وجهة نظر

وباء كورونا و مأزق الإنسان المعاصر من وجهة نظر إيكوأنتربولوجية

مند ظهوره في مدينة ووهان بالصين قبل خمسة أشهر تقريبا، لم يتوقف الفيروس كورونا عن الانتشار بعد أن تحول إلى جائحة عابرة للحدود، صارت تحصد الأرواح بالآلاف و تبث الهلع في النفوس من دون تمييز بين الأعراق و الأديان و الإيديولوجيات و الطبقات الاجتماعية. النظام الاقتصادي العالمي بدوره أصيب في مقتل حيث تراجع الإنتاج و ارتفع عدد الذين فقدوا وظائفهم بشكل مهول بالملايين، و بذلك تكون الليبرالية الاقتصادية قد أظهرت هشاشتها مرة أخرى، وتبين من جديد كم هي عاجزة عن الصمود أثناء الأزمات.

أصبح الآن واضحا بأن العالم، أفرادا و مجتمعات، قد وقع تحت رحمة هذا الوباء الخارج من رحم الطبيعة، وذلك بعد أن استطاع الإنفلات من رقابة آلياتها الذاتية الموجهة لضبط التوازنات الايكولوجية بين مختلف مكوناتها، والحيلولة دون تحول بعض منها إلى عنصر مدمر للآخرين. فكل خلل في المنظومة البيئية مهما كان ضئيلا لابد و أن تصل تأثيراته إلى مختلف أجزاءها و لو بعد حين. وبهذا الخصوص، جاءت مجموعة من الدراسات و الأبحاث لتؤكد أن الجنس البشري قد أصبح عرضة للفيروسات أكثر من أي وقت مضى لأن احتمال انتقالها من الطبيعة إلى الإنسان صار مرتفعا، و قالت بأن ذلك يرجع أساسا إلى المشكلة البيئية المرتبطة بالتراجع المتواصل للتنوع الحيوي و خاصة عند فصيلة الحيوانات التي تعتبر الحاضنة الطبيعية لها. و حتى لو تحقق احتمال كون الفيروس المستجد نتاج لتعديل جيني، فإن هذا لا يعني أن مكوناته الجزيئية لا توجد في الطبيعية، بل يؤكد أن للبشر قدرة هائلة في التدخل، من خلال تقنيات الهندسة الوراثية، بشكل قد يؤدي إلى ظهور كائنات ممسوخة جينيا لا شك أنها ستقود إلى تخريب التوازن البيئي و ما يترتب عنه من كوارث بيئية.

لم يكن إذن من الممكن لهذه الطفرة النوعية في دورة حياة بعض الفيروسات أن تحدث، و لا أن تتحول إحداها جراء ذلك إلى قاتل متسلسل كحالة COVID 19، لولا تعرض الطبيعة و توازناتها للإجهاد الشديد بسبب خضوعها للتدمير المكثف من طرف الإنسان المعاصر، هذا الكائن الذي وقع فريسة تصورات فلسفية مادية لم تعد ترى في الأرض و عناصرها سوى مصدر للثروة و مكب للنفايات. حصل هذا الشرخ بعد أن كانت الأرض محل إجلال و تقديس كما هو الشأن عند شعوب كثيرة مازالت متشبثة بثقافات تنظر إلى مكونات الطبيعة بنظرة ذات بعد ميتافيزيقي، تتجلى تعبيراته المتعددة في موروث أنتربولوجي غزير من الأساطير و المعتقدات و التقاليد و الفنون، هو بمثابة رأس مال رمزي اعتبره جل علماء الأنتروبولوجيا من الدوافع الجوهرية التي كانت وراء نشوء علاقة حميمية بين الإنسان في هذه المجتمعات ذات البنيات ما قبل حداثية و الوسط الطبيعي.

و كنتيجة حتمية للنزعة الامبريالية التي اختطفت عقل الإنسان المعاصر، و جعلت منه كائنا مهووسا حد الجنون بمشروع السيطرة على الطبيعة، فإن حربا كونية، كما تحدث عنها الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير في كتابه الحرب العالمية، لا شك أنها ستندلع، إن لم تكن قد بدأت بالفعل، بين هذا الإنسان المغرر بتفوقه التكنولوجي و بين أرض لم تعد تتحمل تصرفاته الهوجاء. و لذلك يمكن اعتبار فيروس كورونا مجازا بمثابة سفير لأرض منهكة، جاء برسالة احتجاج تتوخى أولا تنبيه الإنسانية المعاصرة عن تصرفاتها اللاعقلانية المدمرة للحياة، و ثانيا دعوة عقلائها إلى التأمل في هشاشة التوازنات الإيكولوجية على كوكب الأرض، والتأكيد ثالثا على أن النوع البشري يتجه حتما نحو الإنتحار الجماعي، هذا إن لم يقم بإعادة النظر جذريا في الفلسفات و الإديولوجيات التي دفعت بإنسان العصر الحديث إلى خوض حرب ضروس ضد المنظومة البيئية في غمار بحثه الدؤوب عن أسباب النمو الإقتصادي و الرفاه الإجتماعي. لم تكن هذه الحرب الشعواء على الأرض وليدة اليوم، بل تعود جذورها إلى اللحظة الفلسفية التأسيسية لعصر النهضة الأوربية، و بالضبط إلى الفيلسوف رينيه ديكارت و التقسيم الثنائي الذي أحدثه بين إنسان عاقل مقابل طبيعة مادية خالية من أيه قيمة ذاتية. و هكذا تشكلت النواة الأولى لحضارة لم تعد ترى من غاية للإنسان سوى العمل على معرفة قوانين الطبيعة في أفق التحكم و التصرف التام فيها، بحيث عندها يتحقق للإنسانية بلوغ مرتبة “السادة و المسخرين للطبيعة” وفقا للتعبير الديكارتي.

و للخروج من هذا المأزق الذي وقع فيه إنسان العصر الحديث بعدما تصور نفسه سيدا يحتل مركز الكون و قذف بالطبيعة إلى مرتبة دنيا كمادة صماء بإمكانه استغلالها كما يروق له، ترى طليعة من الفلاسفة و المفكرين المهتمين بالمشكلة الإيكولوجية و علاقتها بالإنسان، أنه بات من حكم الضرورة التخلي عن هذا التصور الشوﭬيني الموروث عن فلسفة الحداثة الغربية، و العمل على تهذيب أسلوب الحياة المنبثق عنه، لأن جميع المؤشرات الايكولوجية تشير إلى أن هذا النموذج في التفكير و التصرف غير قابل للاستدامة بيئيا. و لتوضيح هذه المفارقة يكفي التذكير فقط بأن البصمة الايكولوجية لنمط عيش سكان الولايات المتحدة الأمريكية، البالغ عددهم 330 مليون، تقدر بعشرة هكتارات لكل فرد، و هي حصة تتجاوز العتبة العالمية القابلة للاستدامة بأربعة أضعاف، بمعنى أن البشرية ستكون بحاجة قصد تلبية حاجياتها و التخلص من نفايات أنشطتها إلى مساحة تعادل ستة أضعاف مساحة كوكب الأرض، هذا لو أن كل فرد يتصرف طبقا للنموذج الأمريكي في الاستهلاك.

و لتحقيق هذا المسعى الايكولوجي، يتعين على الإنسان المعاصر، صاحب عقلانية معادية لأي شئ لا يخضع لمنطقها الداخلي وفق تعبير الفيلسوف إدغار موران، أن يتواضع قليلا و يتوجه للإقتباس من الموروث الرمزي لشعوب و أمم ظلت حتى الآن ترفض التفريط في ثقافاتها الغنية بقيم و ممارسات حكيمة، لها من الحصافة البيئية ما يكفي لكي تساهم في وضع خريطة طريق نحو حداثة أكثر تنورا بالمعرفة و الأخلاق الايكولوجية، مما يجعلها تصبح أكثر انفتاحا و ذات قدرة على دمج الأبعاد الرمزية و الجمالية و الروحية للأرض مع بعدها المادي الاقتصادي داخل نسق يضع الإنسان و الطبيعة في وضعية تفاعل لا غالب فيها و لا مغلوب.

و ختاما، فمن غير المستبعد لهذا الطرح حول الجوانب الايجابية من الناحية الايكولوجية للموروث اللامادي لشعوب يقال عنها تقليدية، و تتهم بالتخلف و الخرافة بشكل دوغمائي على شاكلة الانتروبولوجيا الاستعمارية التي وصفتها بالهمجية، و كذلك القول بأن هذا الموروث له من القيم ما يجعله مؤهلا لإفادة العقلانية الحديثة إيكولوجيا، و هو طرح بدأ يطفو حديثا على الساحة الأكاديمية بما يثيره من اهتمام لدى الباحثين تأسيا بالرواد الأوائل مثل ليڤي ستراوس و مالينوڤسكي و موس، أن يكون محط استهجان و تندر من لدن أصحاب الرؤية الأحادية، هؤلاء الذين ينظرون و بدون تحفظ إلى الحداثة في صيغتها الغربية على أنها تلك العصا السحرية لمشاكل المجتمعات، بغض النظر عن نمط عيش كل مجتمع و أولوياته و التصورات التي يحملها عن نفسه و عن العالم المحيط به. و قصد تلافي هذا اللبس، يكفي التذكير بمبدأ النسبية الثقافية، و هو مبدأ عقلاني يجعل المرء يتفادى الوقوع في مصيدة التمركز حول الذات الثقافية باعتبارها نزعة شوڤينية تعوق كل تفاعل حضاري مثمر، كما يدعو الباحث إلى توسيع دائرة الوعي لديه عند محاولة تقييم ثقافة معينة تقييما موضوعيا، ذلك لأنه من غير الممكن تحقيق هذا المسعى عند النظر إلى الثقافة موضوع البحث عبر منظار معايير ثقافة أخرى تختلف عنها.

* باحث في علم الإيكولوجيا البشرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • عبد الكريم مرشيق
    منذ 4 سنوات

    تحليل محترم للباحث سي عبد الله مشكور على ذلك, فمن ناحية علاقة البشر بالكوكب حيث يمكن اعتبارها كعلاقة تطفل للكائن البشري على الأرض. الذي يأخد أكثر من اللازم و لايعطي وبالتالي يمكن اعتبار الجائحة بالاضافة لمجموعة من الكوارث الطبيعية كرد فعل طبيعي تحديري و تنبيهي من الكرة الأرضية للبشر راجية منه ان يعيد النظر في سلوكاته وتصرفاته. ان اراد الحفاظ على استمرارية نوعه على هذا الكوكب الذي لن يجد له مثيل.

  • إسماعيل الأداريسي
    منذ 4 سنوات

    يوجد بمنتدى القراء

  • أحواش عبدالله كاتب المقال أعلاه
    منذ 4 سنوات

    مند أن نشر المقال إلا أنني كلما تصفحت الصفحة الرئيسية للجريدة لا أجده مدرجا على لائحة مقالات وجهة نظر.