منتدى العمق

الغزو الإلكتروني أو التسميم المعلوماتي

سعى الإنسان في بداياته الأولى إلى التحرر من الأشياء عن طريق ترميزها، وإلى معرفة العالم المحيط به عن طريق الحواس وتلمس الأشياء التي تفرضها الحاجة إلى الاستمرار وحفظ النوع البشري ؛ فشكل تبادل الأسماء المتواضع عليها والخبرات البسيطة الممكنة تقاسما للحرية و إحساسا بالتفوق والقدرة على التحكم في الأشياء ومصائرها. وكانت الأسماء نادرة ندرة الأشياء التي يستخدمها الإنسان في حياته، لذلك كان من اليسير نقلها وتذكرها. لكن مع تقدم البشرية وظهور العلوم بمختلف أصنافها، كان من الطبيعي أن يكرس البعض حياته لطلب العلم بشكل موسوعي ، قبل أن يفرض توسع العلوم التخصص .لذلك؛ انتقل مفهوم المثقف – إذا سمحنا لأنفسنا باستخدام المصطلح الحديث- من العالم بكل شيء ، إلى الملم بالنصوص الكبرى ،ثم إلى المتحكم في تخصصه مع الاطلاع على الشأن الجاري ، و أخيرا إلى الخبير القادر على حل وضعيات مشكلة دون تبين غاياتها.

علينا أن نذكر، في هذا المقام ، أنه في تسعينيات القرن الماضي، خرج المنتصرون إلى العالم متباهيين بنهاية التاريخ، وأن لا تاريخ بعد الليبرالية الشاملة والحتمية، و أن ما كان قبلهم غير البدايات. لقد بشرونا أن الديمقراطية ستصير منهجا وحيدا لتدبير الاختلافات ، و أن العالم سيتحول إلى قرية صغيرة يتلصص فيها ساكن نيويورك على أحراش أستراليا وغاباتها، ويطل فيها قاطن البيضاء على “الشانزليزيه”، ويتطلع فيها ساكن جدة إلى الباحثين عن الحرية في “سيتي جاردن” او سارقي القبلات على ضفاف “الراين”. استطاع المنتصرون اقناعنا بموت السرديات الكبرى ، وأن العصر عصر الخبراء والمعلومات اللقيطة ، فأصبحت المعلومة تطلبك حيث أنت وتقتحم عليك خلوتك ، و أصبحت نتف المعلومات – حتى لا اقول الشذرات- أعز ما يطلب، وأصبح المثقف لا يتبين أصولها ولا منطقها الداخلي ولا غاياتها ، ولا يتحرج من أن يتقاسم مع رواد العالم الأزرق معلومات متناقضة و أفكارا مجتزأة تجعله ليبراليا في الصباح ، وشيوعيا بعد القيلولة ، ومتدينا في الهزيع الأخير من الليل وفي كل النهايات.

لقد تحولنا ،جميعا، إلى جنود في جيش لانعرف قادته ولا غاياته ولا الأراضي التي سيجتاحها ونحن نشارك الآخرين معلومات لانعرف صحتها ولا خلفياتها، وكأننا نلعب لعبة نستمتع فيها بوسائل التواصل الاجتماعي وتحقيق السبق، دون أن نهتم ببناء الإنسان وباحترام ذواتنا ولا بوقع ما نقوم به على المجتمعات التي ننتمي إليها. يبدو أن الجميع نسي أن المعلومة – باسثثناء بعض الميادين- لا تكتسي أهمية إلا بقدر المنهج الذي بنيت به ، و أن بناء الإنسان يكون بإمداده بطرق بناء معارفه(أميل إلى تمييز فوكو بين المعرفة والعلم) ، أو على الأقل التحقق منها؛ كما أن تقاسم المعلومة ليس تسلية ، و إنما هو تعبير عن الذات ، و مساهمة في بناء إنسان أو هدمه لحساب شخص أو جهة ما. لقد أصبحنا

ندخل إلى خلوات الناس دون استئذان ونحن نقاسمهم رغما عنهم رسائل في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي دون أن نحس بأي حرج ، وكأن البيوت أصبحت بلاجدران، و أن العقل أصبحا مشاعا تدكه كل الأقدام والصيحات المعلوماتية. ولم نقتصر على ذلك، بل أسقطنا الحواجز الفاصلة بين حياتنا والفضاء العام، و أصبحنا نقاسم الناس بكل البهجة الممكنة صورا حقيقية أو مركبة لأفضل أطبقانا و أسفارنا ورقصنا وتهجدنا وورعنا وتهتكنا أيضا.

قطعت البشرية طريقا طويلا و هي تسعى إلى اكتمال الأنسنة ببناء الحياة الخاصة وحفظها؛ فكان ذلك بوضع اللباس والجدران والأبواب والرفع من قدر حافظ الأسرار ، أما اليوم فهي تسير نحو تحطيم كل شيء ، وتنزع عنا كل ما أحطنا به أنفسنا لقرون عدة، ومن يدري فربما نقاسم الناس مستقبلا أشد لحظاتنا حميمية واكثرها خصوصية؟؟ فمن يقوى على إيقاف الزحف؟؟؟

* المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين درعة تافيلالت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • سعادة موراد
    منذ 4 سنوات

    لا مجال للشك أن الإنسان اليوم في عصر المعلومات الغزيرة يعيش على صفيح ساخن في مدينة مكتضة غارقة في الفوضى و الحركة، هذه المدينة لها من مفترق الطرقات ما لا يحصى و لا يعد.. و كلما هم هذا الإنسان بالحركة إلا وجد أمامه قرارا حاسما بأخد هذه الوجهة أو تلك، لكن حرارة الصفيح و سرعة الزمن لا تدعان له الوقت كي يأخد وقته الكافي في مآلات كل طريق و نهاياته. أمام هذا الوضع يجد ذاك الكائن المسكين نفسه أمام خيارات ليست بالسهلة، إما أن يحترق فوق الصفيح الساخن و أن يفوته قطار الزمن، و إما أن يطلق العنان للفوضى و اللامعنى و يسير سير الذي مسه الشيطان من المس.. لكن السؤال هل هذا الوضع ناتج عن سير طبيعي للتاريخ؟ هل قدر الإنسان أن يعود إلى بدايته الأولى عاريا من كل القيم و المثل؟ لا شك أن هناك من خبر علوم التاريخ و علم الإجتماع و يعلم علم اليقين أن الإنسان كائن له من السيرورات ما يحكم أفعاله و يحدد مصيره، و مع طغيان المد البراغماتي و ظهور الليبرالية و الغزو الصناعي الإستهلاكي، تم التفكير في اسغلال تلك العلوم من أجل الإجهاز على ذاك الإنسان و جعله كائنا طيعا، يخدم مصالح النيوليبيراليين. لقد اهتدى هؤلاء إلى أساليب أكثر فتكا من السلاح و حشد الجيوش، لقد وجدوا طريقا إلى العقل البشري فبثوا فيه الفوضى- الفوضى الخلاقة بالنسبة لهم- من أجل إحلال اللامعنى مكان المعنى ،و صاغوا نظريات تجعل من الإنسان مجرد كائن مستهلك يأكل من الطعام ما يسمن و يغني من التفكير، جعلوا منه مجرد آلة تلقائية لا تفكر بل تسير مع الركب بشكل آلي-نظرية القطيع لهاملتون- و ذلك كله من أجل السطو على العقل و التحكم فيه كما يشاؤون. بل لقد أغرقوا المجال بالتفاهة واللامعنى حتى طغت على المجال فصارت نظاما يحكم العقل بل العالم كما أشار الى ذلك آلان دونو في كتابه نظام التفاهة. إنها نظرية المؤامرة التي ما زالوا يشككوننا فيها، كي يقتلوا فينا آخر عرق ينبض بالشك، حتى نصير طعما صائغا بين فكي الآلة الليبرالية المتوحشة. إن قدر الإنسان في هذا العصر الزاخم، إما أن يكون فاعلا متحكما في نهج تفكيره مجاهدا كي ينقي طريقه من الأشواك، و إما أن يكون مفعولا به يسير هائما على وجهه إلى وجهة لا يعرفها و لا يعرف خلفياتها و مقاصدها.. شبكات التواصل الإجتماعي لا تخرج عن هذا النطاق، فهي حبلى باللامعنى و الفوضى بل بالتفاهة و التافهين.. فقد اجتزؤوا المعلومة عن سياقها و الفكرة عن منهجها مستعملين مقصا كالذي يستعمله مخرجو الأفلام في مونتاجهم كي يهدوا للمستهلك فقط تلك اللقطة البراقة الخادعة تمهيدا لاسقاطه في الشباك... لكن هذا الفضاء فيه أيضا من الياقوت و الزمرد، و للإنسان أن يختار ما يشاء. على الإنسان إذن أن يعي تمام الوعي أنه لا يعيش بسذاجة في كون بريء، فكل الخطى محسوبة إما أن تكون في اتجاه ينسجم مع ذاته الواعية و هويته الجوهرية، و إما ان يفقد البوصلة و يتيه بين لطمات عواصف هائجة في محيط غادر...