رمضانيات

الإشارات السياسية في قصة موسى .. مابين رغبة الإصلاح ونزعة التجبر (ح 4)

الحلقة الرابعة

المنطلق قوله تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ

قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ

فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ

فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ.

إيضاحات حول السياق


بصرف النظر عن الأحداث السالفة، ننتقل إلى هذا الحدث مباشرة لأننا هنا لسنا في درس للسيرة ولا في درس للتفسير، ولكن مهمتنا كما قلت آنفا هي استخراج الدرس السياسي والإصلاحي دون الإخلال بالبنية السردية للنص. 
فموسى عليه السلام يدخل المدينة على حين غفلة من أهلها. وقد قيل إنه وقع في خصام مع آل فرعون فطرد من القصر. ومعلوم أن الدولة الفرعونية كانت مقسمة إلى قسمين؛ إلى بني إسرائيل وهم الذين على ملة إبراهيم عليه السلام، أي على دين يوسف الذي قدم إلى مصر وكان خازنا عليها في القصة المعلومة، وهناك آل فرعون وهم الأقباط أهل الأرض مصر، وكانوا وثنيين أو يعبدون فرعون . 
وموسى رغم أنه نشأ وتربى في حضن آل فرعون بعد أن نجاه الله في القصة المشهورة بذبح المواليد الجدد من بني إسرائيل، فقد بقيت فيه تلك الحمية والانتماء لبني إسرائيل، وكان على دين يوسف مؤمنا بالله موحدا. فبينما هو يدخل المدينة على حين غفلة من أهلها، يجد فيها رجلين يقتتلان؛ الأول من شيعته أي من بني إسرائيل؛ والآخر من آل فرعون أي أنه قبطي وثني.

فاستغاثه الإسرائيلي على القبطي فوكزموسى القبطي فقتله. 
فلما رجع موسى إلى نفسه ندم ندما شديدا وأصابه الهم والغم الشديد من فعلته قتل القبطي، وهو الذي حكى عنه القرآن بالقول : “وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا” . فاستغفر ربه موسى وتاب إليه فغفر له :”قال ربي إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له، إنه هو الغفور الرحيم”. فأصبح موسى خائفا في المدينة على تقدير ونفسية المبحوث عنه عندنا، يتوجس نادما على ما فعل.

فبينما هو على هذا إذ الذي استنصر موسى وقتل من أجله الرجل يستغيث بموسى مرة ثانية . فاندفع موسى نحوه بنفسية النادم وقال له بلهجة قوية : “إنك لغوي مبين” وكأنه يصب عليه غضبه إذ تسبب له في تلك الجريمة أي أنه أغواه. فلما رأى الإسرائيلي هذه الغلظة واللهجة ظن أن موسى يريد أن يبطش به فقال له : “يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس . إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين” . وهذه قراءة أولى وفهم للسياق؛ بينما يرى بعض أن القائل هو واحد من الأقباط، وأنا أرتاح للقول الأول لأن موسى عليه السلام شاع في بني قومه أنه الثائر، المنقذ المخلص، المصلح، البديل عن بطش فرعون، ولهذا شكك في نوايا موسى الإصلاحية.



الدروس والعبر

والدرس السياسي الذي نلامسه في هذه الآيات هو كيف أن موسى عليه السلام ندم لقتل رجل هو محسوب على الوثنيين، أي من الكفار بالمعنى الإسلامي اليوم، حتى إن الله سبحانه اعتبر ذلك خطيئة وظلما. فموسى عليه السلام كان يلزمه أن لا ينقاد لحميته وشيعته ويندفع للبطش برجل لا يعلم إن كان ظالما أم مظلوما, بل كان يلزمه التريث، والاستماع للطرفين والنصح. وهذه هي أخلاق المصلحين البدلاء عن الحكومات التي تميز بين مواطنيي البلد الواحد لاعتبار الجنس والأصل.
فموسى عليه السلام كان قويا شديدا تغلب فيه الحماسة؛ حتى إنه في قصة الري تحكي ابنة شعيب المديني أنه حمل صخرة عظيمة لا يقوى عليها الأقوياء من الرجال، ولهذا وصفته بالقوي الأمين. وهذه القوة الزائدة هي ما وصفه موسى عليه السلام بقوله بعد ندمه على قتل الرجل : “رب بما أنعمت علي من خير، فلن أكون ظهيرا للمجرمين”. أي أن هذه القوة التي آتيتني لن أستعملها أبدا في قتل الناس ونصرة المجرمين؛ أي أكون ظهيرا لهم ومعينا. فمهما أتى الله الإنسان من القوة فإنما يجب أن تكون في الخير وليس في قتل الناس.

يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس، إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض، وما تريد أن تكون من المصلحين” … وكأنه يقول له مذكرا يا موسى أتريد أن تكون مصلحا بقتل الناس ؟ !  بالأمس قتلت نفسا، واليوم تقتل نفسا، وغدا تقتل نفسا، ما هكذا يكون الإصلاح ، وما هذه طريق المصلحين؟ وكأنه يريد أن يقول له : يا موسى ما الفرق بينك وبين الذين تريد أن تكون بديلا عنهم من القتلة من آل فرعون وأنت قاتل أيضا .
 فكان هذا الرد هو الجرس الذي نبه في نفس موسى وأعاده إلى رشده، فلما سمع قول الرجل تراجع وفهم الرسالة، وفهم أن الإصلاح لا يكون بالقتل والتجبر.

وقد قيل إن الناس في ذلك العهد كانوا يسمون من يقتل الناس ويسرف في القتل بالجبار، وقتل الناس والإسراف في القتل هو فعل الجبابرة في كل زمان، بل هي ميزتهم وعلامتهم، ولم يكن أبدا فعل المصلحين، بل إن انتفاء التجبر كان من جملة ما مُدح به الأنبياء على كثرة المحامد لأهميته في عملية الإصلاح. نلمسه في قول المسيح عليه السلام : “ولم يجعلني جبّارا شقيّا”. والعبارة نفسها عن يحيى عليه السلام: “ولم يكن جبارا عصيا”، وهي رسالة أيضا وإشارة إلى ما تعيشه الأمة الإسلامية وبعض شبابها المتحمسين؛ من النزوع إلى قتل الناس، وحب التجبر افتراء على الله . فهذا موسى الكليم عليه السلام يندم ويمتلئ هما وحزنا فقط لأنه قتل رجلا كافرا بالخطإ، لم يتريث في معرفة ما إذا كان ظالما أم مظلوما؛ وتصيبه الغمة؛ بينما تجد بعض الجهلة من المسلمين يقتلون المسلمين وغير المسلمين بدم بارد افتراء على الله، والله من أعمالهم بريئ. فأي إصلاح هذا الذي تكون قاعدته التجبر.

وسوف أعود إلى هذه الإشارة فيما يتقدم

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *