من العمق

العوامل الذاتية لتراجع الفعل الإسلامي

لعل الفعل الإسلامي بالمغرب اليوم خاصة في شقه المشارك، الوسطي والمعتدل لم يعد مهددا بشكل مباشر وعلني ومستمر مثل ما كان في السابق سواء من طرف القوى الخارجية أو الداخلية، أو على الأقل لنقول أن حدة ذلك خفت أو أن الوسائل التي كانت تصل حد الخبث والمكر تراجعت لصالح وسائل أخرى. خاصة ونحن في وقت يتحدث فيه عن ريادة هذا العمل وعن غناه وتفرده في صياغة عدد من النماذج النظرية ذات الخصوصية المغربية مما حول هذه التجربة إلى منارة أصبح يبحث عنها وفيها وتشد لها الرحال ويبهر من يستمع لقادتها أو لمن يحاضر حولها وفيها. مما يعني أنه على المستوى التصوري ولا حتى العملي لا خوف ولا حزن إلى حد ما على هذا المشروع الفريد والمتجدد.

إلا أن ما يهمني في هذا الهنا حقيقة، هو ما يمكن تسميته بعوامل التراجع الذاتية وأعني تحديدا فعالية أفراده وحيويتهم وحرقتهم على الأفكار التي يحملونها وينظرون لها، لأنه مهما بلغت قدرة أي هيئة على التفكير والتنظير ووضع الخطط والبرامج والإستراتيجيات والأوراق المرجعية والتصورية وحتى التحليلات السياسية للواقع في أرفع وأغرب تجلياتها ومظاهرها، ستظل من باب الترف الفكري والتنظير المفارق لواقعه ما لم تبعث الروح في هذه الأوراق الجامدة لتتحول إلى وقائع ومعطيات وإنجازات ونسب، وهنا يطرح سؤال القدرة التنفيذية لأي هيئة هيئة، وسؤال العمل بما علم.

وطبعا في انسجام تام مع تغذية الفكر للواقع والعكس بالعكس دون إفراط ولا تفريط. ومن بين الأسباب المهددة لهذا المشروع أيضا ضعف ثقافة التعاقد والالتزام مما يحدث ضعفا على مستوى احترام المسؤوليات المناط بكل فرد من أفراد هذه الهيئات، وكذلك على مستوى احترام البرامج والوفاء بالعقود التي تكتب ويتفق عليها، مما يعكس حالة من اللانسجام واللانضباط للبرامج والمخططات المسطرة.

والأمر الآخر في العوامل المهددة هاته هو غياب ثقافة المحاسبة والمساءلة ولما لا العقاب أمام كل من تمادى في التقصير والإخلال بالواجبات والتخلف عن المواعد والركون إلى الأرض والتثاقل إليها، خاصة على مستوى الهيئات التنفيذية والتقريرية لهذا العمل الجاد والمهم والحساس. والخطير في هذا المستوى أن عددا من الأشخاص لا يكتفون بإحلال حالة اللامحاسبة واللامساءلة بفعل تقصيرهم الفاضح بل يعمدون إلى توفير الأجواء لها بل إلى إشاعة هذا النفس التهاوني والتراجعي تحت مبررات مختلفة، من بينها أن العمل الإسلامي عمل في سبيل الله وبالتالي لا حق لأحد في أن يحاسب أحد وبهذا يكون المزاج هو المحدد الرئيسي حتى لا نقول الضمير، وبالتالي ما أنجز فهو من الخير ولو قل أو انعدم ويكفي أننا نجتمع وأننا إخوة.

وهذا كلام يمكن أن يتجرع لو صدر على أحد الأعضاء الجدد أو المتعاطفين مع هذا المشروع، أما أن يصدر ممن يفترض أنهم قواده فهذا غير مقبول. فالعمل الإسلامي وكما يؤكد الدكتور الفاضل أحمد الريسوني في كتابه “الحركة الإسلامية صعود أم أفول” عمل تطوعي نعم واختياري نعم لكن كل ذلك قبل أن تدخل وتلتزم وتتعاقد فما بالك أن تقود لأنه والحال هذا يصبح تنفيذ ما اتفق عليه وما سطر ووضع من برامج بمثابة التعاقد الذي لا ينبغي أن يخل أحد الأطراف بمضمونه.

وبطبيعة الحال إذا أخضع العمل الإسلامي إلى المزاجية فبالتأكيد سيكون مساره الضعف ثم التلاشي مهما بلغت قوة مضمونه أو آليات عمله. وفي هذا السياق يتحدث الأستاذ المقرئ الإدريسي أبو زيد عن إحدى تجليات هذا الوضع ليقول إن المكتبات الإسلامية الخاصة والعامة ليست ولم تعد مهددة بأن يسطو عليها الأمن أو يصادرها بقدر ما هي مهددة بالأخ الذي يأخذ الكتاب لعدة شهور أو سنوات دون أن يعيده وأحينا حتى دون أن يقرؤه. إن هذه المؤشرات المهددة لهذا العمل إلى جانب أخرى تزداد خطورتها بوجود من يسكت عنها نعم ومن يتواطئ حولها بمعنى أنه لا يقوم بما يجب من أجل وضع حد لها وإيقافها والأسباب على هذا المستوى تختلف من فضاء لآخر ومن شخص لآخر لكن المحصلة أن هناك حالة عنوانها نقاش طويل يدوم لما يقارب العشرين سعة أو يفوقها دون الخروج أحيانا بقرار واضح بمن يتحمل مسؤولية التنفيذ وبجدولة زمنية دقيقة، أو يتخذ القرار ويبقى بلا تنفيذ لشهور ويمكن لسنوات.

وسأقف عند هذا الحد حتى لا أقول تنفيذ بلا إتقان، لأن هذا سوءال مؤجل أمام ضعف القدرة التنفيذية كخطوة أولى يعقبها نقاش التجويد والإحسان في العمل ولما لا الريادة فيه وطنيا وإقليميا ودوليا، وإن ذلك لممكن جدا لأنا نتوفر على العملة الصعبة وهي العنصر البشري. وبالرغم من الإمكانات التي تعوزنا فإن الإنسان سيتغلب عليها بكل ما هو متاح وممكن، بخلق البدائل وباغتنام الفرص ولو بغرس الفسائل.

نعم إن المشكل مرة أخرى في توفر بيئة تبرر تلك الأفعال وتقبلها وتتعايش معها، وبذلك نكون ننتج نفس قيم المجتمع التي نعيبها ونآخذ عليها.

ويكفي هنا كمثال استقدام مسألة الوقت واحترامه والانضباط إليه فكما أن المجتمع يقدم أمثال وعبارات تحرف عن موضعها من قبيل “الغايب حجته معه” و”لازربة على صلاح” فإننا وإن بشكل مختلف نوفر أيضا هذه الشروط وبنوع من التفضيل للمتقاعسين. والمشكل مرة أخرى أن هذه الحجة تضل مع ذلك الغائب طول السنة بل لسنوات دون أن يضيعها ولو لمرة واحدة أو يأتي من دونها وهكذا أصبح لكل الغائبين حججهم المرافقة لهم والتي لا تفارقهم.

لنقول إن المحاسبة والمساءلة ضرورة شرعية وحياتية وتنظيمية ولا ينبغي التخلي عنها حتى لو كان لدى البعض خوف من المواجهة كلما تعلق الأمر بمن يخشون فجورهم وظلمهم وجهالتهم.

ولنحذر من حديث إذا سرق الضعيف، ولنعبر بكل تجرد عن انحيازنا لقيم لا تحابي أحد ولنعضضها ولنمكن لها، لأن بناء القيم وصونها هو مدخل بناء الأوطان ولضمان استمرار وقوة أي هيئة وأي تنظيم لأن التعلق بالأشخاص سينتهي بالمتعلقين إلى الأرض لأن القيم باقية والأشخاص عابرون. إن هذا العمل الإسلامي اليوم بحاجة بالفعل إلى رجال المرحلة المكية مرحلة البناء ومرحلة الصبر المطلق على الأذى ومرحلة العطاء دون توقف ومرحلة الاستماع إلى قليل القرآن والشروع في تنزيله بكل تفان وإتقان.ومرحلة نكران الذات والتضحية دون انتظار الثمن الدنيوي الرخيص.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *