رمضانيات، لنا ذاكرة، مجتمع

نوابغ مغربية: ابن هيدور .. طبيب مغربي سبق العالم في الكشف عن الأمراض الوبائية

تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية.

هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة “العمق” أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات رمضانية بعنوان “نوابغ مغربية”، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ.

أبو الحسن علي بن عبد الله ابن هيدور التازي

قامة علمية كبيرة ومغمورة في التاريخ، بالكاد يعرفه باحثون قليلون في المغرب، ولا ذكر تقريبا لاسمه في المشرق، فقد عدَّه الباحث والمؤرخ المغربي امحمد العلوي الباهي بأنه أول طبيب في العالم ألف وكتب أُطروحة عن الأمراض الوبائية، وعنه ترجم الأوروبيون لفظ “كورونا”، إنه ابن مدينة تازة الطبيب وعالم الرياضيات المغربي أبو الحسن علي بن عبد الله ابن هيدور التازي الذي سبق الغرب في الكشف عن الأمراض الوبائية.

ولد ابن هيدور بمدينة تازة وبالضبط بزقاق الحاج ميمون بالقرب من مستشفاه الذي كان في الدرب ويحمل الآن اسم “درب الطبيب”، وفق ما هو مؤرخ في وثيقة حُبُسيَّة قديمة، حيث تلقى تعليمه العلمي في الرياضيات من مدرسة العالم المغربي “ابن البناء العددي المراكشي” المعروف في علوم الحساب، قبل أن يؤسس لنفسه مدرسة “أنملي” بمدينة تازة والتي تحدث عن إنشائها أستاذه ابن البناء نفسه، حسب ما ذكره الباهي.

فقد عُرف ابن هيدور في عصره إماما في علم الفرائض والحساب، وطبيبا ممارسا ومدرسا، خاصة بعدما أنشأ قرب منزله مستشفى “دار شفاء” لمعالجة المرضى وتعليم طلابه، حيث جمع فيها التراث العلمي لأستاذه عالم الرياضيات المغربي ابن البناء، ودرَّس فيها علوم الحساب والطب، وهي الدار التي بُني على أنقاضها مستشفى “ابن رشد” بتازة خلال القرن الماضي.

خلال عهد ابن هيدور ظهرت الأوبئة التي فتكت بأرواح الناس، خاصة الطاعون، وهو ما دفعه إلى الانكباب على دراسة هذه الأمراض المعدية عبر تشخيصها ومحاولة البحث عن أدويتها، إذ ألف رسالة علمية بمثابة أطروحة دكتوراه في عصرنا، حملت عنوان “المقالة الحكمية في الأمراض الوبائية”، تناول فيها ظاهرة تفشي الأوبئة عبر العالم وكيفيو انتقالها وطرق العلاج والوقاية منها، وهي الرسالة التي توجد في صيغة مخطوط بالخزانة الحسنية في الرباط، تحت عدد 9605.

المؤرخ المغربي امحمد العلوي الباهي اعتبر أن هذا المؤلف جعل الطبيب والعالم المغربي علي ابن هيدور التازي أول من ألف وكتب أطروحة حول الأمراض الوبائية، ومنها الطاعون (الكوليرا)، حيث عالج فيها إشكالية تفشي الأوبئة بفعل فساد الهواء والأغذية وتراكم الأوخام، وشدد فيها على أهمية النظـافة والوقـاية للحد من انتشار المرض المعدي، وهي نفس الإرشادات والنصائح التي تدعو إليها منظمة الصحية العالمية حاليا لمواجهة جائحة “كورونا”.

وذهب ابن هيدور في مؤلفه إلى أن أصل الأوبئة يعود في شق منه إلى فساد الهواء الذي ينتج بدوره عن “الأبخرة المتعفنة الصاعدة من الأرض، إذ ترتفع أبخرة فاسدة متعفنة من السباخ والبطائح المتغيرة والتربة الراكدة في الهواء وأقذار الناس وفضلاتهم والقتلى في الملاحم، وكل هذا يحدث عنه الوباء”، كما ربط الأوبئة بالجفاف وقلة الغذاء التي تدفع الناس إلى عدم الاحتياط ما يسبب الوباء.

يقول في مؤلفه: “فساد الأغذية المستعملة في زمن المجاعات وغلاء الأسعار يضطر الإنسان إلى تناول غذاء غير مألوف قد فسد وتعفن لطول زمانه، فينفسد المزاج من هذه الأغذية وتحدث الأمراض القاتلة”، مشيرا إلى أن الحماية من الأوبئة تكمن في “الهواء الذي يتنفس به، إذ لا يمكنه تبديله ولا مندوحة عنه لسواه، إذ هو مادة حياته فيجب عليه إذ ذاك إصلاح جواهر الهواء من اتخاذ البيوت العالية ورشها بالرياحين وبماء الورد الممزوج بالخل، والتطيب به ومسح الوجه والأطراف والمواظبة”.

ابن هيدور الذي بذل حياته في دراسة الطب والبحث في مسألة الأمراض الوبائية، شاءت الأقدار إلى أن يكون بنفسه ضحية هذه الأوبئة، إذ توفي سنة 1413 بسبب المجاعة، وهي السنة التي اشتدت فيها المجاعة بالمغرب وفتكت بأرواح الناس، وكان من بين ضحاياها أم الرحالة الشهير ابن بطوطة، والفيلسوف والطبيب أحمد بن شعيب الجزنائي الذي كان ضمن الهيئـة العلمية التازية التي صاحبت السلطان أبا الحسن المريني إلى تونس سنة 1349.

ومن الأمور المثيرة في مسيرة ابن هيدور، هو ما كشف عنه المؤرخ المغربي امحمد العلوي الباهي، حيث أشار إلى أن أصل تسمية وباء “كورونا” تعود إلى لفظ “القرينة” التي تحدث عنها ابن هيدور، وهو مصطلح بالدارجة المغربية وصف به عالم الرياضيات والأوبئة المذكور المرض الذي يفتك بالناس، حيث ترجمه الأوروبيون عن العربية إلى لفظ “Corona/كورونا”.

يقول الباهي في هذا الصدد: “فقد اختار الغربيون هـذا المصطلح وهو عنوان لمرض قديم، ووظفوه ونصوصه في دراساتهم وبحوثهم العلمية واستفادوا منه كما استفادوا من مقومات ترجمات كتب العلوم الإسلامية العربية التي كانت سببا في نهضتهـم، لقد نقلوا المخطوطات العلمية العربية الإسلامية من مَواطِينها إلى بلادهم وترجموها واستفادوا منها، وكثيرها لاتـزال المكتبات الشهيرة في عواصم البلدان الغربية تحتفظ بها”.

ابن هيدور وهو مؤلف كتاب “التمحيص في شرح التلخيص” في علم الرياضيات، والذي يوجد ضريحه بساحة أحراش بتازة العليا، اعتبر الباحث الباهي أن هناك من حرَّف المعطيات حول نسبه بطريقة مكشوفة من تازي إلى تادلي في مخطوط وانتقل إلى المطبوع وانتشر بالنقل والنسخ، “لكن مخطوطات ابن هيدور الأخرى في المكتبات المصونة بقيَّت سالمة، وليس بها اسم (التادلي)”.

ولفت الباهي وهو وصاحب كتاب “علماء تازة ومجالسهم العلمية”، إلى أن هناك مخطوطات لابن هيدور يشار فيها إليه باسم “التازي”، مثل مخطوط خاص يوجد في أنقرة بتركيا في مِلكيَّة المحقق الأكاديمي المغربي محمد بن تاويت الطنجي، موجها نداءً إلى الباحثين والمؤسسات الرسمية للاهتمام بهذا الطبيب المغربي المتخصص في علم الأوبئة، قائلا: “نتمناها فرصة تأمل وتفكير في النداء إلى جمع آثار وتراث ابن هيدور التازي الذي سبق الغرب في الكشف عن الأمراض الوبائية”.

* الصورة من الأرشيف التاريخي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *