منتدى العمق

منهجية البحث في زمن الكورونا

تأبى جائحة كورونا إلا أن تقلب موازين كانت بالأمس القريب مسلمات فلطالما تغنى العالم بكونه قرية صغيرة لا حدود فيها لحركة نقل الأشخاص والبضائع و الأفكار وهاهي القرية اليوم يتوجس بعض أهلها من البعض الآخر حيث المطارات أُغلقت و حركة نقل البضائع خفت وشعارات التعاون بدأت تتبدد حيال واقع يبحث فيه كل غريق عن سبيل نجاته.

لم تكن منهجية البحث (la méthodologie de recherche) وهي مجموع الخطوات المنظمة التي يسلكها الباحث من أجل إيجاد نتائج ذات مصداقية في منأى من عاصفة كورونا. تحظى منهجية البحث بأهمية بالغة في أوساط المجتمع العلمي فهي السبيل للتمكن من النشر في أرقى المجلات و الدوريات، في النظام التعليمي المغربي يبدأ ترويج مفاهيم منهجية البحث بشكل ضمني منذ سنوات الدراسة الابتدائية حيث يكون التلميذ مثلا مطالبا بتحديد المصادر التي اعتمد عليها في إجراء بعض بحوثه على الانترنيت، ويستمر الحال هكذا حتى السنة الختامية من سلك الإجازة حيث يتعرف الطلاب بشكل صريح على مفهوم منهجية البحث وتقنياته ويكُونون مجبرين على إنتاج بحوثهم التخرجية باعتماد إحدى “طرق البحث” (méthode de recherche) المختلفة، في سلك الماستر يأخذ نقاش المنهجية منحى آخر حيث يتحول إلى سجال إبستيمولوجي محض L’épistémologie)) وفي هذه المرحلة تكون بحوث تخرج الطلبة تحت مجهر التقيد بضوابط المنهج العلمي المتعارف عليه، أما في سلك الدكتوراه فيمضي الطلبة الباحثون السنوات الأولى في محاولة للإلمام بخبايا منهجية البحث ليجدوا أنفسهم أثناء مناقشة أطروحاتهم (soutenance de thèse) وسط نقاش و شد و جذب بين أساتذة جامعيين مختلفين حول منهجية البحث.

فجاءت كورونا ! وسط الأزمة سطع نجم عالم الأحياء الدقيقة الطبيب الفرنسي ديدييه راولت الذي قاد تجارب زعم من خلالها فعالية دواء الملاريا “الكلوروكين” في القضاء على فيروس كورونا، البروفيسور الفرنسي المشهود له بكفاءته العلمية يوجد وسط صخب غير مسبوق فصاحبُ الشخصية المثيرة للجدل يصر على نجاعة برتوكوله العلاجي بينما يشكك آخرون. يعتبر خِلاف المنتظم الطبي مع البروفيسور خلافا منهجيا بحثا حيث نأت الجمعية الدولية للعلاج الكيميائي لمضادات الميكروبات بنفسها عن ورقته البحثية المنشورة في المجلة الدولية لمضادات الميكروبات واتخذت موقف الحياد. بينما لم تحصل دراسة أخرى له و التي تم نشرها كطباعة أولية بدون مراجعة النظراء، على أي مجموعة مراقبة على الإطلاق.

ومرد الخلاف كون البروفيسور ديدييه لم يلتزم بالمنهج العلمي أثناء القيام بتجاربه، حيث لم يستعمل “التجربة العمياء” (essais randomisés en double aveugle) وهي المنهجية العلمية لإجراء تجارب حول فعالية أدوية مكتشفة في المجال الطبي، وتنص “التجربة العمياء” على تكوين مجموعتين عشوائيتين من المرضى حيث تتلقى المجموعة الأولى الدواء المراد تجريبه بينما تتلقى المجموعة الثانية دواء وهميا (placébo) و ذلك دون أن يعرف المرضى و لا حتى الطبيب أي المجموعتين أخذت الدواء المراد اختباره وأيهم أخذت الدواء الوهمي.

رفض البروفيسور الانتقادات الموجهة إليه واشتكى مما سماه “ديكتاتورية علماء المنهج” حيث أعتبر القيام بتجارب على عينات عشوائية وبدواء وهمي شيء “غير أخلاقي” في ظل تفشي فيروس كورونا و تهديده لحياة الآلاف.

فهل يفعلها البروفيسور ويتغلب على “المنهج وديكتاتورية علمائه” ؟

وهل تفعلها كورونا و تخلصنا و جامعاتنا من سطوة “المنهج ورواده” ؟

لقد أصبحت منهجية البحث في بعض المجالات داخل الجامعة عائقا أمام الإنتاج الفكري حيث أضحينا نعطي “لطريقة البحث” أهمية أكبر من “النتائج” (les résultats) المحصل عليها أو المواضيع نفسها، وتناسينا أن الأهم هو “أن نجد ما نبحث عنه” و ليس “كيف بحثنا عما نبحث عنه “، شخصيا وقفت على مجموعة من الطرق التي يتبعها الطلبة بعد أن ضاقوا ذرعا من صعوبة الإلمام بمنهجية البحث وقرروا في الأخير تطعيم بحوثهم بعد الانتهاء منها بنصوص تصف الطريقة المنهجية التي اعتمدوها دون أن يعتمدوها !

فهل ستفاجئنا كورونا و تعصف بمسلماتنا و طرقنا ؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *