رمضانيات، ملف

“صحافة الأمس” (5): “ضربة ساليغان”.. يوم ارتكبت فرنسا مجزرة بالبيضاء

“صحافة الأمس”.. إطلالة قصيرة خلال أيام رمضان على مغرب الأمس بعيون صحافيين كانوا يرزحون تحت رقابة الاستعمار الفرنسي أو تحت رقابة المخزن، ويشتغلون بوسائل بسيطة. ونفض للغبار في كل مرة على خبر من مجلة أو جريدة صدرت قبل عقود من الزمن.

“ضربة ساليغان” هذا هو الإسم الذي أطلقه المغاربة على مجزة 7 أبريل عام 1947، التي ارتكبتها فرنسا ببعض أحياء الدار البيضاء وراح ضحيتها 2000 قتيل وآلاف الجرحى، بواسطة ما يسمى بـ”القوة السوداء” أو “الرماة السنغاليون”، وذلك للتشويش على الرحلة التي كان يعتزم عاهل البلاد آنذاك الراحل محمد الخامس القيام بها في اتجاه طنجة.

المجزرة الكبرى

جريدة “الرأي العام”، لسان حال حزب الشورى والاستقلال في عددها الأول الصادر في أبريل من السنة ذاتها، وصفت الحادثة في خبر لها بـ”فاجعة البيضاء والمجزرة الكبرى”، قائلة إن الدار البيضاء لم تعرف يوما “أشد هولا من يوم سابع أبريل”.

وشرعت الجريدة في سرد أحداث الفاجعة بدرب الكبير بالعاصمة الاقتصادية قائلة إن “الرماة السنغاليون”، هجموا “بعد زوال هذا اليوم على الأحياء الإسلامية وأقبلوا وسط الشوارع في كل ناحية من المدينة الجديدة الاسلامية يطلقون رصاص البنادق والمدافع الرشاشة وحاصروا المدينة من الثالثة بعد الزوال إلى منتصف الليل”.

وتابعت أن الطلقات كانت “لا تنقطع خلال ذلك وكانت تسمع مشفوعة بأنين الجرحى وولولة النساء ونحيب الأسر المنكوبة، وهكذا عاش هؤلاء السنغاليون مستلقون ساعات طوالا يعيثون في الأرض فسادا ويقتلون الأرواح البريئة”، ولم تتمكن الجريدة من نشر المقال كاملا إذ تخللته فراغات كتب عليها “حذفته الرقابة”.

وواصلت “الرأي العام” في وصفها لهول المشاهد، “ولم يكتف هؤلاء المجرمون بالتقتيل والفتك بالأرواح البريئة بل تعدوا ذلك إلى التمثيل بالأجسام تمثيلا شنيعا فكم بقروا من بطن، وكم قطعوا من ثدي، ولقد رأينا قلوبا تحتضنها الزروع عوض الضلوع وأرجلا وأيديا مبعثرة هنا وهناك”.

الرماة السنغاليون

“الرماة السنغاليون” لم يكتفوا، حسب الجريدة، بالتنكيل بمن في الشوارع، بل إنهم “هجموا على امرأة آمنة في كوخها مع طفليها فاعتدوا عليها وعلى والديها، واتبعوهم بقرة كانت المرأة المرحومة تحلبها في ذلك الحين وأشفقوا من حال عجل فأتبعوه أمه. كما فعلوا بالطفلين البريئين”، وتابعت “الرأي العام” واصفة فظاعات فرنسا بواسطة “القوة السوداء”، “وبلغنا أن المعتدين قتلوا فقيها وتلامذته في أحد مكاتب المدينة وهم يقرؤون آيات الذكر الحكيم إلى غير ذلك من المآسي والفجائع التي يندى لها جبين الإنسانية”.

ولتوضح الجريدة للقارئ ضلوع فرنسا في هذه المجزرة، طرحت أسئلة دون أن تجيب عنها، “فأين رجال الأمن وأين المحلة الشريفة التي تدعي مركز حراسة البيضاء الموجودة قرب كارج علال الذي وقعت الحوادث قريبا منه؟ وأين الجنود المختلفة الألوان والجنسيات التي تظل تمشي وتطوف المدينة طولا وعرضا ؟.. إن الشكوك تخامر الشعب المغربي كله حول مصدر هذه الحركة الاعتدائية وموقدي جذوتها”.

وبالرجوع إلى هذه المجزرة في كتاب “الحركات الاستقلالية”، يقدم الزعيم الوطني الراحل علال الفاسي رواية تفسر كيف بدأت الأحداث، ويقول في هذا الصدد “بينما كان أطفال الحي يلعبون بحي بن امسيك بالدار البيضاء، إذ بثلاثة عمال من السنغاليين يتجولون، فطالبهم طفل بأن يعطوه هدية، ولكن السنغاليين شتموه ورموه بحجارة كانت بيدهم، فأثار ذلك غضب أصدقائه الأطفال فتابعوا الجنود السنغاليين بحصباوات صغيرة، وذهب السنغاليون إلى الحصن القريب من الحي”.

ويسترسل الفاسي “ثم عادوا ومعهم فرقة من السنغاليين مسلحة بالبنادق والرشاشات والمدافع الخفيفة، وصحبتها ضباط فرنسيون، وما إن وصلوا الحي (درب الكبير) حتى أعطى الضباط لجنودهم الإذن بإطلاق الرصاص على الأهالي العزل، وطوقوا الأحياء الوطنية من كل جانب ونظموا هجوما عليها، وقد احتلوا الشوارع وهاجموا المارة بالقتل والتنكيل والتمثيل، ثم دخلوا البيوت يقتلون من وجدوا فيها من طفل أو امرأة أو رجل، بل قتلوا حتى الدواجن والحيوانات، ونهبوا الأمتعة وكسروا ما لم يقدروا عليه”.

دبر بليل

ويتابع تسلسل الأحداث قائلا “وصلت فرق الفرسان السنغاليين بقيادة ضباط فرنسيين أيضا، وامتدت المعركة إلى مسافة كيلومترات من الأحياء العربية المجاورة، واشتد السنغاليون وانقلبوا إلى حيوانات متوحشة شرسة، فشدخوا رؤوس الموتى وفصلوا أعضاءهم وبقروا بطونهم، وفعلوا ذلك حتى بالصبية الصغار بمحضر أمهاتهم اللائي أخروا قتلهن إلى ما بعد التمثيل بأبنائهن على مرأى منهن”.

وأفاد الفاسي بأن فرقة من السنغاليين احتلت سطوح المنازل القصديرية ووجهت فوهت بنادقها لكل من خطا خطوة خارج بيته، أو بالأحرى كوخه، أو من صادفه الهجوم في الشارع، مشيرا إلى أن الجوم استمر أكثر من 10 ساعات دون تدخل السلطات الفرنسية “اختفى.. رجال البوليس بكيفية تلفت الأنظار، بل إن بعض الفرق المكلفة بحراسة المدينة لم يسمح لها قوادها العسكريون بالتدخل لحماية السكان، وهناك ثكنة عسكرية قريبة من موقع الحادثة كتب عليها “مقر حراسة المدينة” جنودها كلهم من عساكر “الكوم” المغاربة برئاسة ضباط فرنسيين، توجه إلى ضباطها وفد من كبار حزب الاستقلال يعلمه بالحادث ويطلب الإذن من الجنرال للجند المغربي بالقيام بواجبه في إرجاع الأمن، فطلب منه التريث قليلا، ثم تخابر مع الكولونيل وبعد دقائق عاد فأصدر الأمر بإقفال الثكنة وسجن جنوده جميعا بداخلها”.

وكشف الفاسي أن فرنسا جردت أن الجيوش ورجال الشرطة المغربية من أسلحتهم سلاح قبل الحادث بيوم واحد، وتابع مفسرا “الأمر الذي يدل على أن المأساة مدبرة ومبيتة بليل. وقد بلغ مجموع القتلى والجرحى في هذه المأساة التي انتقم فيها الجيش الفرنسي من الوعي القومي، ألفي مغربي”.

يشار إلى أن فرنسا استقدمت مئات الآلاف من السنغال ودول غرب إفريقيا، للاستعانة بهم في الحربين العالميتين، وفي مستعمراتها كذلك، وكان هؤلاء الرماة يتلقون تعويضات هزيلة مقابل مجازفات خطيرة، حيث كانت تضعهم فرنسا في معاركها في الصفوف الأمامية كدروع بشرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • أسامة
    منذ 4 سنوات

    هذا هو الوجه الحقيقي البغيض للمستعمر، القتل والاستغلال