رمضانيات، مجتمع

نوابغ مغربية: عبد الله بن ياسين .. نابغة سوس الذي وحـد المغرب

تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية.

هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة “العمق” أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات رمضانية بعنوان “نوابغ مغربية”، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ.

الحلقة الثالثة: عبد الله بن ياسين.. نابِغة سوس الذي وحَّـد المغرب

ارتبط ظهور الدولة المرابِطية في القرن الخامس الهجري بالمغرب في أعقاب ثلاثة قرونٍ من الانقسام السياسي وتَوزُّعِ البلاد بين إمارات متفرِّقة، بشخصية فذَّة ستدخُل بالمغرب وبدولة المرابِطين السجّل الذهبي لتاريخ أقوى دُول الغرب الإسلامي.. إنه العالِم العامِل المجاهد عبد الله بن ياسين الجَزولي.

فمن هو عبد الله بن ياسين، وكيف كان مساره، وما أهمّ إنجازاته وأدواره التاريخية في تاريخ المغرب الأقصى؟

ليس ثمَّة تاريخٌ محَدَّد على وجه الدِّقة لميلاد الشيخ عبد بن ياسين، إلا أنّ الراجح من الأقوال، ازديادُه بــ”تمنارت” ببلاد سوس مَطْلَع القرن الخامس الهجري. وتربّى في أكناف أسرة مسلمة، وأخذ العلم من حَلقاتِ شيِخ المنطقة وَجّاج من زَلّو اللّمطي، وفي قُرطَبة كذلكَ مدَّةَ سَبْع سنين. تشرَّب فيها أصول المعارف والعلوم وتشبَّع بروحٍ تجديدية متنوِّرة.

سيكون لأبي عمران الفاسي _ الفقيه المغربي المقيم في القيروان والمتوفي سنة 430هـ _ دَوْرٌ وإنْ بطريقة غير مباشرة في تعريف المغاربة وقبائل الصحراء بالعالم النّجيب عبد الله بن ياسين. ذلك؛ أنّه وبَعْد أنْ عَرَّج وفدُ الحجيج المغربي على تونس بعد انتهاء مناسك الحج قاصدا لُقْيا العلّامة أبي عمران، للتبرك بعلمه، ولتقديم طلبٍ إليه، موضوعه: انتداب شيخٍ عالِـمٍ لتعليم أبناء الصحراء وساداتها دِين الإسلام وسنّة محمد عليه الصلاة والسّلام.

فاقترح عليهم الفقيهُ أبو عمرانَ أحدَ أنجب تلامذته المقيمين في المغرب، الشّيخ (وجّاج بن زلّو اللمطي) أبرز فقهاء الجنوب الغربي المغربي، وكَـتَب إليه برسالةٍ مع رئيس وفد الحجّاج يطلب منه مرافقتَهم إلى الصحراء لتعليمهم أحكام الإسلام. تَسَلَّم الشيخ وجّاج الرسالة؛ وأَوْكَل بالمهمة الجليلة لنابغة تلامذته وشيخ سوس مِن بعده (عبد الله بن ياسين)، الذي قبِل بالأمر، وانتقل مِن بلاد سوس إلى تخوم الصحراء، ليبدأ رحلةً دعوية ورباطا تربويا أثمر دولةً مِن العيار الثقيل، وأعْطَت لاسمه إشعاعا وطنيا وإفريقيا وعربيا.

بعد مُقامٍ كريم وتقلُّباتٍ وصعوبات؛ آتَت جهود عبد الله بن ياسين التربوية والدعوية والتعليمية أُكْلَها، فَقْد جَمَع حَوْلَه قبيلة (جْدَالة) الصنهاجية، و(لــمْتونة)، وعلَّمهما أصول الدين إلى أنْ استقامتها وصارتا قوتين تربويتين وجهاديتين خاض بهما حملات عسكرية على القبائل الصحراوية الـمخالِفة، إلى أنْ تَـمّت له السيطرة على كافّة الربوع الصحراوية؛ فأسَّس بالمجاهدِين والمسلمِين الجدد في الصحراء حركة “المرابطين”، التي وطّدَ بها عملاً دعوياً منظَّماً هدَف لنشر الإسلام وتصحيح الانحرافات العقدية والسّلوكية، ثمَّ انطلق في دعوته وحَـمْلَـتِهِ شَـمالاً؛ مُعلِّما ومربٍّيا ومُصلحا وموحِّدا سياسيا.

ثاني محاولات المرابطين بقيادة ابن ياسين نشْر الإسلام وتوحيد القبائل؛ كانت في سجلماسة ودرعة اللّتان ضمّهما لدعوته وحركته سنة 445ه-1053م، ثمّ انتقل إلى سوس، فقاوم الشيعة الـبَـجَـلِـيِّـين (الذين قدِموا إلى منطقة تارودانت زَمن امتداد نفوذِ حُكم الفاطميين بالمغرب) وضَمَّ القبائل والتراب لنفوذ حركة المرابطين، ومنها اتجه صوبَ الأطلس الكبير وبلاد تامسنا، وأخْضَع أغمات عاصمة حُكم إمارة مغراوة منتصف القرن الخامس الهجري (1058م) لنفوذ المرابِطين.

بعد مَسعى التوحيد السياسي ضد التفرقة والتجزئة السياسية والجغرافية والربط الإستراتيجي بين العمق الصحراوي وشمال المغرب الذي تَمّ بتوفيقِ الله على يد هذا الرجل الصالح؛ سيُضافُ لهُ مسعى آخَر تكلّل بالنجاح، ويُحسَب في مسيرة ابن ياسين وفي سِجلِّ ابن تاشفين وقادة الدولة المرابِطية من بَعده؛ ترسيخ المذهب المالكي بالمغرب، وإرساء الاختيارات الدينية والمذهبية التي ما يزال المغرب مُستَمْسِكاً بها إلى زمننا هذا.

لقد تميّزت حياة الداعية والمربّي والمجاهد عبد الله بن ياسين بالنبوغ في العلم والشريعة، والذكاء في تبليغ الرسالة وفي منهج التربية، ولا سيما اعتماده التدرّج في مراحل التربية والتزكية والمرابطة، وبوعْيٍ سياسي مَبْنِيٍّ على إيديولوجية “الوحدة” إنْ جاز التعبير. فالرجل لَم يَرْضَ عن واقِع وحَصيلةِ قُرون مِن الشّتات القَبَلي وعدم الاستقرار السِّياسي وضُعف تطبيق التعاليم الدينية وانتشار الإمارات الحاكِمة في كلِّ منطقة من مناطق البلاد؛ فانتقَل مِن الدعوة إلى الدولة، ومن رِباط التربية إلى ساحة الأداء السياسي، بإعطاء دُفعة معنوية ومادية ومَجالية لحركة الـمرابِطين، قادَها بنفسه، عن طريق التفاوض مع بعض القبائل، واكتِساحِ أخرى بالحملات العسكرية، والقضاء على إمارةٍ هنا وإدماج أخرى من هناك.

وبَعد حياةِ تربيةٍ وجهادٍ؛ وفي أثناءِ قيادته للمرابِطين في حملتهم العسكرية على بلاد بورغواطة، ارتقى شَهيداً إلى ربّه في المعركة التي دارت رَحاها سَنة 451ه-1059م، فدُفِنَ بمنطقةٍ بين مدينة الرباط الحالية والرّمّاني..، ليَفْتَح برحيله عهداً آخَرَ لحركة المرابِطين، تَمكّنوا فيه مِن تأسيس أوّل دولة قوية مترامية الأطراف مُهابَة الـمكانة في محيطها الإقليمي والإفريقي-الأوربي.

فرحِم الله نابِغة سوس، المعلِّم المجاهِد الذي وَهبَ وقته وعِلمه وجُهده لتعليم قبائل الصحراء دين الإسلام، ووحَّد بهم تراب المغرب، وجعَل مِن حركة المرابِطين دولة ذات سياسة وسيادة، دانت لها القبائل والإمارات ومُلوك الطوائف بالأندلس.

الحلقة الرابعة من إعداد: عـدنان بـن صـالح/ باحث بسلك الدكتوراه، مختبر “شمال المغرب وعلاقاته بحضارات الحوض المتوسِّطي”، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي – تطوان.

* الصورة من الأرشيف التاريخي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • التماس
    منذ 4 سنوات

    متى سوف نرى نحن كذلك تاريخنا المجيد في مسلسلات وافلام حقيقية، تذكرنا بأصول الدولة وعراقتها وامجادها، بدل المسلسلات التركية التي تثبت تاريخها في العقول كما فعلت مصر وباقي الدول التي تجندت لصنع منتوج ثقافي يدافعون به عن هويتهم ويفتحون به افق المستقبل، بدل تفاهات رمضان والتي تزيد من الانحطاط الثقافي، لغة ومحتوى