وجهة نظر

سلاح العقوبات الجمركية الدولية في حرب عمالقة التجارة العالمية

تعد العقوبات الجمركية الدولية الذراع القوي للعقوبات التجارية الدولية؛ لأنها تعتبر الأنجع من حيث اعتماد الدول عليها لإنجاح عقوباتها الاقتصادية عموما، والتي تعد العقوبات التجارية إلى جانب العقوبات المالية، قبضتيها اليمنى واليسرى. وتقوم الحروب التجارية عموما على مقومات السياسات الحمائية، التي تدخل بالأساس ضمن العقوبات الجمركية الدولية المطبقة في مواجهة السلع والخدمات والأشخاص.

وتكون أهم أدواتها الرسوم والحواجز الجمركية والقيود الكمية والصحية، والقيود على المواصفات والمعايير، والشروط الفنية “التعجيزية” وتعقيد المساطر الجمركية؛ بالموازاة مع رفع الضرائب الداخلية على الاستثمارات الأجنبية ورفع سعر الفائدة، وإضعاف رأس المال واليد العاملة. ويعود هذا النوع من العقوبات إلى مراحل تاريخية مبكرة. حيث يرجع تاريخ أول ممارسة في هذا الصدد إلى سنة 432 ق.م، والمعروفة “بمرسوم ميغارا–MEGARA ” الذي أصدره “بيركليس” باسم أثينا في اليونان القديمة. فرض بمقتضاه هذه العقوبات ضد ميغارا ومنعها من الوصول إلى ميناء أثينا وأسواقها. واتخذتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا غداة الحرب العالمية الأولى ضد البضائع الموجهة إلى ألمانيا.

وتشكل العقوبات أو الإجراءات الجمركية “Les mesures douanières” وأخواتها من المقاطعة الاقتصادية والحظر التجاري أركان العقوبات التجارية عموما. وتعد أحد أبرز النتائج الحتمية للتطورات المتسارعة والشاسعة للعلاقات الاقتصادية والتجارية الدولية. فلما أيقنت المجموعات البشرية منذ القدم، أن تحقيق الاكتفاء الذاتي بالنسبة لجميع موارد الدولة الاقتصادية والتجارية هو أمر يستحيل تحققه؛ وأنه لا مفر لها من توسيع مجال معاملاتها الاقتصادية والتجارية وتنويع المتدخلين والشركاء والفاعلين؛ أدركت أن لغة الاقتصاد الدولي والتجارة الدولية لم تعد تعترف بالحدود الجغرافية، بل بالاعتماد المتبادل بين الدول لتسهيل التجارة العابرة للقارات.

وذلك من خلال إزاحة القيود والحواجز الجمركية فيما بينها، عبر التعاون المتبادل والانخراط في اتفاقيات ومناطق التجارة الحرة وعبر الاتحادات الجمركية؛ وفق ما تطرقت إليه المادة 24 من الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة “GATT”. حيث يتم بالنسبة لمناطق التجارة الحرة إزالة الرسوم الجمركية بالنسبة للمبادلات التجارية الأساسية الخاصة بمنتجات أقاليم هذه المجموعة، وكافة القيود الجمركية وغير الجمركية المفروضة على التجارة البينية بين أعضائها. ويستثنى من هذا التحرير خدمات رأس المال وكذلك الترتيبات الخاصة ببعض السلع ذات الحساسية، التي قد تتأثر بتحرير التجارة في الأجل القصير.

بينما يتم بالنسبة للاتحادات الجمركية استفادة أطرافه من العديد من الامتيازات الجمركية التي منها: إلغاء الرسوم الجمركية والقيود التجارية بين الأقاليم المكونة للاتحاد الجمركي؛ إزالة جميع القيود الجمركية وغير الجمركية المفروضة بين دول الاتحاد؛ إلغاء الحدود الجمركية بين الأعضاء وتوحيدها في مواجهة الأقاليم الأجنبية عن الاتحاد؛ توحيد التعريفة الجمركية بين الأعضاء في مواجهة الواردات التي يستقبلها الاتحاد من الخارج؛ توحيد القوانين الجمركية بين أعضاء الاتحاد ومواءمتها؛ إجراء التعديلات اللازمة على الاتفاقيات التجارية الموقعة بين أعضاء الاتحاد وباقي الكيانات الأخرى، حتى لا تتعارض نصوصها مع التزامات دول الاتحاد؛ وحدة تبادل المواد والخدمات بين بلدان الاتحاد؛ ثم التوزيع المتكافئ لعائدات الرسوم الجمركية وفق الأنصبة المتفق عليها.

ويعتبر الاتحاد الجمركي أكثر تقدما على مستوى الآلية الاندماجية من منطقة التبادل الحر، حيث الاتحاد الجمركي = منطقة تبادل حر + تعريفة جمركية موحدة في مواجهة العالم الخارجي. فما هي أشكال العقوبات الجمركية وأهم تطبيقاتها التي شهدتها أبرز جولات الحرب التجارية الأمريكية الصينية الأوربية الراهنة؟ وما هي أسبابها وخلفياتها وأهدافها ومخاطرها؟ وأي موقع لمنظمة التجارة العالمية بجهازها لتسوية المنازعات في هذه الحرب؟ وهل نجحت جائحة كوفيد-19 فيما أخفقت فيه هذه المنظمة بأجهزتها في انحسار جولاتها؟

أشكال العقوبات الجمركية الدولية

تتميز التدابير الجمركية بغناها من حيث تنوع الإجراءات التي تأخذ عدة أشكال من العقوبات؛ كسلاح الحرمان من بعض الامتيازات الجمركية “La suspension des avantages douanières” الناتجة عن أحد أنواع الاندماجات الاقتصادية المتقدمة، كاتفاقية التفضيل الجمركي، ومنطقة التجارة الحرة، والسوق المشتركة، والوحدة الاقتصادية، والتكامل الاقتصادي التام.

وترتبط مسألة الاستفادة من الامتيازات الجمركية بانخراط عدد من الدول في إحدى هذه المراحل. لاسيما منطقة التجارة الحرة والاتحاد الجمركي، اللذان يمثلان النموذج الأقرب من حيث السياق العام لتطبيق العقوبات الجمركية. ثم سلاح الرفع من الرسوم الجمركية “L’augmentation des droits de douanes” الذي يمثل أحد أوجه التدابير الحمائية التي تلجأ إليها الدول في علاقاتها التجارية الدولية، لحماية اقتصادها الوطني ومنتجاتها الوطنية من المنافسة الخارجية القادمة مع وارداتها من السلع والخدمات من جهة؛ ومن الإغراق في إطار سياسة فرض رسوم مكافحة الإغراق “Droits Anti-Dumping-DAD” من جهة أخرى.

وذلك من خلال الرفع من هذه الرسوم للحد من التدفق اللا محدود لبعض السلع المنافسة، التي قد تنطوي أحيانا على نقص في الجودة رغم انخفاض أثمنتها عن أثمنة نفس السلع بالسوق الوطنية. ثم سلاح الرقابة الجمركية على عمليات التصدير والاستيراد”Le contrôle douanier des opérations d’import-export” التي تعتبر إجراءات روتينية لأجهزة الجمارك في أوقات السلم؛ غير أنها تتحول إلى عقوبات جمركية أثناء الحروب التجارية الدولية، لحرمان دول المواجهة من السلع الحيوية ومن مدخرات احتياطي النقد الأجنبي من العملة الصعبة والذهب. حيث يحق للدولة أن تمنع دخول البضائع الأجنبية، لاسيما في غياب التزامات صريحة منصوص عليها في الاتفاقيات التجارية، باعتماد ما يعرف بالشروط الفنية “التعجيزية” من قبيل التشكيك في صحة شواهد المنشأ “Système des certificats d’origine”، التي تخول لأطرافها مجموعة من الامتيازات الجمركية، وتعد إحدى الوثائق الضرورية لاستكمال إجراءات التعشير والاستخلاص الجمركي بين دولتين أو أكثر بموجب اتفاقيات التبادل الحر.

ومن قبيل التضييق والتماطل في تسلّم وتسليم شهادة الملاحة “Système de certificat de navigation maritime”  الوثيقة الرسمية التي تحملها السفن المحملة بالبضائع، وتعتبر إحدى الوثائق الضرورية لاستكمال الإجراءات الإدارية اللازمة للسماح للسفن المحملة بالبضائع للرسو بميناء الدولة. علاوة على عقوبة الإدراج في نظام القوائم السوداء “Sanction d’insertion dans les listes noires”، التي تعمل الدولة المرسِلة (المعاقِبة) من خلالها على إدراج أسماء شركات ومستثمري الدولة الهدف أو الذين لهم علاقات معها في هذه القوائم. ويترتب على ذلك قطع جسر العلاقات التجارية معها، حيث يتم وقف التعامل التجاري والمالي مع المؤسسات التي تتعامل معها. ثم عقوبة وقف العلاقات الشخصية “Sanction de rupture des relations personnelles” التي تعرف بـ”العقوبات النوعية”. وهي استكمال للعقوبة التي قبلها، حيث يترتب عليها منع أرباب شركات ومستثمري الدولة المرسِلة من إقامة أية علاقات مع شركات الدولة الهدف، وكذا منعهم من الحصول على أي امتيازات أو إقامة أي استثمارات بأراضيها.

غير أنه لإنجاح هذا النوع من العقوبات، لابد أن تتضافر جهود الدول المجاورة للدولة الهدف مجتمعة بمساعدة دول أجنبية؛ وذلك في إطار ما يعرف بإجراءات المساعدة الجمركية “Les mesures d’assistance douanière”. حيث عادة ما تعمد الدول لضمان إنجاحها إلى إرسال بعثة مشتركة من الخبراء الجمركيين، المعروفة اختصارا بـ”SAM-Sanctions Assistance Missions”، على غرار ما قامت به أمريكا ودول مؤتمر الأمن والتعاون الأوربي “CSCE” في مواجهة يوغوسلافيا سابقا سنتي 1991 و1992.

وما قامت به المديرية العامة للجمارك في المفوضية الأوربية ببلجيكا في نفس السنة، من خلال إنشاء مركز للتنسيق والتواصل مكلف بتمويل لجنة الخبراء الجمركيين الأوربيين. وإنشاء دوريات للمراقبة الجمركية على نهر الدانوب بمبادرة من دول اتحاد أوربا الغربية “UEO”، ودول منظمة حلف شمال الأطلسي “OTAN”، ومؤتمر الأمن والتعاون الأوربي “CSCE” ودول الاتحاد الأوربي “UE”.

تطبيقات العقوبات الجمركية في حرب عمالقة التجارة العالمية

انطلقت شرارة الحرب التجارية لاسيما الصينية الأمريكية في مايو 2019 عندما فرضت أمريكا عقوبات جمركية ضد شركات صينية على رأسها مجموعة هواوي للاتصالات “HUAWEI”، تمثلت في عقوبة الإدراج في نظام القوائم السوداء أو “قائمة الكيانات” في منتصف شهر يونيو 2019. وعقوبة وقف العلاقات الشخصية التي تمثلت في منع الشركات الأوروبية والكورية الجنوبية واليابانية من مزودي هواوي من تزويدها بالمكونات اللازمة لتصنيع أجهزتها.

علاوة على منع الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” شركات بلاده للبرمجة “Google” و”Apple” من التعاون معها، بعدما وصف مشروعها لتطوير تقنيات شبكة الجيل الخامس 5G الصيني بمثابة تهديد للأمن القومي الأمريكي، على خلفية القلق بشأن إمكانية استخدام الصين لمعداتها للتجسس. ودخلت العلاقات التجارية بينهما مرحلة جديدة من المواجهة فيما عرف بحروب الجيل الخامس. مقابل ذلك ردت الصين بإصدار برنامجها التشغيلي الخاص “HarmonyOS”، وتأبطت شرا بأمريكا بفرض نفس العقوبات من خلال إدراج الشركات الأمريكية “غير الجديرة بالثقة” العاملة في الصين في نظام القوائم السوداء.

علاوة على تطبيق عقوبة الشروط الفنية “التعجيزية، التي تترتب عليها التأخيرات الحاصلة في عمليات التخليص الجمركي للسلع والبضائع الأمريكية الواردة. قابلتها الولايات المتحدة في غشت السابق بفرض عقوبة رفع الرسوم الجمركية من %10 إلى %25 على 5410 من المنتجات الصينية، أي ما يوازي 500 مليار دولار من الواردات الصينية نحوها. فردت الصين بفرض عقوبة مماثلة، تمثلت في رفع الرسوم الجمركية من %5 إلى %10 على 5078 سلعة أميركية بقيمة 75 مليار دولار. ورسوما بقيمة %25 على السيارات الأمريكية، و%5 على قطع غيار السيارات.

على الجبهة الأخرى  فرضت أمريكا على الاتحاد الأوربي رسوما عقابية جمركية مرتفعة على بضائع أوروبية بقيمة 7,5 مليار دولار؛ دخلت حيّز التنفيذ بتاريخ 17 أكتوبر 2019. بلغت 10% على الطائرات الأوروبية و25% على المنتجات الغذائية. وذلك بعدما قضت منظمة التجارة العالمية بتاريخ 30 شتنبر قبله، بعدم قانونية الدعم الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي لمجموعة صناعة الطائرات الأوروبية “إيرباص”، ضمن النزاع القانوني السابق بينها وبين مثيلتها “بوينغ” أمام منظمة التجارة العالمية الذي يعود إلى سنة 2004، والذي كان لصالح الاتحاد الأوروبي. مقابل ذلك كان بعض الخبراء يتوقعون أن تقوم منظمة التجارة العالمية بنفس الإجراء سنة 2020، بأن تسمح للاتحاد الأوربي بفرض نفس العقوبات الجمركية ضد أمريكا لنفس السبب، وهو الدعم الذي قدمته من جهتها لمجموعة صناعة طائرات “البوينغ” العملاقة ما بين سنتي 1989 و2006.

وذلك من خلال إعادة تفعيل أوربا لرسوم جمركية ضدها قيمتها 4.4 مليار دولار متعلقة بنفس النزاع القانوني. لاسيما أنه بتاريخ 09 يوليو 2019 كان قضاة محكمة الاستئناف بمنظمة التجارة العالمية، قد أصدروا حكما يقضي بأن الولايات المتحدة لم تمتثل بالكامل لقرار المنظمة، فيما يتعلق بالإجراءات الاقتصادية المخالفة للقواعد التي تتخذها والتي تقضي بالرفع من بعض الرسوم الجمركية. إذ لطالما عبر الرئيس الأمريكي “ترامب” عن معارضته لاتفاقيات التجارة الحرة متعددة الأطراف مثل “نافتا” اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، واتفاقية “الشراكة عبر المحيط الهادئ”، والاتفاقية التجارية الجديدة بين أمريكا والمكسيك وكندا، التي وصفها بأنها محل الكثير من العيوب والأخطاء في اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية.

فكان رد دول الاتحاد الأوربي لا يقل قسوة دفعت بالرئيس الأمريكي “ترامب” إلى مهاجمتهم بأنهم أقاموا حواجز جمركية هائلة أمام الصادرات الأميركية نحوه؛ لاسيما الصعوبات التي تواجهها بلاده في بيع منتجاتها وعلى رأسها السيارات، بينما يمكن لهم بيع منتجاتهم بسهولة في الولايات المتحدة. ولعله لم ينس في هذا السياق عقوبات الرسوم الجمركية المشددة التي فرضتها دول أوربية في نهاية 2018 على عائدات شركات الإنترنت الأمريكية العملاقة؛ “Google – Apple – Facebook – Amazon” عرفت برسوم «GAFA» (الحرف الأول من أسماء هذه الشركات) وصلت إيراداتها إلى %3. ردت الولايات المتحدة بالمقابل بفرض رسوم جمركية مشددة، بلغت بالنسبة لفرسنا مثلا نسبة 100% على منتجات تساوي قيمتها 2.4 مليار دولار، مثل الشمبانيا وجبنة الروكفور وحقائب اليد ومساحيق التجميل والأواني الخزفية من صنع ليموج وغيرها. وذلك رغم انعكاسات ذلك عليها، حيث يؤدي وقف استيراد النبيذ الفرنسي لوحده إلى خسارة ما بين 11200 و78600 وظيفة في الولايات المتحدة.

لا يعني كثرة تداول مصطلح الحرب التجارية الدولية التي دارت رحاها بين الصين وأمريكا وأوربا مؤخرا أنها الأكبر في التاريخ. ففي ثلاثينيات القرن الماضي خاضت الجمارك الأميركية هذا النوع من الحروب بسلسلة من الإجراءات الحمائية، تمثلت في رفع الرسوم الجمركية بشكل كبير لحماية اقتصادها، بعد أن كانت قد غرقت في كساد كبير من العقوبات الجمركية التي شنها الرئيس الأميركي “هيربرت هوفر”، تمثلت في رفع الرسوم الجمركية على سائر الدول بنسبة %45 على قائمة من السلع والبضائع تضم ما يناهز 900 صنفا امتدت لسنوات. اتسعت لتشمل ثلث الواردات الأميركية من السلع والبضائع، مما تسبب في ركود اقتصادي كبير.

كما نشبت حروب تجارية جمركية قوية بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا بالتحديد، في سنوات الثلاثينيات والستينيات والثمانينيات والتسعينيات حول العديد من المنتجات. ولعل المتتبع لجولات هذه الحرب التجارية لاسيما بين القوتين العظميين أمريكا والصين، سرعان ما يتبين أنها، بالشكل الذي تمت به، لم تكن إلا مجرد تكتيك لإجبار الصين، المخيفة اقتصاديا وتجاريا وتكنولوجيا، على الجلوس إلى طاولة المفاوضات لإدخال بعض التعديلات على التعريفات الجمركية، والتخطيط سوية لفتح الأسواق التي كانت الصين قد خططت فعلا للإعلان عنها.

فالشركات الأمريكية نفسها لم تكن لتتوانى عن إجبار الرئيس الأمريكي على التراجع عن حرب من هذا النوع، حتما ستكون أمريكا الخاسر الأكبر فيها من حيث فقد أسواق آسيوية كبيرة، ستؤدي إلى الركود في الاقتصاد الأمريكي وارتفاع الأسعار دون الأجور وانخفاض العمالة. فالولايات المتحدة والصين تمثلان خُمسى الناتج المحلي الإجمالي العالمي وحوالي ربع التجارة العالمية. والصين كانت أكبر مساهم منفرد في النمو العالمي على مدى العقد الماضي. وبمقارنة صادرات الصين نحو أمريكا التي بلغت 500 مليار دولار خلال السنوات الأخيرة، مقابل 150 مليار دولار واردات الصين منها؛ يتجلى التفوق الصيني في السلع الرأسمالية وعلى رأسها الهواتف الذكية وأجهزة الحواسيب، والسلع الاستهلاكية والبضائع المصنعة وأجزاء ومكونات بعض التجهيزات التي تحقق فيها فائضا تجاريا. بالمقابل تحقق أمريكا فيها عجزا واضحا في ميزانها التجاري، ولا تتفوق على الصين إلا في السلع الأساسية وعلى رأسها المنتجات الزراعية.

لقد أدركت أمريكا أن الصين لم تعد لتكتفي بتصدير الملابس والساعات والمظلات الشمسية والأحذية الرياضية المقلدة والدمى ولعب الأطفال. هكذا يبدو بجلاء أنها خطة للحيلولة دون تربع الصين على هرم التكنولوجيا العالمية، ودون إعادة هيكلة اقتصادها للتركيز على التصنيع عالي التقنية والدقة، وعلى تقليص الفجوات التكنولوجية ومستوى الدخل بينها وبين الدول المتقدمة بدأً من الولايات المتحدة. وبالأساس لخلخلة مشروعها الاقتصادي الإستراتيجي المعروف بـ “الطريق المفتوح لسنة 2025” الذي يعتمد سياسة الاقتصاد المفتوح ويعتمد بالأساس على التكنولوجيا المتطورة في مجالات من قبيل الذكاء الاصطناعي، والأجسام المتحركة “Robots” والمركبات المتقدمة “Advanced Motors” والطب البديل “Biopharm”، والمعدات الطبية ومعدات الطيران”Aéronautiques”.

هذا المشروع الذي قابلته بمشروع أمريكي موازي معروف بـ “لجنة اليقظة CFIUS” التي أنشأها الكونغريس الأمريكي للتصدي لأي محاولة أجنبية، صينية بالتحديد للاستحواذ والسيطرة على أي شركة أمريكية. لاسيما أنها تعلم أن الصناعات المستقبلية ستكون لها تداعيات عسكرية عميقة، مما يرفع من درجة التخوف الأمريكي من مجرد تهديد الانتعاش الاقتصادي، إلى التحول وجهة الهيمنة على العالم. فالولايات المتحدة تسعى منذ فترة لأن تعرقل التوسع التقني الصيني، لتحول دون انتشار منتجاتها في السوق العالمية التي فرضت فيها قواعدها وشروطها لتبقى شبه مهيمنة عليها لعقود، حيث كانت المنتج الصناعي العالمي الأول منذ الحرب العالمية الثانية.

ولا تكمن الهيمنة الأنغلوسكسونية في فرض شروطها وقواعدها فحسب، بقدر ما تتجلى في منع الصين خصوصا من تقديم تجربتها الخاصة.لاسيما بعد أن تفوقت الصين في مزاحمة نفوذها في السنوات الأخيرة بعد أن أصبحت المنتج الأول للسلع في العالم، في الوقت الذي تحول فيه الاقتصاد الأمريكي إلى اقتصاد مستورد فاقد للهيمنة التجارية أمامها. ويشهد على ذلك نجاح شركة “Alibaba” المتعددة الأنشطة والخدمات على الإنترنيت وذراعها التجاري “AliExpress” في أن تكون ندّا قويا لشركة “Amazon” الأمريكية العملاقة. علاوة على ما قامت به بعض الشركات الأوربية العملاقة التي تمركزت بالأساس في الصين، مثل شركة “MICHLEN” الفرنسية؛ وشركتي “BMW” و”Volkswagen” الألمانيتين رغم ارتباط الصناعة الألمانية بالمنظومة الأنكلوسكسونية.

وشركة “جنيرال موتورز” التي كانت شراكة صينية فأصبحت شبه صينية تماما. وشركة “تيسلا للسيارات” التي كانت شراكة فأصبحت صينية بأكثر من %90. علاوة على بعض الشركات الأمريكية مثل “IPHONE”. هذا دون إغفال أن الديون الخارجية للولايات المتحدة في جزء كبير منها تمتلكها الصين، ثم اليابان التي تعتبر حاليا أقرب إلى الصين من أمريكا.

إن تحليل الخطوات التي قام بها الرئيس الأمريكي ترامب في حربه التجارية مع الصين، باعتماده لعقوبتي الإدراج في القوائم السوداء لبعض الشركات الصينية من جهة، ومنعه للشركات الأوربية والآسيوية المتعاملة معها من إقامة أية علاقات معها من جهة أخرى؛ تنم عن إستراتجية يمكن أن نطلق عليها “إستراتيجية تحصيل الحاصل” التي أخذت تكتيكين: تكتيك التضييق على الشركات الصينية لاسيما العاملة في بلاده لدفعها إلى المغادرة، الذي يترتب عليه تكتيك انتظار رد الفعل المماثل من التضييق لفسح المجال أمام الشركات الأمريكية المستقرة في الصين للعودة إلى الوطن الأم. بمعنى أنه لا يمكن بلوغ الغاية الثانية إلا بعد سلك التكتيك الأول.

وبدوره أخذ التكتيك الثاني منحيين: منحى الترهيب الجمركي ومنحى الترغيب الضرائبي؛ فمن جهة أولى قام الرئيس الأمريكي في إطار ما يعرف بـ “توطين الشركات”، بدعوة العديد منها للعودة إلى أمريكا حيث هددها برفع الرسوم الجمركية عليها. ومن جهة ثانية عمل على خفض الضرائب الداخلية عليها بما يعادل %79، مما شجعها على العودة بشكل كبير، حيث مكنت من ارتفاع الناتج المحلي الأمريكي بمعدل %3.2 سنة 2019.

وضمن من خلالها العديد من فرص العمل لمواطنيه، وأدى إلى انخفاض البطالة بمعدل قياسي لم تعرفه بلاده منذ ستينيات القرن الماضي وهو %3.2. وقد كان الهدف من وراء ذلك جعل الاقتصاد الأمريكي لا يعتمد فقط على التصدير، بل بات لزاما عليه في ظل الاستراتيجيات الاستباقية للحروب التجارية المستقبلية المحتملة، أن يحقق النمو من خلال تزايد حجم الاستهلاك المحلي الذي ستضمنه هذه الشركات التي تمت إعادة توطينها. مما سيمكن من تحريك عجلة الاقتصاد بشكل كبير ويساهم بالمقابل في الرفع من مداخيل المواطن الأمريكي، وسيشجعه على الإنفاق أكثر في دورة اقتصادية محلية تكاملية بديلة، تعتمد في ذات الوقت على الإنتاج والاستهلاك داخل أمريكا بالأساس.

وهو ما كان سبقه إليه الرئيس الأمريكي السابق “باراك أوباما” من خلال فرضه لتدابير حمائية جمركية على الصلب، من أجل دفع المستهلك الأميركي لإيجاد بدائل وطنية تمكنه من مواجهة الإغراق الصيني. غير أن هذا التوجه وإن كان يبدو محمودا من وجهة نظر وطنية محلية؛ إلا أنه من وجهة نظر دولية واعتبارا لحرية التجارة الدولية التي قامت عليها منظمة التجارة العالمية، يبدو تراجعا عن مبادئ هذه المنظمة التي تعد أمريكا المالكة لزمام أمورها. حيث كان من الأجدر بالرئيس الأمريكي الحالي أو الذي ستسفر عنه الانتخابات الرئاسية المرتقبة في دجنبر المقبل، أن يستحضر درسا من دروس ثلاثينيات القرن الماضي ويعتمد سياسة الرئيس الأمريكي الأسبق “تيودور روزفلت”، عندما قام بتغيير سياسة بلاده لوضع حد للحرب التجارية التي كانت قد نشبت بينها وبين العديد من الدول.

حيث اعتمد سياسة الانفتاح الاقتصادي لبلاده على باقي العالم. وكان من أهم نتائجها أنها دفعت بالعديد من الدول إلى التراجع عن إجراءاتها الجمركية المشددة، التي كانت قد شرعت في اتخاذها ردا على العقوبات الجمركية التي كانت بلاده قد اتخذتها في مواجهتها قبل توليه الرئاسة. بل لعل الأجدر باستحضاره هي منظمة التجارة العالمية التي لم تكن قد وجدت في حينه، لكنها لم تفعل.

إخماد جائحة كورونا للحرب مبرر لإصلاح منظمة التجارة العالمية

عندما قتل قابيل هابيل في أول جريمة قتل عرفتها البشرية بدافع الرغبة في الهيمنة الانفرادية، قعد عاجزا لا يدري ما يفعل؛ فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه. واليوم بعد أن اقتتلت الصين وأمريكا بالأساس في حربهما التجارية، وعجزت كل منهما ومنظمة التجارة العالمية بجهازها لتسوية المنازعات عن وقفها، بعث الله فيروسا ميكروسكوبيا ليريهما كيف يواريان سوءاتهما، وليريهما سبل الرشاد في التجارة العالمية. إذ في أواخر شهر دجنبر الماضي وافقت أمريكا والصين على المرحلة الأولى فقط من الاتفاق التجاري بمجرد توقيعها.

مما يعني بداية بلوغ الحرب التجارية نقطة الصفر “Volume 0%”؛ لاسيما أنها سارت إلى ذلك مجبرة بفضل جائحة كوفيد-19 التي أرغمتهم على ذلك. فلا ريب في أن هذه الجائحة قد تفوقت على منظمة التجارة العالمية في إخماد الحرب التجارية الدولية، ما بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية وأوربا وتجنيبهم تصعيدها، حيث لا مناص كانت ستتحول من حرب التكنولوجيا التجارية إلى حرب التكنولوجيا العسكرية ثم الحرب العسكرية المدمرة.

لاسيما بعد أن كانت الصين، ردا على إدراج مجموعة هواوي في القوائم السوداء وما ترتب عليه، قد شرعت في تدارس احتمال استخدام سلاح حظر تصدير 17 عنصرا حيويا من المعادن الصينية النادرة، التي يعتبرها معهد المسح الجيولوجي الأمريكي حساسة من أجل الاقتصاد والدفاع القومي الأمريكي. لكونها تستخدم في عدد كبير من الصناعات الحيوية العسكرية والطاقة والإلكترونيات والسيارات. وتعتبر الصين أكبر منتج لها في السوق العالمي، وتستحوذ على نحو %80 من واردات الولايات المتحدة منها. لذلك يبدو أن الصراع الدائر بين آسيا وأمريكا عموما، وأوربا بشكل أقل، يدور حول من سيمسك بمقود منظمة التجارة العالمية لقيادة التجارة العالمية، من خلال السيطرة على البيانات التكنولوجية الكبيرة “BIG DATA” في إطار حقوق الملكية الفكرية. إن التفاتة إلى التاريخ السحيق للأمم تؤكد حقيقة أنه كلما تعددت جبهات الأطراف المتداخلة في الحرب التجارية؛ كلما أنذر ذلك باقتراب تحولها إلى حرب عسكرية طاحنة بسبب صعوبة احتوائها.

ففي الحضارة اليونانية القديمة عندما بدأ الحصار الاقتصادي والمقاطعة الاقتصادية بين مدينة أثينا في مواجهة جاراتها من المدن اليونانية، ما لبث أن تحول ذلك من حرب تجارية إلى عسكرية متعددة الأطراف. ففي كتابه “نشر الحمائية: قانون سموت والكساد العظيم”، يرصد الخبير الاقتصادي “إيرون كرونيكل” العناصر التي يمكن بناءً عليها، تقييم مدى خطورة الحرب التجارية أو الاقتصادية وعمق تأثيراتها؛ وتشمل عدد الأطراف المتورطة فيها وحجم السلع، وامتداداتها الزمنية واحتمالات نهايتها.

وخلال القرن العشرين رأينا تطور الشركات المتعددة الجنسيات المالك الفعلي لرؤوس الأموال العالمية، التي كان هدفها على المستوى التجاري العالمي خلق تكتلات تجارية عالمية، تدعمها المصارف التجارية الكبرى للسيطرة على اقتصاديات العالم بأسره. حيث باتت الدول مجرد كيانات سياسية في المستوى الثاني بعد هذه الكيانات التجارية العملاقة. فلم تعد الدول تتحكم في الأنشطة الاقتصادية التي تديرها هذه الكيانات العظمى، بل باتت رهينة لها لأنها من يتحكم في خفض أو رفع الرسوم الجمركية والضرائب. بل هي من أصبح يسن التشريعات التي تسوس بها المنظومة التجارية العالمية، ولا تفعل الدول أكثر من تنفيذها.

وفق ذلك يرى البعض أن منظمة التجارة العالمية لم تعد إلا إحدى الأدوات الأوليجارشية المتمركزة في الولايات المتحدة الأمريكية للهيمنة على الرأسمال العالمي. وذلك بناءً على حقيقة إعطائها الأولوية لسلطة المال على سلطة الدولة، فأصبح للمال دولة وليس للدولة المال. وذلك استنساخا لصراع الطبقة الرأسمالية حول مفهوم الدولة في أوربا الغربية، والصدام الذي وقع في القرن السابع عشر ما بين البرجوازية والملكية في بريطانيا وفرنسا، بين من يمثل سلطة الدولة ومن يمثل سلطة المال.

إن عوامل إخفاق المنظمة العالمية للتجارة ولدت معها وترعرعت في أحضانها. إذ لعله لا يخفى أنه لا توجد شروط موحدة بين سائر الدول للالتحاق بمنظمة التجارة العالمية كأعضاء. ففي التسعينيات من القرن الماضي عندما تم التفاوض بين الصين وهذه المنظمة، كان من أهم ما أفضت إليه هذه المفاوضات هو حرية التصرف في اليوان الصيني، التي تعتبر ضمن القرارات السيادية الصينية التي لا دخل لها بأي موازين خارجية. عندئذ اعتقد الأمريكيون والأوربيون أن ذلك سيسهل المناورة ضد الصين. لكن ما لبثوا أن تبينوا أن هذا القرار كان حكيما وذا بعد إستراتيجي بعيد المدى؛ سيجعل الصين تتربع على قمة التجارة العالمية.

لاسيما أن تسارع الأحداث كان مبعثا للعديد من التساؤلات حول إمكانية تفوق اليوان الصيني، الذي يحتل المرتبة الثالثة بعد الأورو والدولار الأمريكي، ليتصدر الترتيب العالمي للعملة الأكثر تداولا في التجارة العالمية. ما يؤكد هذه المخاوف سماحه في غضون هذه الحرب لعملته بالهبوط إلى ما دون 7 يوان مقابل الدولار الأمريكي. هذا الإجراء الذي أكد البنك المركزي الصيني أنه تدبير من التدابير الأحادية الحمائية، كرد فعل مقابل رفع الرسوم الجمركية الأمريكية أمام السلع الصينية، أدى إلى وصف الصين بالتلاعب بعملتها وأدخل الحرب التجارية ضد الولايات المتحدة الأمريكية منعطفا آخر.

عن ذلك يتحدث الاقتصادي الفرنسي “أنطوان برونيه” في إحدى مقالاته عن العلاقة بين الصين والعالم الغربي على هامش انعقاد قمة مجموعة السبع في فرنسا، بعد أن أعادت الصين بتاريخ 23 غشت 2019 تصعيد مستوى مواجهتها التجارية مع الولايات المتحدة؛ حيث يرى أن هذه الخطوة كانت بمثابة وسيلة للحفاظ على الفائض التجاري السنوي الضخم. لاسيما أنها قامت في ذات الوقت بخفض قيمة عملتها إلى حدود 7.09 يوان مقابل الدولار الأمريكي. ما أدى إلى انخفاض في متوسط مؤشرات الأسهم الأمريكية بنسبة %2.5، وساهم في قفز سعر الذهب متجاوزا عتبة 1500 دولار.

إن ما يزكي تخوف أمريكا هو نجاح الصين فعليا في إقناع المتعاملين معها من دول العالم على التعامل باليوان الصيني بدل الدولار الأمريكي. هذا التخوف الذي ترجمه على أرض الواقع القرار الذي اتخذته الدول الثمانية الأعضاء في منظمة شنغاي للتعاون “SCO”، التي من بينها الصين وروسيا والهند قرارا باعتماد العملات المحلية والوطنية في التبادل التجاري والاستثمارات الثنائية بدلا عن الدولار الأمريكي. فهل يمكن اعتبار ذلك بداية للنهاية؟ أي سقوط إمبراطورية الدولار لصالح اليوان، بحكم أن النقد والاقتصاد والتجارة مرتبطون فيما بينهم. غير أن السيناريو الوارد في هذا الخصوص حسب بعض الدارسين، هو الانتقال إلى عملة أخرى تحمل اختصارا اسم “DTS” “Droits de Tirage Spéciaux”، وهي عبارة عن سلة من العملات التي أحدثها صندوق النقد الدولي سنة 1969 وسبق أن تحدث عنها الاقتصادي “كينز”.

فالصين لا تفتأ تدفع بقوة في اتجاه إبرام اتفاقية إقليمية للتجارة الحرة، تحمل اسم الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة. وهي خطوة ترمي إلى تقوية إقليمية الاقتصاد والتجارة التي ستتحد على خطة تجارية واحدة، في مواجهة خطة تجارية إقليمية أخرى منافسة؛ ما قد يؤدي إلى إضعاف هيمنة منظمة التجارة العالمية الخاضعة بدورها للهيمنة الأمريكية. ولعله نفس التوجه الذي نهجه الاتحاد الأوروبي الذي عمل على دراسة إمكانية إنشاء منظمة جديدة للتجارة العالمية، تكون أمريكا فيها عضوا غير مرغوب فيه، في إطار خطة للطوارئ تهدف إلى تفادي سياسة الرئيس الأمريكي ترامب في التجارة الدولية. لاسيما بعد الصراع الذي عاشته منظمة التجارة العالمية في نهاية 2019 المتمثل في إلغاء محكمة الاستئناف التابعة لجهازها لتسوية المنازعات، بسبب رفض الأميركيين تسمية قضاة جدد فيها.

وفي ذلك أكدت مفوضة التجارة الأوروبية “سيسيليا مالستروم” قبل انتهاء ولايتها، أن الجهود التي بذلت في سبيل منع الولايات المتحدة من شل المحكمة ذهبت سُدًا. بينما يرى مدير المنظمة “روبيرتو أزيفيدو” أن إلغاءها قد يفتح الباب أمام حالة أكبر من عدم اليقين وعمليات انتقامية خارجة عن السيطرة. بينما يرى “إدوارد ألدن” الخبير في السياسة التجارية بمركز دراسات مجلس العلاقات الخارجية، أن القضاء عليها وإلغاءها كان هدفا أمريكيا ونجحت في تحقيقه. وقد سبق لإدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما أن سعت فيه بدورها من خلال  عرقلة تسمية قضاة فيها. وحسب ما توضح “إلفير فابري” الباحثة في “معهد جاك دولور”، فإن منظمة التجارة العالمية بحاجة إلى جهازها القضائي وللمفاوضات في نفس الآن، من أجل تفادي التحول إلى العمل بـ”شريعة الغاب”.

فإذا ألغيت هذه المحكمة فقد تتحول الحرب التجارية من استثناء إلى القاعدة السائدة دوليا. ويرى الباحث “إدوارد ألدن” أن شل الذراع القضائية لهذه المنظمة، لا يسهم سوى في إضفاء طابع رسمي للنظام التجاري العالمي المضطرب، بسبب القرارات الأميركية لفرض رسوم جمركية على شركائها الاقتصاديين وخطوات هؤلاء المضادة. ولعل ذلك ما دعا “سيسيليا مالمستروم” إلى التباحث مع البلدان الأخرى حول إمكانية إنشاء محكمة تحكيم جديدة خارج منظمة التجارة العالمية. هذا بينما فضلت روسيا الاتحادية بين هذا وذاك التريث والترقب، ففي غضون تعليقه على موقع بلاده في هذه الحرب التجارية في منتدى سانت بطرسبورغ بتاريخ 07 يونيو 2019، استخدم الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” المثل الصيني القائل جوابا على ذلك: “هناك حكمة صينية عظيمة تقول: “عندما تقتتل النمور فيما بينها في الوادي.. يتنحى القرد الذكي عنهم بعيدا ويراقب كيف ينتهي الأمر”.

وفق ذلك يرى “ستين جاكوبسن” كبير الاقتصاديين ومدير شؤون الاستثمار في مصرف “ساكسو بنك” الدنماركي، أن روسيا تعتبر من أكثر المستفيدين على الصعيد الإستراتيجي والسياسي والاقتصادي من الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية خصوصا. حيث بات الوضع الاقتصادي في روسيا يتحسن بشكل كبير، وقد أصبحت العلاقات بين الصين وروسيا أقوى من أي وقت مضى.

إن إعادة قراءة هذا المقال عموديا من حيث انتهى، ستبين كيف يمكن لعدم استدراك منظمة التجارة العالمية من فكي الهيمنة الأحادية، بإصلاحات جدرية وعميقة تجعلها تقوم بالمهام والمبادئ التي وجدت من أجلها، في الحفاظ على سلامة وحرية التجارة العالمية، وتحقيق التنمية العالمية وحل النزاعات التجارية فيما بين الدول عند قيامها؛ لاسيما بعد أن تبين تعطيل الولايات المتحدة الأمريكية لأجهزتها وعرقلة جهودها في ضبط التجارة العالمية، لإطلاق يدها وهيمنتها عليهما معا؛ سيؤدي في مرحلة أولى إلى الاستعاضة عنها بمنظمات تجارية إقليمية بديلة، تمهد لإنشاء منظمة عالمية جديدة لا تقبل بعضوية أمريكا فيها. هذه الأخيرة سوف تعارضها لأنها سحب للبساط من تحت أقدامها؛ وسيكون أمامها أن تختار بين التراجع والتفاوض لإعادة الحياة إلى المنظمة الحالية بشروط آسيوية وأوربية مشتركة، أو التصعيد في وجه الدول العازمة على خلق كيان تجاري عالمي برؤية جديدة، لا توافق هوى السياسة الأمريكية الحالية على الأقل.

والاختيار بين الحلين يبقى رهينا بما ستسفر عنه الانتخابات المقبلة التي تراهن فيها الصين على صعود مرشح من الحزب الديمقراطي المنافس للرئيس الجمهوري الحالي “ترامب”. والتي قد تبقي بالمقابل على هذا الأخير المحب للتصعيد والضارب بعرض الحائط لقرارات منظمة التجارة العالمية، مما قد ينذر بحروب السيطرة التجارية التكنولوجية المخيفة، التي ستعيد استعمال كافة العقوبات الجمركية، ثم التجارية بشكل أوسع قد يؤدي إلى انتشار ما يعرف بـ “تسليح التجارة”، ثم الاقتصادية الشاملة، هذا ما لم تتطور لتصبح تكنولوجية عسكرية مدمرة، كنا بالغيها لولا جائحة كورونا التي أخمدتها بينما وقفت منظمة التجارة العالمية عاجزة للأسباب السالف بيانها.

* باحث في العلاقات الدولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *