وجهة نظر

أزمة كورونا وعودة الأدوار الاجتماعية لمؤسسة الأسرة

تقديم

دفعت محدودية قدرات الدولة المغربية ومؤسساتها الصحية والاجتماعية، تحت وطأة تفشي فيروس كورونا المستجد وهول الأرقام المسجلة من الإصابات وانتشار الموت في المستشفيات عبر العالم، إلى الاستنجاد منذ اليوم الأول بمؤسسة “الأسرة” حتى قبل إعلان إجراءات الحجر الصحي وحالة الطوارئ من خلال نداءات جابت بها السلطات أزقة وشوارع مدن المغرب و بواديه، ودخلت بها كل بيت عبر مختلف وسائل الاتصال والتواصل، تارة راغبة وتارة متوعدة بمسؤولية رب الأسرة في حماية أفرادها من المرض ودوره في التزامهم بإجراءات السلامة والوقاية.

هو اعتراف ضمني بحاجة الدولة إلى مؤسسة المجتمع الأصلية والأصيلة، مؤسسة الأسرة، لتحقيق ما قد تعجز كل مؤسسات الدولة وآلاتها الدعائية، ليس في تدبير الطارئ الصحي فحسب، بل في تأمين المعيش اليومي لعموم المواطنين لما تتميز به الأسرة في مجتمعنا من قيم التآزر و التضامن بين مختلف مكوناتها.

وضع جعل الأسرة المغربية في موقف طارئ فرض عليها قيودا جديدة وأعباء إضافية، وبالموازاة مع ذلك عادت الأسرة إلى لعب أدوار مهمة كادت تتعرض للضمور نتيجة توالي الاستهداف الممنهج للقيم والقوت والأوقات من جراء السياسات التعليمية المتبعة، والخطاب الإعلامي السائد، زيادة عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية الضاغطة بكلكها على الأسرة المغربية.

سنحاول استجلاء هذا الرجوع لمحورية الأسرة وقيمها بعد انتشار هذه الجائحة من خلال عدة عناصر.

1- دور الأسرة يغطي على محدودية قدرات الدولة

راهنت الدولة في بلدنا لمواجهة الوباء، إدراكا منها لمحدودية إمكانيات وقدرات منظومتها الصحية، على قيم الأسرة المغربية. فإلى جانب إجراءات الحجر الصحي العام، المسنود إلى صرامة نظام الدولة الأمني الواقع حاليا تحت “اختبار كورونا”، خاطبت الدعاية الرسمية قيم الانضباط الاجتماعي الذي تشكل الأسرة صمام أمانه وحصنه المنيع لما بنيت عليه من قيم الطاعة الأسرية وعلاقات الإنصات والامتثال خاصة لرب الأسرة.

رهان استعملت فيه الدولة وسائل الإعلام للتأكيد على خطورة الخروج من البيت إلا للضرورة القصوى، والحرص على عدم السماح للأطفال بالخروج قطعا، يضاف إلى ذلك أهمية قيام الآباء والأمهات بأدوار تحسيس وتوعية أسرهم وتدريبهم على قواعد السلامة، مما جعل الأسرة تجتهد في تملك قاموس جديد واستعمال مصطلحات علمية خاصة كانت حكرا على المؤسسات الصحية كالتعقيم والكمامات والحجر الصحي والتباعد الاجتماعي وغيرها من مفردات القاموس المستجد.

وإذا كانت دعوات المؤسسات العامة للناس إلى التزام بيوتهم أمرا مهما من الجانب الصحي، والذي تجندت له الأسر فعلا من خلال رفع و ترويج شعار “بقى فدراك تحمي راسك و تحمي غيرك”، وتحملها لأعباء إضافية تمثلت اقتناء المستلزمات الصحية رغم شحها، فإن الأمر من جهة أخرى يعتبر معادلة صعبة بالنسبة للأسر لا تملك من القوت اليومي ما تواجه به طول مدة الحجر الصحي، وهي الفئة الكبيرة و العريضة في المجتمع.

وتزداد الوضعية صعوبة إذا استحضرنا أن الأسرة المغربية تتحمل الكثير من المسؤوليات تجاه شرائح مختلفة بسبب ارتباطاتها الاجتماعية، حيث تقوم بتقديم الرعاية والدعم اللازمين خارج أفراد الأسرة الصغيرة التي لا تزيد في العادة في المجتمعات الغربية عن اثنان أو ثلاثة أفراد في الغالب، في حين أنها في أغلب الأسر المغربية تجمع بين ثلاثة أجيال الآباء والأبناء والأحفاد.

يتعلق الأمر هنا بمكانة الأسرة في حياة المجتمعات المسلمة، أو تلك التي تستمد مرجعيتها من المنظومة الأخلاقية والدينية عموما لدى شعوب أخرى، ففي ظل ضعف الإعانات المقدمة من طرف الدولة وضعف التغطية الصحية والتعويضات الاجتماعية لكبار السن والعاجزين والفئات الهشة، وعدم توفر الدولة على نظام واضح وشفاف للدعم الاجتماعي وعدم شمول المتوفر منه لفئات كبيرة من الأسر، فإن وضع الأسرة يتجاوز كونها نواة لكيان المجتمع، لتلعب وظيفة التآزر والتكافل كأحد أهم الأسس في النظام الاجتماعي والاقتصادي.

وهو دور إستراتيجي لعبته الأسرة المغربية، ولا تزال، كنواة للنسق المجتمعي في احتواء وتخفيف أزمات كثيرة مرت منها كالاستعمار والأوبئة والكوارث الطبيعية، وأكبرها اليوم بطالة وعدم اندماج ملايين الشبان العاطلين في سوق العمل، فتعيل الأسرة الكبيرة العاطلين من شبابها وتتقاسم ما يتوافر لديها من إمكانيات على قلتها.

وهذا السلوك التضامني يتجاوز ذوي القرابة الطينية، إلى الاهتمام بالأسر الفقيرة والمعوزة من ذوي القرابة الروحية من جيران وأيتام وأرامل ومرضى، ليصل التكافل إلى الأسر البعيدة التي أرغمتها إجراءات الطوارئ الصحية للتوقف عن العمل، والتي تلعب وسائل التواصل اليوم دورا مهما في إيصال معاناتها إلى قاعدة واسعة من المجتمع المغربي. وهي صور معهودة من المجتمع المغربي في التعاون والتضامن انطلاقا من وازعها الديني والأخلاقي الذي تمليه معاني الرحم الإنسانية.

تنضاف لهذه الأواصر المتينة بين الأسر القريبة من بعضها البعض مبادرات جمعوية كثيرة في مجتمعنا المغربي لجمع التبرعات وتوزيع المساعدات التموينية، رغم أن بعضها يعاني التضييق بدعوى عدم الترخيص، أو لحسابات سياسوية ضيقة ينبغي الترفع عنها وقت اشتداد الأزمات.

2- الأسرة وإعادة النظر في العلاقة مع المدرسة والمدرسين

مع ثقل المسؤولية الملقاة على الأسرة اتجاه السعي لتوفير ضروريات الحياة المعيشية، يشكو الوالدان، خصوصا الأمهات، من زيادة أعبائهن لضرورة التزام الأطفال البيت بعد توقيف الدراسة، مع ما يتطلبه ذلك من حرص مستمر على رعايتهم والاستجابة لطلباتهم المادية والمعنوية لتحمل متطلبات التعليم عن بعد، إضافة إلى تحول مرافق البيت إلى ساحة بديلة لفضاءات الترفيه واللعب.

وهذا ما جعل الكثير من الأسر تغير الصورة النمطية، بل والموجهة أحيانا ضد مكانة المدرسة ودور المدرسين، حيث أضحى الكل مُجمعا على الاعتراف بالجهد الذي تبذله المدارس ويبذله المدرسون، ليس فقط من خلال تقديم الدروس والمواد التعليمية، أو حتى من جانب الاهتمام بطاقات الأطفال ومواهبهم وتوجيهها الوجهة السليمة لتحقيق البناء الشخصي والمهني للطفل، وتقويم السلوكات غير المرغوبة التي تنشغل عنها الأسرة، بل تجلت في اقتسام وقت الأطفال شطرين بين الأسرة والمدرسة، ما كان يعني استراحة للأسر وتفرغا منها لتأمين الضروريات المعيشية للأطفال وللأسرة عامة.

اعتراف سيدشن ويرسخ لا محالة جيلا جديدا من العلاقة بين الأسرة و المدرسة، علاقة ستجعل الأسرة تنتبه إلى دورها بالغ الأهمية في دعم الخدمات التي تقدمها المدرسة وتحفيز أبنائها أكثر للإقبال على التعلم. كما أن تجسير الهوة المدرسة والأسرة، سيجعل هذه الأخيرة ترى وجه دورها في المدرسة، لأنهما في الحقيقة وجهان لعملية واحدة وعملة نادرة هي التربية قبل التعليم وبعده.

وهنا حتما يبرز دور الدولة في تحقيق مصالحة بين مؤسستين أساسيتين في عملية النهوض المجتمعي. فالدولة ينبغي عليها أن تكفي الأسر هَم المعيش اليومي وتضمن لها المستلزمات المادية الضامنة للعيش الكريم وتسهيل ولوجها للحاجيات الأساسية من الإيواء والسكن والصحة والتعليم، ثم تحصن أفرادها قيميا وتؤطرهم لمجابهة الظروف الصعبة.

ذلك أن كفاية الهم المادي للأسر سيجعلها تبدع في الرعاية المعنوية والدعم الإنساني لأفرادها ولمحيطها القريب والبعيد لتقليل المتاعب وللإسهام في خفض حالات المرض وانتشار الوباء وتداعياته النفسية والاجتماعية.

3- الأسرة والتحصين النفسي والقيمي للفرد والمجتمع

شمل الإغلاق الاضطراري لمواجهة تفشي الفيروس مؤسسة المسجد، فتحولت بيوت الأسر إلى مساجد، واستمرت المحافظة على روح المسجد وصلاة الجماعة داخل الأسر التي افتقدتها من خلال تحويل ركن من أركان بيوتها إلى مكان للصلاة الجامعة أو على الأقل ليتأثر من يترك الصلاة بمن يواظب عليها.

ومع توسع مدة الحجر لتشمل شهر رمضان الكريم تجتمع الأسرة في الصلوات الخمس والتراويح والقيام، ورسمت أسر برامج تجدد اللقاء مع القرآن الكريم تلاوة وحفظا وسط الأهل والأبناء، بالإضافة إلى التشجيع على استثمار الوقت في تنمية ملكات القراءة والاطلاع، وهذا كله له الأثر الكبير في تحصين أفراد الأسر ووقايتهم من خطر الانهيار، خاصة الأطفال والشباب الذين ألفوا مجالات أرحب بمساحاتها الواسعة وأقرانها الكثر.

فرصة سانحة للأسرة لتستعيد دورها المتكامل مع المسجد والمدرسة، حيث التربية على الاستقامة والتحلي بجميل الأخلاق والتخلي عن قبيحها، ورفع النفوس من سفاسف الأمور إلى معاليها لتعيش الأسرة في فيض التراحم والتحاب والتعاون والتعاضد.

دور لا محالة، لو أتيحت له الفرصة ليستمر بعد رفع الحجر، سينعكس على المجتمع استقامة جماعية وتآلفا اجتماعيا وتعاونا على البر وتناصحا بالمعروف وحصرا لمهاوي الانحراف القيمي والخلقي.

على سبيل الختم

إنه من المهم و نحن نستعرض مختلف أدوار الأسرة في زمن الوباء والحجر الصحي التسطير على أن الأزمة الحالية، لن تمر دون أن تترك بصماتها على مستقبل النظم الاجتماعية في بلداننا، وفي صلبها دور الأسرة.

وضع سيجعلنا لا محالة نعيد الالتفات إلى الأسرة وقيم الجماعة والمجتمع، بعد أن طغت الفردانيات والأنانيات حتى أصبح أفراد الأسرة الواحدة أبعد من أقرب المقربين إليهم.

الأسرة كانت وستظل المؤسسة الأكثر أصالة في المجتمع، وأي تفكيك لها هو بالضمن تفكيك للمجتمع ومن ثمة الدولة. وبالمقابل، دعم الأسرة لأداء أدوارها التربوية قبل المادية، تحصين للمجتمع ورقي للدولة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *