من العمق

إصلاح الإعلام وتخصيب الأرحام العاقرة

” إوا تسنا شوارب اجمل يطيحو”

في إحدى الدردشات الصحفية مع الإعلامية السلاوية مريم فرجي، التي غادرت القناة الثانية طواعية بعد سنوات من العطاء والتألق، قالت وهي المسكونة- شأنها شأن كثير من أبناء الشعب وأهل التخصص- بالغيرة حد (الفقسة) على الإعلام “العمومي”، قالت بالحرف: إن من يراهن على إصلاح الإعلام العمومي وخاصة القناة الثانية “دوزيم” كمن يحاول تخصيب رحم امرأة عاقر، والنتيجة المؤكدة في هذه الحالة إما فشل عملية الولادة وإما خروج المولود مشوه أو أن تحدث المعجزة وذلك سيكون من علم الغيب الذي لا يد للإنسان فيه، وهي خلاصة تستدعي ابتكار وسائل جديدة وغير مسبوقة تقدم إشارات واضحة في اتجاه المعالجة الجذرية لقطاع لم يعد اليوم يطرح إشكالية الحكامة والتخليق ومتطلبات المهنية فقط بل أصبح يهدد كيان أمة في وجدانها وهويتها وأذواقها واختاراتها وبالتالي في حاضرها ومستقبلها.

خلاصة التجربة العملية لمريم فرجي، تندرج ضمن مقاربة ترى أن إصلاح الإعلام “العمومي” أصبح في حكم المستحيلات وهي مقاربة ترد ذلك لاعتبارات مختلفة وكثيرة منها تراكم عقود من التواصي بالفساد والاستبداد إلى درجة أصبح مهيكلا ومجسدا في شخوص عدة تأكل الطعام وتمشي في الأسواق وتعتلي المنصات. ومنها ما وصل إليه هذا الإعلام من كساد ورداءة وضعف تنافسي لا سابق له.

ومنها أيضا منطق الإصلاح سواء أكان متدرجا وفي ظل الاستقرار أو في غيره، والذي يقول ببساطة شديدة أن الإصلاح لا يمكن أن يكون بأشخاص فاسدين ولا بآليات فاسدة ولا بمؤسسات فاسدة، وهنا يطرح سؤال إمكانية الإصلاح دون تغيير الوجوه التي ارتبط اسمها بالفساد وذلك بلغة الشارع وبلغة التقارير الرسمية قبل غيرها وبلغة أبلغ من هذا وذاك وهي لغة الواقع وصورة المنتوج الإعلامي المدمر والتنافسية الموجودة في الحضيض والغربة وعدم الرضى التي يعبر عنها المواطنين بما فيهم وزير الاتصال نفسه، فهل يمكن المراهنة على الإصلاح بتغيير القوانين فقط وهي التي وفي جزء كبير منها جيدة لكنها تضل في الرفوف بما في ذلك القوانين التي تضع بنية الفساد نفسها، ولا ممارسة فعلية إلا للإملاءات المباشرة والهاتفية ولا تنفيذ إلا لسياسة أصحاب النعم على الفائزين بالمنصب الهمزة والغنيمة.

ولنتأمل قليلا في تجربة من سبقونا ألم يقل محمد العربي المساري وزير الاتصال في حكومة التناوب بقيادة عبد الرحمان اليوسفي، أنه جاء لتغيير العقليات وليس الأشخاص في سياق (مع نسبية المقارنة) أعتبر أنه له من القوة ما يقارب الربيع الديمقراطي اليوم على المستوى الداخلي وكان مسنودا بموجة إقليمية ودولية لأن الضغط بغض النظر عن خلفياته وتفاصيله آنذاك كان له وزن على المستوى الداخلي فعلى الأقل آنذاك وإن كان الصراع قبل التناوب حول الحكم وليس حول الحكومة، فإن المسؤولين “لي تيخافوا متيحشموا” كانوا يخوّفون بضغط داخلي وليس كما يحدث اليوم حيث يتم التخويف بما يحدث في الجوار مما يتطلب ضغطا “باش يتحماو لكتاف”، فما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدينا غلابا، فلنأخذها إذن غلابا، هكذا ختم الرئيس التونسي محمد المرزوقي إحدى لقاءاته الخاصة أثناء زيارته الأخيرة للرباط.

إلى جانب كل هذا تحضر مؤشرات مختلفة تؤكد عدم نجاعة مقاربة إصلاح القوانين وحدها وتؤكد استمرار أسلوب الاستبداد والتحكم في الإعلام “العمومي” في زمن ما بعد الدستور والانتخابات والحكومة الجديدة، فما معنى أن يشتكي رئيس الحكومة من التلاعب في تصريحاته من طرف القناة الأولى؟ وما معنى أن يرفض موظفين تطبيق سياسة وزير وصي على القطاع في موضوع الدفاتر نموذجا؟ وما معنى أن يقول وزير العدل والحريات خلال مشاركته في برنامج قضايا وآراء أنه يبحث مع لعرايشي سبل تغطية الحوار الوطني حول إصلاح العدالة بطريقة أقرب إلى الاستجداء؟

في هذا الاتجاه تجرأ أحد مدراء القنوات الرسمية واقترح على دائرة الإنتاج بدار لبريهي تقديم سهرات نهاية الأسبوع بنفس تربوي فكان الجواب من طرف أحد الركائز المحيطة بفيصل لعرايشي ما يلي “شو فانا بعدا السهرة إلى مكان فيها الشيخات والجرة والكاس كاع مكنسميهاش سهرة” فأي دفاتر تحملات سينزل أمثال أولئك المسؤولين وما أكثرهم في هذا المجال، خاصة بعد أن تمت فرملة دفاتر التحملات بين النسخة الأصلية والنسخة المحينة والتي ولأول مرة تخرج عملية التنقيح والإضافة عن خدمة التطوير والتقوية، هكذا تم إغراق العديد من المقتضايات التي حكمت بجدولة زمنية دقيقة بعبارة بالتدرج وتم تعويم أخرى لتهرب من أي محاسبة كما تم إسقاط محددات تترك للمسؤول مرة أخرى أن يفعل ما يريد ورغم كل ذلك “ياربي غي تصادق عليها “الهاكا” خلاص ويطبقوا ما فيها.

قد لا يبدو غريبا عندما يشبه أحد الصحفيين المعروفين بالقناة الثانية وظيفتهم بالقناة بوظيفة “النكافة” في الأعراس بحيث الوظيفة هي التطبيل والتزمير للعروسة التي يزوقونها ويضعونها في “العمارية” دون أن يهمهم في ذلك الشكل الحقيقي لعروسة أو تاريخها اومستوى تعلمها.

طبعا لا يهدف هذا المقال الذي يروم المساهمة في قراءة اللحظة بدقة وتحديد أين نقف وما أفق تحركنا، لا يهدف، إلى أي تبخيس للجهود المبذولة والمقاربات الأخرى المقترحة للخروج بالإعلام “العمومي” من دائرة الفساد والتحكم والرداءة المدمرة إلى فضاء الخدمة العمومية والنزاهة والحكامة وخدمة المواطن بتبني إعلام قريب منه ومن همومه وانتظاراته ويتمتع بهامش كبير للحرية من أجل الإبداع. فكل المحاولات الإصلاحية الصادقة والجادة لا يمكن إلا أن تدعم بكل ما هو متاح والوقوف ضد كل محاولات الإرباك أو الرجوع بالمغرب إلى الوراء. لكن أخشى ما يخشى أن تصدق علينا تلك المقولة الشعبية البليغة الدلالة “إوا تسنا شوارب اجمل إيطيحوا” أو تسنا يشيب لغراب” وهي حكم تضرب لمن يراهن على وقوع شيء بات في حكم المستحيل من قبيل انتظاره للغراب أن يشيب، أو اعتقاد بعض الجوعى أن شفتي الجمل ستسقط من كثر رخواتها ولينها.

“هي خلاصة تستدعي ابتكار وسائل جديدة وغير مسبوقة تقدم إشارات واضحة في اتجاه المعالجة الجذرية لقطاع لم يعد اليوم يطرح إشكالية الحكامة والتخليق ومتطلبات المهنية فقط بل أصبح يهدد كيان أمة في وجدانها وهويتها وأذواقها واختاراتها وبالتالي في حاضرها ومستقبلها”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *