منتدى العمق

كورونا “منحة من الله”

تسابق نحو التسلح، تأشيرات بدون عودة إلى المريخ، صاروخ من ذهب إلى القمر، حروب وهمية من أجل مصالح مادية، اغتيالات غبية و استهزاء بأرواح الإنسانية.

قبل كورونا، كان العالم على وشك أن يصبح عبارة عن يوتوبيا لأصحاب القرار السياسي في العالم، وديستوبيا لدول العالم الثالث التي شابتها ومازالت تشوبها الحروب والمجاعات والإنقلابات.

لنحمد الله أن كورونا أمال الكفة الأولى لتصبح ديستوبيا جماعية، الكل يعاني في تجسيد للعدل الإلهي، ولضعف الإنسان الذي خلق من ماء.

فبعد أن وصلت السعودية لأبشع أنواع الفساد في الأرض، في شخص “الفرعون الجديد” مع “هامان” أمريكا و “قارون” البترول، أصبح ينادي عاليا “أنا ربكم الأعلى” فبعد أن بلغ الفساد عتيا من تذبيح واغتيال، واعتقالات بالجملة لشيوخ وعلماء ونشطاء، ذنبهم الوحيد أنهم حاولوا الخروج من قوقعة السلطان وإعلاء كلمة الحق.

جاء كورونا لينزل العدالة الإلهية، فوجدنا هامان غارقا إلى الأذنين، أما قارون فنزل سعره إلى حد خنصر الأرجل، ففروا هاربين من ملك الموت إلى جزرهم و مخابئهم. لمن الملك اليوم؟

صدق من قال “كل فرعون له موسى” وموسى هذا العصر هو كورونا!

في إعادة لترتيب الأولويات

الطبيب في المغرب يدرس سبع سنوات وزيادة، فيها مافيها من الدروس والبحوث والتداريب، معاناة نفسية، مادية واجتماعية، ثم بعدها يتخرج، فيتم توظيفه براتب هزيل، لا يكفي لتعويض السنوات العجاف التي مرت، ولا بناء سنوات هنيئة قادمة.

أما إذ تكلمنا عن الأستاذ، فالقلم لا يسعفني لأكتب عن معاناته، عن تضحياته، عن كبريائه الذي سقط أرضا ولم يجد من يرفعه، بل كسروا عظامه و مصوا دماءه و علقوا جسمه الهزيل أمام الجميع، فأصبح جثة هامدة لا تقوى على الحراك.

لطالما احتقرناهم، وقلنا انتهازيين، طماعين، وضذ مصلحة الوطن، شمتنا بهم، لم ننصرهم في وقت الضعف ولا تضامنا معهم.

كنا منشغلين بمهرجان موازين، وبمباريات كرة القدم التي أخذت من جيوب الشعب الكثير، لكنها لم تعطنا ولو فرحة مؤقتة لثواني قليلة.

انشغلنا بالتفاهة وبرامج الميوعة الفاسدة للأخلاق، والأفلام المدبلجة التي لا تراعي لثقافتنا ولا خصوصيتنا سوى لغة تكرس البلادة والإنحلال الأخلاقي والسلوكات المنحرفة.

الآن، انظروا لموقع الطبيب مع موقع مهرجان موازين “الدولي” فهذا المهرجان بفنانيه و جمهوره و ملايينه لا يساوي قطرة عرق من طبيب مقيم بمستشفايتنا.

أنظروا إلى موقع الأستاذ وموقع فناني المناسبات، الذين كانوا يدعون الوطنية، فهاته الفئة بثروتها و جمهورها لم تعد تساوي قلما بيد أستاذ يحمل هم تدريس تلامذته و طلابه عن بعد، وبمجهود شخصي، رغم الإقتطاع في زمن كورونا، ورغم القمع والبطش الذي تعرض له في السنوات الماضية، إلا أنه رمى بالحسابات جانبا، وشمر عن ذراعيه وأخذ البادرة.

ڤيروس كوڤيد 19 أو ما يطلق عليه ب “كورونا” جاء إلى هذه الدنيا ليشرح لنا بالخشيبات عن أولوياتنا في هذه الحياة، وعن مكملات هذه الأخيرة، جعلنا هذا الصغير نميز بين مجموعة من الأشياء التي كانت تعيش معنا ونراها كل يوم بدون أن نفكر في مدى أهميتها ومدى تفاهتها في نفس الآن، كما أنه أخذ على عاتقه إزالة الغطاء عن عاهات كنا نعتبرها أولويات، وبين لنا ضروريات كنا نعتبرها مجرد مكملات وثانويات.

كورونا هذا، بين لنا أهمية التعليم، والأستاذ، والطبيب، ووضح لنا سذاجة المغنيين والراقصين الذين يطلقون على أنفسهم “فنانين” بين آلاف الأقواس.

مخلوق أو “مصنوع” مجهري أظهر لنا بشكل جلي أعداء الوطن ومحبيه، جعلنا نميز بين الخائن والموالي، بين المضحي والإنتهازي، بين المطبل أو “المعيز” الذين لا يجيدون سوى التصفيق والبهرجة “لإنجازات” الدولة، والتي هي في الأصل خدمة عادية في الدول الديمقراطية.

كورونا بين لنا مكانة الأحزاب ودورها الذي أصبح مقتصرا على المناسبات، عرفنا في هذه الفاجعة أن هذه التنظيمات السياسية لا تتجاوز حد تأدية دور الفزاعة التي لا تعمل إلا إبان الإنتخابات أو قبلها بشهور قليلة، بدون أية إرادة حقيقية للنهوض بالوطن والتضحية في سبيله، لا أقصد كل الأحزاب بالطبع، فهناك أحزاب بندرتها بادرت لمحاولة تنوير الرأي العام بمجموعة من المبادرات التي لا يمكن أن يقال عنها إلا أنها حسنة، من قبيل الشبيبة الإستقلالية وفدرالية اليسار الديمقراطي.

كورونا بين لنا أن التنظيمات التي كنا نظنها عدمية ورجعية، أبانت لنا عن حس وطني عالي في التعبئة وتكثيف الجهود لمواجهة الوباء، وأشير هنا إلى حزب النهج الديمقراطي وجماعة العدل والإحسان المعارضين للنظام، واللذان كان من أول البادئيين في عملية التوعية و التحسيس، بل وحتى المشاركة في التدريس عن بعد، حملات لشكر الأطباء، وأخرى مطالبة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين.

وبالتالي يجب أن يعاد النظر في مفهوم الوطنية، ومفهوم العدمية والتقدمية والرجعية، هذه المفاهيم التي لطالما سمعناها في صحافة الزور وجرائد البهتان والأقلام المأجورة.

هذه الجائحة ليست معتركا سياسيا أو مجالا للنقاش الفكري، ولكنها مرحلة لتوقف القطار و القيام بنظرة شاملة على نطاق واسع، من خلال مراجعة المفاهيم وإعادة النظر فيها. هي محاولة لحوار داخلي موضوعي و تصالح مع الذات كما يقال.

فبعدما كانت الحياة تجري وكنا نطير لنلحقها وما نحن بلاحقيها، لم يكن لنا الوقت لنفكر ونحلل ونعيد النظر في مسائل قد تكون هي نقطة البداية، لكننا كنا نظنها نقطة الخاتمة، لا بد من الإستفادة من هذا الحجر الصحي، فقد تكون هذه المحنة منحة لأغلبنا كما يقول أحد المفكرين، لنتعرف على انفسنا، من نحن وماذا نريد؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *