من العمق

في أحقية النقد الأخلاقي للفن

يتمادى بعض دعاة الجرأة الجبانة في عالم الفن وخاصة منه السينما بالمغرب في إقصاء العديد من الآراء المخالفة لما يصنعون من أعمال إبداعية، خاصة الآراء التي تغلب أو تعتمد الأبعاد القيمية والأخلاقية في نقد الفن والسينما، معتبرين أن الفن لا ينبغي أن يخضع إلا لمؤشرات التقييم الذاتية التي تنطلق من الفن وتعود إليه، وإذا كانت هذه الفكرة لها جانب من الصحة فإن كثيرين يجعلون منها حقا يراد به باطل، وهو الباطل المتمثل هنا في مصادرة الرأي المخالف وأحيانا ممارسة الإرهاب الفكري عليه وتعمد تغيبه أو تشويهه في بعض البرامج والأفلام، كما يتمثل هذا الباطل أيضا في ألا يصبح للفن غاية أو هدف وأن يتحول إلى مرجعية في حد ذاته وأن يكون الربح وعدد التذاكر وحجم إيراداتها هو المحدد دون أن يتم وزنه ونقده على ضوء البيئة التي ولد فيها وطبيعة مضمونه والجمهور الموجه إليه. هكذا تعبر تلك الآدوات عن توجه يندرج ضمن نموذج عالمي جديد في إطار اقتصاديات السوق الحر حيث أصبحت القضية هي كيف يمكن تحقيق أعلى معدلات الأرباح بغض النظر عن نوعية المنتج (أسلحة فتاكة، أفلام إباحية، الطعام..)، والوضع والحالة هذه كما ذهب لذلك المفكر عبد الوهاب المسيري رحمة الله عليه في كتاب “الحداثة وما بعد الحداثة” “ينفصل الاقتصاد عن الإنسان ويصبح الاقتصاد هدفا في حد ذاته وقد حدث الشيء نفسه في مجالات أخرى للنشاط الإنساني (السياسة، الفلسفة، الوجدان، الجنس…) بحيث أصبح كل نشاط مرجعية ذاته يحكم عليه بمعايير مستمدة منه هو ذاته وهذا يعني انفصاله عن الواقع الإنساني المركب” مما نتج عنه يشرح لمسيري حالة من انفصال الحقائق عن القيمة والدال عن المدلول والوسائل عن الغايات مما أنتج حالة من الانفصال عن المعنى وضياعه. وهو نفس المنطق الذي ينسحب عن الفن والسينما في هذا الهُنا، حيث يتم السعي لتجريد الفعل عن أي غائية إنسانية أو أخلاقية وهكذا يتحول الاستهلاك الوسيلة إلى غاية في حد ذاته.

فالفن يحكم عليه بأدوات نقدية فنية ترتكز على الفكرة والسيناريو والأداء والتركيب والإخراج والصورة والموسيقى إلى غير ذلك، لكن قبل ذلك ومع ذلك وفوق كل ذلك لا معنى لهذا الإبداع إذا خلا من أهداف نبيلة تروم إصلاح المجتمع وتهذيب الذوق وتقاسم القيم الإنسانية البانية لا المدمرة ولا الهدامة، التي تعتمد على قصف للاوعي المتلقي بما يحوله إلى حيوان مرتكز على اللذة البيلوجية.

بكلمة إن العبث هو الإبداع متى خلا من القيم والموازنة المطلوبة بين المنجز الفني والبعد الأخلاقي. إن قياس الفن بمعيار القيمة الفنية المرتبطة بالأخلاق لا يحضر مطلقا وفق “عقلية كنيسة” والتي يحلها البعض محل المسجد والإسلام في تلفيق تعسفي ومن تم التسلح بما أنتجه بعض الغربين في مواجهة العقلية الكنسية في معركة كانت صائبة وحقيقية ضد من دعوا تمثيل الله في الأرض لأغراض أخرى في سياقها الأوروبي لكن الغريب كيف يفصل هذا السياق الذي ولد مفاهيم عدة منها العلمانية ويتم إحلالها قسرا على واقع عربي مسلم مخالف حتى في المناخ وطبيعة العادات وغير ذلك.

يحضر بهذا الصدد مثال كان قد ضربه المفكر المغربي المقرئ الإدريسي أبو زيد في إحدى محاضراته عندما قدم المثال ببناء الجملة في اللغة العربية فقد تكون الجملة سليمة من ناحية القواعد والتركيب بل قد تكون غاية في الجمالية اللغوية والدلالية لكن مضمونها يمكن أن يعني الإلحاد أو الكفر أو التحريض على القتل مما يؤكد أهمية وأحقية النقد الأخلاقي على الإبداع الإنساني خاصة عندما يتعلق الأمر بالفن عموما أو السينما كلغة بين الشعوب ومختلف الفئات وهنا مكمن خطورتها إن لم يحسن توظيفها بما يخدم قضايا الانتماء والجمال والإصلاح.

ولأن العديد من المتجرئين على قيم المغاربة وخصوصيتهم هم في الحقيقة مقلدون وخدام لمشاريع معينة ومهوسون بكل ما هو أجنبي حتى لو كان غير ذات قيمة في درجة من الاغتراب الفكري المنقطع الجذور عن التربة المغربية، يمكن الإشارة إلى ثلاث نقاد غربيين مشهورين بالتخصص في النقد الأخلاقي ويعبرون عن آرائهم دون إقصاء أو ترهيب فكري وأولهم “إرفينك بابيط” من أمريكا والثاني هو “إدموند مولير” من بريطانيا والثالث هو “جاك مارتان” من فرنسا، وللتوسع يمكن العودة لكتابتهم أو للأعداد الأولى من مجلة الفرقان المغربية في سلسلة مقالات تحت عنوان “سمات الأدب الإسلامي المعاصر” للمفكر الإدريسي أبو زيد.

بعد كل هذا يتملك المرء حالة من الاستغراب عندما يتم بالمغرب اليوم مصادرة الحق في النقد الأخلاقي للإنتاج السينمائي وعدم تفويت أي فرصة للنيل من أصحاب النقد الأخلاقي والفن النظيف عبر إعلام يسمى بغير قليل من الإدعاء أنه عمومي لكن لا يفتح في الغالب إلا في وجه أصحاب هذا التوجه الإقصائي والاستئصالي في العديد من الأحيان، وهو ما يؤكد عدم تكافئ فرص التعبير عن الرأي بهذا الإعلام حتى لمن يعتبرون مشاركون في الحياة السياسية بشكل مباشر…، أما باقي الآراء الأخرى فما يزال التغييب الممنهج هو سيد الموقف سواء تعلق الأمر بالتعددية الحزبية أو المدنية أو الثقافية، هذا ناهيك عن وجود المحتضنين والراعين والممولين لأصحاب مشاريع اللذة والاستهلاك أمام حالة التفقير في الموارد والإمكانيات التي يعانيها المخالفون في مغرب يقال إنه يسع الجميع.

من منظور قوة الثقافة لا ثقافة القوة وبهدف بناء الحضارة وتنمية المشترك الإنساني نعم هناك الفن النظيف وهناك “الوساخة”، وأترك هنا المفكر والأديب عبد الكريم برشيد ليرد على نور الدين الصايل مدير المركز السينمائي المغربي الذي بلغ به الإقصاء المفكر فيه إلى أن ادعى في حواره الأخير مع جريدة “أخبار اليوم” أن موضوع الفن النظيف لا يتوفر على أطروحة لكي يناقش، له يقول المسرحي والمؤلف عبد الكريم برشيد “إن الفنان كما قد يبحث في الدار البيضاء عن الطيور والحدائق والبحر ومعالم الحضارة والمواطنة، قد يبحث كذلك عن الدار البيضاء السوداء وعن الأشياء القبيحة فالطيور على أشكالها تقع، ويعتبر صاحب مسرح الاحتفالية أن كل شيء يحتمل الحقيقي والمزيف وعاد إلى أصل تسمية الناقد التي استمدت من شخص كان خبرة في كشف العملة النقدية الحقيقية من المزيفة وكذلك دور الناقد السينمائي يؤكد برشيد في أكثر من مناسبة ” هكذا يتمادى بعض من منحت لهم صفة مخرج على عكس آخرين ممنوعين منها إلى اليوم، يتمادى أولئك في “تميخيل” في عالم الدعارة والعري الفج واللغة الساقطة وتشويه صورة المتدين المسلم بكل وقاحة تتجاوز أحيانا الواقع إلى نزوعات مريضة لبعض المخرجين، وهنا تدمغ حجية السينما تعكس الواقع ليتجلى جشع الربح ولو بالانتهازية واستهداف قيم الوطن وعقوله. هكذا يبحث عن قالب للواقع يعلب من خلاله “المخرج” شذوذه أو انحرافه الفكري أو السلوكي.

بكلمة إن الجمع وخلق التوازن بين الإنجاز الفني والبعد الأخلاقي هي معادلة صعبة صعوبة الإبداع الحقيقي المنتمي لمجتمعه وثقافته والمعبر عن آماله وتطلعاته والمنفتح على المنجز الإنساني، لكنها الطريق الصائب في الدفاع عن قيم الحق والخير والجمال بما ينهض بالمجتمعات ويجعلها تتقدم عكس مسارات العزف على وتر اللذة ومصادمة قيم المجتمع النبيلة بما سيؤدي حتما إلى المزيد من التخلف والنزول بالإنسان إلى كل ما هو دوني ويجعل المواطن في حالة عجز تامة عن المبادرة أو الفعل أو الإنتاج وهي العناصر التي ينبغي أن تحدد قيمة الفرد عكس جعله فردا يستهلك ثم يستهلك ليستهلك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *