منتدى العمق

المضمر في رواية الحركة لعبد الإله بلقزيز

الحركة رواية تاريخية، عادت بنا إلى حركة عشرين فبراير، مصورة الحركات النضالية الشبابية في تلك الفترة، حركات نضالية تَنشطُ في مدن كبرى بالمغرب، وفي الجامعات والأحياء الجامعية، ومُحدِدة أيضا لبعض المواقف الفكرية والإيديولوجية، التي يتمتع بها المناضلون الشباب، وقربتنا الرواية من حركات الربيع العربي في مختلف الدول العربية، وعَبر شخصيات الرواية تسلل عبد الإله بلقزيز إلى طبيعة الأشكال النضالية التي كانت تُقام في تلك الفترة، الرواية واضحة المعالم والخطوط، إنها ترسم صورة عن الإنسان المناضل، وعن مطالبه المشروعة، والذي كان يتكلم بلسان الشعب الصامت، متحديا عقاب السلطات ونتائج التمرد المغبونة والمَزِقَة، الحركة عمل مُصورٌ لمناضلين حقيقيين وانتهازيين، في فترة المطالبة بالحرية والعدالة والملكية البرلمانية.

موضوع الورقة بعد هذا المدخل المؤطر لمسارات رواية الحركة وموضوعاتها الظاهرة، هو الحديث عن الأشياء المضمرة في هذا العمل السردي، وسيتم إبرازها بأخذ نصوص من الرواية والاشتغال عليها، وتحديد معانيها، لكون أن العمل الأدبي غير خاص بصاحبه فقط، وليس بالضرورة أن نقف عند مقاصده التي يعبر عنها، بل نتعدى ذلك لجعل ما نراه متقاربا مع تمثلات القارئ، وقابلا للمشاركة معه، وكما يقول تيري إيغلتون في كتابه: “كيف نقرأ الأدب”: “إن العمل الأدبي لا يمكن أن يعني شيئا ما لي أنا وحدي، فأنا قد أرى فيه شيئا ما لا يراه غيري، لكن ما أراه ينبغي من حيث المبدأ أن يكون قابلا لمشاركة الآخرين فيه كي نسميه معنى”، وينبغي أن نكون حذرين من الرواية؛ لأنها غالبا ما توقع القارئ غير الحذر في الفخ، “إنها تنصب فخا” كما قال ايغلتون، وسنتناول في الورقة ما يأتي:

الإنسان المناضل أو المناضل إنسانيا:

أبدت رواية الحركة صورة عن المناضل الإنساني، الحامل للقيم الإنسانية السمحة، فقبل أن يكون الإنسان مناضلا، لا بد أن تتجسد فيه صورة القيم، ليساعد زملاءه وأصدقاءه المناضلين، تجلت هذه الصورة أساسا في العلاقات المبنية على الأخوة بين أبطال الرواية في تعاطفهم فيما بينهم، وخلقهم جوا تعاطفيا، وتشاركهم أحزانهم وأتراحهم فيما بينهم، فكأنهم عائلة واحدة. جاء في الرواية على لسان حسن: “طلبوا مني، ألا أشغل نفسي بحصتي في الإيجار والمعيش، وأنهم لن يستلموا مني درهما”،21.

إنه لما اشتدت معاناته في الاستقرار والبحث عن سكن للكراء، وعدم توفره على مال يكفيه لتحقيق هذه المطالب، اضطر أن يسكن مع أصدقائه، فلما علموا بحاله وظروفه الأليمة والشديدة، أخبروه بأن يستقر معهم دون أداء أي واجب على ذلك، هنا تتبدى الروح التضامنية والإنسانية في الطالب المناضل، دائما ما يتساند من أجل الإسهام ولو بشيء قليل، يشجع على مواصلة الكفاح والنضال، تحقيقا للمطالب المشروعة، وتأكيد هذا السند والتعاون والأخوة بين المناضلين متجل في النص الآتي: “لم يكن سبب معاناتي ما بات عليّ أن أقطعه من مسافات بين مكانين متباعدين كلّ يوم، ولا حتى ما يسبّبه لي البقاء في وسط المدينة أثناء الظهيرة من إرهاق، ولكن مصدر معاناتي الكبير أنني لا أستطيع أن أساهم مع زملائي في أعباء إيجار الشقة، التي استضافوني فيها، ولا في مصروف وجبات الطعام؛ فالذي أملكه، مما أقترضه من بعض رفاقي في الحركة”،ص21.

وأنت تقرأ وتنصت إلى النص تتذكر الإنسانية التي صاحبتك حينما كنت طالبا من قبل بعض الطلبة، أو ما زالت تصاحبك إلى الآن وأنت طالب، فهي الروح التي الإنسانية التي ينماز بها الطالب عامة، والمناضل على الخصوص، فأنْ تكون مناضلا معناه أن تكون إنسانيا، وأن تكون ذا مبادئ إنسانية، فالمناضل الحقيقي يحمل هدفا أسمى، يسعى لتحقيقه مهما كانت طبيعة المصاعب والمتاعب، وتحقيق هذا يحتاج إلى تآزر أخوي، وتلاحم إنساني.

هاته الروح الإنسانية في المناضل لا يتمتع بها إلا المناضل الحقيقي، لا المزيف، وتظهر مطالبهم في أن “بعضهم يطالب بالحرية ويهاجم الاستبداد، وبعضهم يطالب بالعدالة ويندد بالفوارق الطبقية والفساد، وبعضهم يطالب بالملكية البرلمانية ويتندر بالمخزن”ص102.

المناضل المثقف:

أظهر عبد الإله بلقزيز بأن المناضل يجب أن يكون مثقفا وقارئا، وجميع الشخصيات في الرواية تعبر عن هذه المسألة، فالنضال غير مُوكل بالحماس والتقليد فحسب، أو الزعم غايةً في التشهير أو الظهور، بل إن الحركية تقتضي منك وعيا نقديا، وبداهة ظاهرة، وشجاعة معرفية، وأن تكون فصيح القول، نافذ البصيرة، سديد الرأي، ومتسع الخاطر، لا متعصبا للمواقف وميّالا لرأيك دون رأي الرفاق؛ لأن هذا يورث التبدد والتفكك، والتباعد، والتنفر والخذلان، جاء في الرواية ما يلي:”أحترم لحظة القراءة ولا أسمح لنفسي بالاعتداء عليها”، ص156.

شخصية حسن المناضلة وغيرها من الشخصيات في الرواية، يضمر فيها الكاتب بلقزيز صفة الإنسان المثقف القارئ، فليس سهلا أن تتزعم ساحة النضال، وأن تقود جمهورا من الناس ليطالبوا بأمور تحسبها الدولة تهديدا لنظامها الأمني والمخزني، فميزة المناضل يتقيد بها كل من يتميز بالفكر والمعرفة والثقافة والوعي، ولن تجد مناضلا يرفض التعلق بالأفكار وبالكتب وما شابه هذا الأمر، إنه دائما حبيس الارتقاء بنفسه لتوعية الناس، لدخول “عالم النضال من أجل الحريات العامة وحقوق الإنسان” وفضح انتهاكات السلطة لحقوق الإنسان، وكشف أوضاع المعتقلين السياسيين في السجون، ومصير المخطوفين الغامض حتى اليوم، والاحتجاج على محاكمة الصحفيين، وتغريم الصحف.”،ص24.

فحسن كما قال بلقزيز: “كانت عزلته، ولُوَاذُه الدائم بغرفته، واستغراقه في القراءة، وقلة اختلاطه بالأصدقاء…، هو ما صنع منه شابا مهما”، ص171، نرى هنا أن المناضل جامع لمميزات عديدة، أجلّها وأظهرها الحس الثقافي والإنساني.

تقديس الشعب للمخزن والسلطة:

تستضمر أحداث رواية الحركة جانبا آخر، هو القداسة التي تجلت في الشعوب تجاه السلطة، وهذه قداسة تُخلف أثرا سلبيا في ساحة النضال، بفعل جَهل عامةِ الناس للمطالب التي يدافع عنها المناضلون، ويسعون لكسبها، ودائما ما يحمل الوعي الجمعي أن الطرف المناضل طرفٌ يريد الفتنة والضلالة، ويحقد على الدولة ويسعى لتخريبها وإفسادها، وحتى الإعلام يسهم في تقريب هاته الصورة أكثر من الشعب، هذا التخوف المجحف، والقداسة المعتمة، بادية في قول الهاشمي: “إن من يعارض المخزن لا يمكن إلا أن يكون أحمقا، هو على حقّ، لا يمكن إلا أن يكون أحمقا”ص30.

ما جاء على لسان الهاشمي، هو ما يمكن تعميمه على الأسرة المغربية في تقديسها للسلطة المخزنية احتراما لها من جهة، وتخوفا منها من جهة أخرى، ومكامن الضعف في أنهم لا يستطيعون الدفاع عن حقوقهم، وسياق القول في الرواية، أن أبا حَسنٍ منع ابنه الخوض في متاهات السياسة والنضالات، خشية أن يُقبض عليه أو يُسجن، وردَّ حَسن عن قول أبيه، قائلا: “كل المغاربة أهلي، وكل الوطن بيتي”، فردّ عنه أبوه مستهزئا متسحرا: “طيب اذهب إلى أهلك جميعا، ودعهم يوفرون لك حاجاتك من مأكل وملبس، ودع الوطن يفتح لك غرفة للنوم”، ص28.

لربما إن ردّ الأب يحمل معنيين، المعنى الأول أنه متخوف من سجن ابنه، وهذا يكرس معنى قداسة المخزن، والمعنى الثاني: أن الأب واعٍ بأساسيات النضال وسياسته في المغرب، بأنه قائم على الانتهازية وقضاء المصالح الشخصية، ثم التملص من بقية المناضلين الشباب وإنكارهم، دليلنا قول بلقزيز: “لقد صنعها هؤلاء، لكن الذين سيحصدون نتائجها غير الشباب” ص131.

منطوق النص وارد وحاضر بقوة في نضالات كثيرة، ولكن هذا لا يمنع من مواصلة النضال، والكفاح من أجل تحقيق المطالب، ففي مقابل وجود قداسة، فهناك مناضلون حقيقيون غير انتهازيين، نشأوا من أُسرٍ مناضلةٍ منخرطةٍ في أحزابَ متعددةٍ، جاء على لسان حسن: “صحيح أن كثيرا من رفاقي في الحركة أبناء مناضلين يساريين: حزبيين أو جمعويين، ومنهم فؤاد، ووليد، وياسر، ومريم، وسليمة، ونبيلة، غير أن منهم أمثالي ممن ليس بين آبائهم والسياسة إلا حجاب…ها هم الآباء يسلمون لأبنائهم زمام المصير، ويمشون وراءهم بعد سنوات طويلة كان أبناؤهم تبعا لهم”، ص19.

فالنضال شمعة مضيئة وسط جهل الناس الحارق، ففيها يستنزف الإنسان طاقته، وفكره، وحياته، ويسمح في كل شيء، من أجل الدفاع عن حقوقه، رغم أن عامة الناس تجهل ذلك، و”لن يطول موعد ذلك اليوم الذي سيقتص فيه المناضلون من مصاصي دماء الشعب والخونة والانتهازيين”، ويمسي المناضلون قبسا يشعون في كل مكان، “المناضلون الحقيقيون لا يتنطعون ويتصدرون مشهدا لم يصنعوه”،ص193.

قادنا بلقزيز عبر شخصيات الرواية إلى التعبير عن مواقف فكرية وقواعد مرتبطة بالنضال، وبالحركات النضالية التي وقعت في المغرب، وأخيرا نقول ما قال ميلان كونديرا: إن “كل قارئ، عندما يقرأ، يغدو قارئا خاصا لذاته”.

* طالب باحث في صف الدكتوراه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *