وجهة نظر

العمل النقابي.. وقفة تأمل ومساءلة

لقد أدى تَغَوُّلُ الرأسمالية العالمية في شخص الشركات الإنتاجية والخدماتية والتسويقية وغيرها، والمؤسسات المالية بأنواعها إلى التحكم في مفاصل العلاقات الدولية بما في ذلك المنظمات الكبرى كمنظمة العمل الدولية، وذلك بشكل غير مباشرعبر منظمة التجارة العالمية التي تعتبر الدراع الأيمن للنظام الرأسمالي لإخضاع دول العالم للعولمة، بدءاً من إزالة كل القيود والعوائق التي يمكن أن تقف في طريقها السيار، من مثل الجمارك، وقوانين الشغل بما فيها القوانين المؤسسة للنقابات وقوانين الإضراب ( هذان الأخيران يُنتظر المصادقة عليهما في مغربنا في أي لحظة).

فهاهي منظمة العمل الدولية تُعمِّم، منذ بداية أبريل، خبرا مفاده أن المنظمة “تُرجِّح إلغاء ما يقدر بـِ 195 مليون وظيفة في العالم بسبب فيروس كورونا من بينهم 5 ملايين في المنطقة العربية”، وكأن الأمر جدُّ عادٍ، مكتفية بالدعوة إلى “تبني سياسات واسعة النطاق ومتكاملة تستند على أربع ركائز وهي:
– دعم الشركات والوظائف والدخل؛
– وتحفيز الاقتصاد وفرص العمل؛
-وحماية العاملين في مكان العمل؛
– وأخيرا اعتماد الحوار الاجتماعي بين الحكومة والعمال وأصحاب العمل لإيجاد الحلول”.

ومن خلال هذه التوصية الفضفاضة، يبرز الدورُ المحوري للنقابات العمالية حيث أن كل خلل أو نقص فيها، أو غياب أو تغييب لها، يمكن الدولة وأرباب العمل، بصفتيهما مشغِّلين، من أن يقررا الأسوأ في حق الشغيلة.

في خضم التنديد بما آل إليه الوضع الاجتماعي العالمي في زمن كورونا، وتقاعس شركات الأدوية، قصدا أو عجزا، عن إيجاد العلاج، وهشاشة الأنظمة الصحية للدول الرأسمالية بالخصوص، ما يعني تراجع القطاعات الاجتماعية لهذه الدول ومن يدور في فلكها ، طرح المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، خلال تصريح له لقناة ‘دييم25ت ف’ سؤالا أوَّلَ واصفا إياه بأنه سؤالا وجوديا فقال: “أي عالم نريد أن نعيش فيه؟”. ثم وضحه بسؤال ثان أكثر تفصيلا، محددا خلاله صهوة الفرس الذي يقترح ركوبه، فقال: “كيف يمكن الحديث عن خَلْق حركة اجتماعية نشطة لتواجه ما نعيشه اليوم أو ماهو مقبل وقريب جدا من تهديدات وجودية؟”.

نعم، لقد أصبح من واجبنا أن نعطي العالم جزءًا من اهتمامنا، فقد علّمَنا كورونا أن ما من شرٍّ يصيب أي نقطة من العالم لابد أن يصلنا نصيبنا منه قلَّ أو كثر. فهاهو الفيروس قد عَوْلَمَ الخوف والرعب والحجر الصحي وحتى الموت في أسابيع معدودة، وكشف من اختلالات النظام العالمي ما لم يكن في حسبان العديد من المفكرين ودهاقنة السياسيين.

لكن مع ذلك تبقى العبرة دائما بما يجري في الأوطان، اتسعت رقعتها أو ضاقت، فهي تبقى بمثابة ورشة للعمل الصناعي ، والعمل الفلاحي، والتجاري وغيره، كما أنها ورشة للتدافع السياسي والإعلامي والاجتماعي بشكل أو بآخر. إنما اليوم، يتضح أن أوطاننا تلح علينا أن نجعلها ورشة لصناعة الإنسان. وطبعا ليس أي إنسان، وإنما ذلك النوع المهدَّد بالانقراض لغياب البيئة التي تضمن استمراره على قيد الحياة. إنه إنسان التغيير إلى ماهو أحسن، إنسان يحمل إرادة العطاء وليس جشع الأخذ، إنسان يجمع الجهود ولا يفرقها، إنسان لا يكتفي بأن يكون لولبا في ماكنة اليومي، ولكن ينظر إلى المستقبل ويُعِد له عُدّته. ونعود هنا أيضا إلى شرط تشومسكي، نريد إنسانا استوعب رسالة كورونا بصفتها “إشارة تحذير ودرسا للبشرية” يدعوها إلى “البحث عن الجذور التي تؤدي إلى الأزمات، التي قد تكون أسوأ مما نواجه اليوم، والتحضير لكيفية التعامل معها ومَنْعِها من الانفجار”. ونؤكد، مَنْعِها وليس دَفْعِها إلى الانفجار، فالإنسانية سئمت من العنف بكل ألوانه؛ وأصبحت في أمَسِّ الحاجة إلى “شجرة الحياة الخالدة” التي وحْدها تبقى خضراء، على حد تعبير ‘غوتة’ الشاعر الألماني.

استيعابُ الدرس التحذيري؛ وبحثٌ عن جذور الأزمات؛ وتحضيرٌ لكيفية التعامل معها بقصد منعها من الانفجار، هذه أهم شروط نجاح “الحركة الاجتماعية النشطة” التي جاءت في السؤال-الاقتراح لنعوم. لن ندخل في تفاصيل النظريات التي فسرت تكوين الحركات الاجتماعية ومكوناتها وأداء القائمين بها وما يكتنفها من سلوك وما يرتبط بها من دوافع. كما لن نفصل في تعريفات المفهوم، وإنما نكتفي، مما جاء في كتاب “تشارلز تللي” في هذا الموضوع، بالإشارة إلى أن ” الحركة الاجتماعية هي محاولة قصدية للتدخل في عملية التغيير الاجتماعي”، وأن مفهومها “يقترن بمفهوم القوة الاجتماعية، والقدرة على التأثير وإحداث التغيير”. ثم إنه مفهوم يطرأ على عناصره الإبداع المتواصل تبعا للظروف السياسية والاقتصادية السائدة. ولعل التاريخ يسجل منذ القرن الثامن عشر مجموعة من الحركات الاجتماعية ذات طابع دولي أو/ومحلي، كلما استجد شرط التحرك. نذكر مثلا أنه في عام 1997 قامت حركة اجتماعية أوروبة لاسترجاع حقوق العمال، حين أقدمت المفوضية الأوروبية على تقليص النفقات الاجتماعية؛ وفي 2004 تمت التعبئة ضد الرأسمالية العالمية لاسترجاع الآمال المحطمة، كما تصفها المصادر، للعمال الأوروبيين مع معالجة مشاكل العالم الثالث.

قبل أن أمارس حقي في مساءلة العمل النقابي بوطني الحبيب على ضوء ما سبق عرْضُه من وقائع تُحتَّم، أكثر من أي وقت مضى، اتخاذ مواقفَ استباقية مُلزِمة للمُبْتلين بقيادة النقابات المركزية والقطاعية في هذا الزمن العصيب، سأضع في يدَيْ القارئ بعضا من المنارات نضيئ بها طريقنا ونحن ماضون إلى ساحة المساءلة.

المنارة الأولى:

بعد إضراب 14 دجنبر 1991، قام الأستاذ محمد نوبير الأموي الزعيم النقابي، وهو في كامل قواه النضالية والفكرية والنظرة الموسوعية التي يتميزبها، قام بجولة وطنية شملت مجموعة مدن يبارك صمود الجماهير ويحلل المتغيرات العالمية والمحلية ويرسم معالم المستقبل. وهذه بعض التصريحات مما دوَّنْتُه عنه حضوريا بمكناس، انتقيتها لما لها من ارتباط بالموضوع الذي نحن بصدده، وإلا فالكلمة التي أطّرها العنوانُ العريض “الوضعية الراهنة وآفاق النضال” كانت قوية وغنية، وفي تقديري كانت من أهم ما رشحه لاستحقاق وسام المحاكمة والاعتقال.

قال الأستاذ محمد نوبير الأموي: “هذه الأحداث تفرض تأسيس نقابة جديدة على ضوء ما يجري في العالم، وتغيير أساليب العمل”. ولعل الفقرة الأخيرة تفسر المعنى المقصود من التأسيس. وكان الموضوع المتداول إعلاميا إذاك هو صدى التحركات العمالية ونتائجها التي قادها “ليش فاليسا” الزعيم السياسي والنقابي مؤسس “نقابة تضامن” البولندية.

وقال أيضا، وكأنه يتحدث عما يُنتظر أن يقع فيما قريب كأثر لوباء كورونا، ” العالم اليوم يدخل مرحلة جديدة، وإن تحديات جديدة ستواجه بلادنا في الأسابيع القادمة فلا حاجة لأمة ضعيفة”. ربط بين العالمي والوطني ودعوة استباقية لـ “منع الانفجار” كما جاء على لسان نعوم.

وأخيرا أضيف هذه الفقرة التي جاءت في الكلمة: ” فاتح ماي سيكون تظاهرة لكل فئات شعبنا وسندرس الأمر بتنسيق مع الاتحاد العام للشغالين، والنقابة الوطنية للتعليم العالي،والكونفدرالية الديمقراطية للشغل، يجب ألا نخطئ، فكل أفواه البنادق موجهة إلى التنسيق بين النقابات”. وما وقع بالفعل، بعدما قرر المخزن القطع مع ما كان يسمى “حكومة التناوب”، فاق ضربَ “التنسيق بين النقابات” وتعداه إلى تفتيت ما بناه الأموي، لينتقل العمل النقابي من ما يمكن أن نصطلح عليه بـ ” مرحلة العمل النقابي الاستراتيجي” إلى “مرحلة العمل النقابي التقنوي” المرتبط بتدبير ما طلعت عليه شمس يوم بعينه.

المنارة الثانية:

القطاع النقابي لجماعة العدل والإحسان، سواء في شقه الطلابي أو العمالي والمهني، آمن منذ انطلاقه في ثمانينيات القرن الماضي بمبدأ العمل المشترك والوحدوي لمصلحة جماهير الشعب المغربي. ووجد هذا المبدأ ترجمتَه على أرض الواقع.

ففي الساحة الطلابية:

– على مستوى الخيار، تم تحرك فصيل طلبة العدل والإحسان من داخل المنظمة الطلابية العتيدة، الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في تحدٍّ للحذر العملي المفروض على هذا الاتحاد، وبالفعل استطاعوا إعادة إحيائه من جديد رفقة من سار سيرهم، وإخراجه للوجود فاسحين المجال لكل التيارات لخدمة الطلبة؛
– دعوة الفصيل لرموز وطنية ويسارية من أجل تأطير فعاليات طلابية، الفيلسوف عابد الجابري نموذجا. إضافة إلى فتح ورشات تنسيقية ناجحة مع عدة فصائل يسارية داخل الساحة الجامعية في مجموعة مدن مغربية، قبل أن تتراجع هذه الأخيرة اختياريا؛
– إطلاق الفصيل لمبادرات للتواصل والحوار بين الفصائل الطلابية، فلم تُرفض من الناحية المبدئية ولكن يكون الغياب سيد الموقف.

على مستوى النقابات المهنية والعمالية:

– على مستوى الخيار، باشر العمال والموظفون عملهم النقابي من داخل المركزيات التى تَعرِف نسبيا نوعا من وجود الرأي والرأي الآخر، وتفادى ما يسمى دراعا نقابيا لحزب ما، تجنبا للحرج والإحراج؛
– حرص القطاع النقابي لجماعىة العدل والإحسان على التركيز على الشعار” من أجل جبهة نقابية موحدة” منذ 2002، يتصدركل بياناته التي توزع في صفوف شغيلةِ أهَمِّ المركزيات النقابية، وعلى المستوى الوطني، في كل عيد عالمي للعمال الموافق لفاتح ماي من كل سنة.

وقد تم هذا انطلاقا من نظرة ذات بعدين: بُعْدٌ تاريخي يستفيد مما راكمته تجربة الحركة النقابية بالمغرب من تعترات وتراجعات وما ضاع إبَّانها من مكاسب، دون نكران محطات الاصطفاف مع المستضعفين وما تحقق معها من امتيازات وإن كان التربص بها لا يتوقف؛ وبُعْدٌ استراتيجي يضع في حسبانه كون بلدنا مجانبا للديمقراطية سياسيا، ومُرْتَمِيًّا في أحضان النظام الليبرالي اقتصاديا، ومُكَبَّلا بشروط المؤسسات الدولية الدائنة ماليا، فلا منقذ من جشع المستغِلين عندما تحميهم السياسة القائمة، ولا رافض لانزلاقات تراجع الدولة عن القطاعات الاجتماعية، إلا حركةٌ اجتماعيةٌ موحدةٌ، قويةٌ، تقف بجانب حقوق الشغيلة حفاظا ومطالبة، وتدفع في اتجاه إحداث المزيد من فرص الشغل، ولِمَ لاَ في اتجاه إحلال الأمن الاجتماعي والرفاه.

المنارة الثالثة:
في ملامسة ما نحن بصدده، ينطلق المهندس عبد الحميد أمين من تجربته النضالية الطويلة في العمل النقابي والعمل الحقوقي وكذلك السياسي، مما يجعله مُلِمًّا بالمجتمع عامة والعمل النقابي خاصة. ما رَشَحَ من كلامه في مقالته لشهر نونبر من السنة الماضية، والتي لم يتكلف فيها الكثير من التعابير، وإنما وضعها مادة خام وبأسلوب واضح للجميع من غير لفٍّ ولا دوران، وهو المناضل الشرس.

انطلق من الحكم الذي كونه كخَبيِر في الميدان عن قرب بل واحتكاك بأهله فقال:
” انطلقت من التردي الخطير لاحترام القيم الإنسانية والنضالية على مستوى المجتمع وعلى مستوى التنظيمات النقابية للشغيلة المفترض فيها أن تكون مدارس للديمقراطية ومدارس لتربية الأجيرات والأجراء وعموم الكادحين والكادحات على احترام مبادئ العمل النقابي الأصيل وعلى التشبع بالقيم الإنسانية والنضالية السامية”.
لا أحد ممن لا تزال فطرته سليمة يقبل بهذا التردي إذا رآه في مجتمعنا بالرغم من أعذار الجهل والأمية المنتشرين فيه، ولكن أن تتفشى ظاهرة التحلل من القيم الإنسانية والنضالية في أوساط من رَشَّحوا أنفسهم تطوعا للدفاع عن هذه القيم، فهذا أوسعُ بابٍ تدخل منه خفافيش الاستغلال لكبح جماح الحركة النقابية. أو كما يضيف خبير النضال: ” وسحقِ قيم الكرامة الإنسانية والحرية والمساواة والتضامن والعدالة الاجتماعية”.

ويتساءل المهندس عبد الحميد أمين، قبل أن يسرد مع التفصيل مجموعة من القيم الواجب التحلي بها، يتساءل مع من سميناهم سابقا “المُبْتلين بقيادة المركزيات النقابية أو القطاعية”، فيقول: ” فهل يمكن بناءُ عمل نقابي على أسس المبادئ السالف ذكرها(يقصد الوحدة والتضامن والجماهيرية والديمقراطية والاستقلالية والتقدمية،والشعار الأساسي الذي ساقه وهو: “خدمة الطبقة العاملة وليس استخدامها”) في ظل قيادات تفتقر للقيم النضالية؟ قيادات قد تكون أحيانا أنانية، فاسدة ماليا، منحرفة أخلاقيا، غير صادقة، منافقة، لا تحترم التزاماتها، جبانة،…؟”.

نقول من منطلق السمو الأخلاقي، ومن منطلق “محاسبة المسؤولية”، المفهوم المباشر الأنجلوسكسوني حتى لا نتيه مع التواءات “ربط المحاسبة بالمسؤولية” الفرنكفوني، نقول لا يمكن “للذئب أن يرعى الغنم”، ولا يمكن لـ”حراميها أن يكون حاميها”. إذن الآن نفتح باب المساءلة…
(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *