منتدى العمق

الاستعداد لرمضان في زمن الكورونا: توبة واستغفار وتدبر للقرآن

الله أحمد، وبوحدانيته أشهد، وأصلي وأسلم على النبي محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الأمجاد وبعد؛

يَقْدم علينا رمضان المبارك لهذا العام على غير العادة ، فالعالم قد أصيب بوباء كورونا الذي استدعى تطبيق “الحجر الصحي” ،فأغلقت المساجد ،ومنعت خطبة الجمعة ، ودروس الوعظ والإرشاد التي كانت توظف قُبيْل رمضان لتحفيز العزائم وترغيب الضمائر  بقصد أداء أحسن في الشهر الكريم.

وفي هذا السياق؛ ارتأيت المساهمة بهذا المقال المتواضع للتذكير بنعمة رمضان وسط هذه الجائحة.  وقد ثبت أن أَتْقن الأعمال ما كان مسبوقا باستعداد ذهني وتخطيط قبلي،فالسلف الصالح للأمة يستعدون ستة أشهر قبل رمضان ،ويجنون ثماره بعده ستة أشهر ،فيعشون رمضان العام كله. وحُقّ له ذلك ، لأنه شهر التوبة النادرة ،وتوبته ليست كأي توبة، لأن ميزان الابتلاء يكون في رمضان لصالح المؤمن ، بعد أن كان التوازن بين بواعث الخير وبواعث الشر لقوله سبحانه:{ونفس وما سواها .فألهمها فجورها وتقواها..}(الشمس.7و8)،إذ الملائكة تلهم الإنسان الخير ، والشياطين تستفزه إلى الشر. إن هذا التوازن ليس كذلك في رمضان ، فالله يضعف من حظ الشيطان لقول الرسول صلى الله عليه وسلم :)إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين)متفق عليه.وقال عليه الصلاة والسلام:( …وينادي مناد :يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر ،ولله عتقاء من النار في كل ليلة ) .رواه الترمذي وصححه الألباني. وهكذا يَضْعف الإقبال على الشر بتوبة كثير من الضالين ،رغم عودة بعضهم أدراجه بعد رمضان.ولهذا؛ استحق هذا الشهر المبارك-لهذا العام-الاستعداد المبكر له ،فقد تزامن مع المكوث داخل البيوت، وغياب  مظاهر الإسراف القبلي استعدادا  له في الشوارع ، مما يمنحنا في هذه السنة فرص متعددة ومنها:

القدرة على التهيؤ القبلي بأدوات العمل النافع.

تصحيح الأعمال وتقويتها في شهر رمضان.

إعادة ترتيب العبادات على الوزان الرباني.

الانقطاع عن الشهوات المحرمة.

ويجمع كل ذلك في: أن رمضان هذا فرصة سانحة للتوبة ، وإعلانا للمصالحة مع الله سبحانه والعداوة الصريحة لإبليس ، فهي فرصة وجب اغتنامها خاصة أمام ظروف العصر العصيبة  وفتنه المتوالية التي تقدم مواعظ وعبر لأولي الألباب –أبصرها من أبصر- كما ثبت من خلال آيات متعددة . فهيا بنا لنتدبر واحدة منها عسى أن نبصر ، ونتعظ من وباء كورونا ! وهي قوله تعالى:{إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كان لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون}.(يونس.24).                                        قال ابن كثير:(ضرب الله مثلا لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها،بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض بما أنزل من السماء من الماء، مما يأكل الناس من زرع وثمار على اختلاف أنواعها وأصنافها ، ومما تأكل الأنعام من أب وقضب وغيرذلك.(حتى إذا أخذت الأرض زخرفها) أي: زينتها الفانية ،وازينت ،فحسنت بما أخرج من رباها من زهور نضرة مختلفة الأشكال والألوان ،(وظن أهلها) الذين زرعوها وغرسوها(أنهم قادرون عليها) أي: على جذاذها وحصادها ،فبينما هم كذلك إذ جاءتها صاعقة ،أو ريح باردة ، فأيبست أوراقها ، وأتلفت ثمارها، فقال سبحانه:(أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناه حصيدا كأن لم تغن بالأمس)الآية.أي:يبسا بعد تلك الخضرة والنضارة وكأنها ما كانت حسناء قبل.)( تفسير ابن كثير.260\4).

وقال سبحانه في نهايتها:(كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون).قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله🙁 والعبرة لمسلمي عصرنا في هذه الآيات البينات المنزلة وأمثالها).( المنار284\11).

وهكذا؛ فأنت ترى أن الله جل وعلا لايأخذ الأمم والحضارات إلا في قمة العز المادي والطغيان الأرضي ،وشاهده في القرآن والتاريخ لا ينحصر،ويكفيك منه ما وقع للفرعون، وصاحب الجنتين، وأصحاب القرية في سورة “يس”،حتى قال سبحانه:{إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون}(يس.28).وقال أعز من قائل :{وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا}.(الإسراء.16)

وفعلا في عصرنا الحالي ،قد أخذت الأرض زخرفها حتى صارت مدن العالم تتسابق في الذكاء وكأنها جنان فوق الأرض ،فطالت الزخارف كل تجليات الحياة بوسائل إلكترونية وتكنولوجية نتيجة الثورات العلمية المتلاحقة.وهنا ظن أهلها أنهم قادرون على التحكم في كل شيء ،فجربوا الاستنساخ والتعديل الوراثي،وطوروا الترسانة العسكرية ،وتحكموا في رقاب الشعوب حتى مزقت الدول إربا إربا، بل وأعلن موت الإله. ولهذه الأسباب؛أتاها أمرنا ،لأنه سبحانه مدبر أمره ،متحكم في ملكه،فجعلها حصيدا كأن لم تغن بالأمس ،واختفت كل مظاهر الزينة والخُضْرَة في لحظةٍ واحدة.         والخلاصة من هذا التدبر ؛أن تسويفك للتوبة- في هذه الظروف -خطأ فادح ،فعليك باغتنام فرصة رمضان للتوبة الصادقة النصوح لأن {الله يريد أن يتوب عليكم}(النساء.27)قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له)رواه أحمد وصححه الألباني.

واعلم أن علامة التوبة الصادقة هي:إقبالك على القرآن تلاوة،وتدبرا ،وعملا بأحكامه وقيمه تزكية للنفس والمجتمع،وإكثارك من كل أعمال البر والإحسان التي برزت للعيان في هذه الأحوال الطارئة.لكن يظل القرآن أفضلها لأنه به يُعَرَّفُ رمضان لقوله تعالى:{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ..}(البقرة.185)،فبطاقة رمضان التعريفية ارتبطت إذن بالقرآن لقوله سبحانه:{إنا أنزلناه في ليلة القدر}(القدر.1).بل ارتبطت بالوحي كله؛إذ فيه أنزلت جميع الكتب السماوية ،فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله:(أنزلت صحف إبراهيم عليه السلام في أول ليلة من رمضان ،وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشر خلتمن رمضان ،وأنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان). حسنه الألباني .فكان عليه الصلاة والسلام أجود بالخير من الريح المرسلة إكراما وفرحا بالقرآن،وكان جبريل عليه السلام يدارسه القرآن في كل ليلة.

وهكذا؛ قد بدا لي ولَكَ أيها العبد التائب ،أن قراءة القرآن هي أُسُّ الأعمال الصالحة، فحافظ عليه بحسب الطاقة والاستطاعة بصلاة القيام ،إما في الجوامع –إذا رفع الحجر الصحي-أو في البيوت أفرادا وجماعات أسرية.

وإياك أن تهمل تدبر القرآن –كما تكلمنا عنه سالفا- فلا بد من مدارسته في المجالس الأسرية ،لأنه علامة توبتك الصادقة،وتمعن معي دعوة الله لنا:{ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}(آل عمران.79).وتلقى معي أثر مدارستك له في قول النبي صلى الله عليه وسلم:(ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله ،يتلون كتاب الله  ، ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة ،وذكرهم الله فيمن عنده). صحيح مسلم.فماذا تنتظر؟       وبهذا المنهج تصيرلك الكلمات القرآنية أقوالا وفهوما وأعمالا وحركات ، كما أنك تستفيد من حظ الخير الغالب في الشهر المبارك ، فتتحصل التوبة النصوح ، وتدخل في مسلك التائبين العابدين الراجعين إلى ربهم-إن شاء الله- ممن قبل  توبتهم ، وغفر لهم ،فالنبي صلى الله عليه وسلم يبشرك قائلا:( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ماتقدم من ذنبه) رواه الشيخان. وبقبولك في مسلك العابدين ،يستجيب المجيب  لدعائك–بحوله وقوته- ، فهو  يخاطبك سبحانه في سياق التزامك بأحكام رمضان وحدوده قائلا:{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب …}(البقرة.185).فتكثر من الدعاء خاشعا متضرعالإصلاح ما بالنفس والمجتمع ،وتقتدي  بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لرفع هذا الوباء قائلا:(اللهم إنا نعوذ بك من البرص والجنون والجذام وسيء الأسقام). آمين.والحمد لله رب العالمين.

عبد المالك اسلامة:أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • نزهة اسلامة
    منذ 4 سنوات

    جزاك الله خيرا على هذا التذكير الذي ما أحوجنا إليه خصوصا في هذا الوقت العصيب. ولنعتبر هذا الحجر الصحي هو جلسة تأمل وصلح (او جلسات) لمراجعة علاقتنا مع الله أولا، ثم مع أنفسنا ثانيا،ومع الناس ثالثا. جعل الله هذه الأحرف في ميزان حسناتك وحسنات والديك ومن علمك ورباك، سلمت أناملك -دمت متألقا دائما وأبدا - إطلالة جديدة بحلة جميلة بفوائد عظيمة -تابع على هذا المنوال . وفقك الله لما يحب ويرضى.