهور السوق العالمية المتميز بمراكمة ضخمة لرساميل عابرة للقارات وما رافق ذلك من أزمات ، لقد غدا المنظور المعرفي الذي كان يتصور اٍشتغال الرابطة الاٍجتماعية على شاكلة الأعضاء البشرية مثل التوجه الوظيفي ل تالكوت بارسونز ، متجاوزا ، وكذلك التصور الماركسي الذي يقسم المجتمع اٍلى طبقتين هما طبقة البورجوازية والطبقة العاملة أو البروليتاريا ، وتغيرت مكونات الرابطة الاٍجتماعية وتبدل دور الدولة بعد أن أصبحت الطبقة المسيطرة هي طبقة أصحاب رؤوس الأموال وهم أصحاب القرار الاٍقتصاديين الرأسماليين – Les décideurs entrepreneurs capitalistes . لقد انتهى عصر الدولة – الأمة – L’Etat nation ، الأحزاب والمؤسسات والتقاليد الديمقراطية التاريخية ، وانتهى دور السياسي – Le politique لصالح المقاول التقنوقراطي ، حلت الفعالية والاٍنجاز والقيمة التبادلية محل الحلول السياسية المبتكرة ، وانتهى دور الأبطال والأسماء التاريخية البارزة { ماو تسي تونغ – فيديل كاسترو – ستالين ، جواهر لال نهرو …} الخ ، وتفككت الرابطة الاٍجتماعية التي كانت ترتكز على التعاون والتضامن الاٍجتماعي اٍلى أشكال جديدة من التضامنات مركبة من ذوات فردية ملقاة في حركة عبثية ، والتي تعتبر سمة من سمات الحداثة الأساسية ، لصالح الاٍستثمار اللانهائي في الرغبة اللانهائية للإنسان ،وأصبح البراديغم المعلوماتي هو البراديغم الحري بتفسير الظاهرة الاٍجتماعية بعد انهدام كل السرديات التي قامت عليها الحداثة .

في هذه المرحلة التي يصنفها ليوتار بمرحلة ما بعد الحداثة ، ظهر فيروس كورونا ليعلن عن موت الحداثة الغربية الفعلي ، فعجز الحكومات الغربية عن مواجهة هذا الوباء وفشلها في تدبير المرحلة ودخولها في نوع من التهجس الأخلاقي وميلها اٍلى تغييب العقل وعودتها اٍلى الخرافة والميتافيزيقيا والاٍيمان هو مؤشر من ضمن مؤشرات عدة على الاٍنهيار الفعلي للحداثة بكل ما تحمله من مبادئ وقيم ٍانسانية ، فغياب قيمة التضامن بين أعضاء الاٍتحاد الأوروبي خاصة اٍحجامه عن دعم اٍيطاليا التي تعاني أكثر من غيرها من دول الاٍتحاد جراء انتشار الوباء فيها على نطاق واسع دفع الكثيرين اٍلى التساؤل حول الجدوى من الاٍتحاد أصلا وبدأ الكثيرون يتشككون في العلة من وجوده ، وتسبب الشعور بالخيبة من تخلي الاٍتحاد عنهم اٍلى بروز أفكار وآراء عديدة سوف يكون لها بالغ الأثر على مستقبل الاٍتحاد وعلى وجوده كذلك ، وعلى النقيض ظهرت فعالية الأنظمة الشمولية في استيعابها للوباء والقضاء عليه بسرعة بنوع من الثبات والثقة ، فالصين الكونفوشيوسية وبقايا الشيوعية استطاعت أن تعيد النشاط اٍلى دواليب اٍقتصادها بعد بضعة أسابيع فقط من المعاناة ، في حين أعلنت الحكومات الغربية عن تكبد اٍقتصادياتها لخسائر فادحة جراء الشلل العام الذي أصاب النشاط الاٍقتصادي بسبب الاٍجراءات الاٍحترازية التي اتخذتها الدول بعد مدة غير يسيرة من التذبذب والتردد ، لكن وفي المقابل ، رغم أن هذه الخسائر يمكن أن يعتبرها البعض منتظرة ومتحكم فيها وأن الاٍقتصاد العالمي سوف يقفز نحو طفرة غير مسبوقة بعد انحسار الوباء { تصريح دونالد ترامب } ، وبالعودة اٍلى تصريحات السياسيين والمسؤولين الحكوميين الأوروبيين والغربيين عموما ، ألا يعتبر من السابق للآوان القول بأن تخاذل الحكومات في اٍنقاذ المصابين وفي اٍغاثة بعضها البعض في هذا الظرف العصيب يبرره اٍنهيار منظومة الأخلاق والأفكار الحداثية ؟ ألا يجوز أن يكون للمنظور الاٍقتصادي خاصة الليبرالية والعولمة، من حيث هو المهيمن الدور البارز والرئيسي في كل ما يجري على الساحة الأوروبية والدولية على حد سواء؟

كيف يمكن للعالم المتقدم مع كل الطفرات العلمية التي خطاها أن يتقهقر بهذه السرعة أمام فيروس يصنفه الأطباء والمختصون أنه من أضعف الفيروسات؟ فالمعلوم أن فيروس كورونا هو من فصيلة الفيروسات التاجية وهي أسرة معروفة جدا من طرف الأطباء والخبراء، وهو امتداد لعائلة ” السارس – SARS 1 RARS 2، الذي ظهر في سنة 2003، بحيث تم التحكم فيه بسرعة. وكيف لم تستطع شركات الأدوية والمختبرات العالمية الكبرى أن تكتشف اللقاح لحد الآن؟

* باحث في العلوم السياسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *