رمضانيات، لنا ذاكرة

الشفنج .. طبق عرفه الإغريق وأعده المغاربة قبل ألف سنة بالعسل والمكسرات

يعتبر أكل الإسفنج أو (الشفنج) كما يطلق عليه المغاربة من العادات والتقاليد التي لا زالت مترسخة في وجدان أجيال من المغاربة؛ خصوصا الذين ترعرعوا في الأحياء الشعبية وازقة مدن المغرب العتيقة؛ أو الذين درجوا على التوجه إلى الأسواق الأسبوعية المنتشرة على ربوع بوادي المغرب وقراه.

ولازالت بعض من دكاكين السفناجين تؤتث أزقة بعض شوارع المغرب العتيقة وأسواقه؛ وهي التي كانت منتشرة في كل حي من أحياء مدن المغرب الى وقت قريب ؛ وهي الدكاكين التي أشار إليها صاحب كتاب “جني زهرة الآس في بناء مدينة فاس” علي الجزنائي ق 14، وهو يتحدث عن فاس زمن الموحدين.

لكن هل طبق السفنج وليد تلك المرحلة أم أن جذوره ضاربة في التاريخ؟ وذلك بالنظر إلى أن للطبخ أجنحة؛ تجعله يتنقل من حضارة الى حضارة ومن شعب الى شعب؛ كل يضيف إلى ما وصله من طبق ويجعله أكثر غنى وتألقا مما وصل إليه!

الإغريق والرومان .. أولى الإشارات

بالرجوع إلى الكتب التي أرخت للطبخ عند الإغريق والرومان؛ يطالعنا جالينوس الطبيب الاغريقي المتوفى سنة 216م والذي عالج العديد من الأباطرة الرومان، على طريقة طهي الكعك في الزيت؛ وهي طريقة وردت حين حديثه عن المفاضلة بين أنواع الخبز، وهي الإشارات التي أوردها كل من جون ويلكنز وستون هيل في كتابهما “الطعام في العالم القديم”.
وأما طريقة تحضير هذا الكعك كما أوردتها “كاتي كوفمان” في كتابها “الطباخ في الحضارات القديمة” فتتلخص في وضع الزيت في مقلاة تستقر على نار هادئة حتى يسخن؛ ثم يصب عليه دقيق الحنطة المخلوطة بوفرة بالماء (وهو نفس عجين الشفنج)؛ وسرعان ما يقلب بالزيت فتنتفخ وكأنها جبنة؛ وهي إشارة في نظرنا واضحة لا تحتاج إلى تأويل في كون الأكلة التي يتحدث عنها جالينوس هي السفنج؛ ويقلبها الطباخون حتى تنضج على الجانبين يضيف جالنيوس؛ وقد أشار كذلك كل من جون ويلكنز وستون هيل في كتابهما “الطعام في العالم القديم”؛ لنفس طريقة التحضير والإعداد عند جالينوس.

لكن هل أخذ الإغريق والرومان هذا النوع من الأطباق عن البابليين؟

البابليون أصل الحكاية

يذكر المؤرخ اليوناني هيرودوت أن الملك الفارسي أحشورش الأول عندما هزم في معركة مع الاسبارطيين سنة 480 ق م؛ تراجع جيشه وترك الخيمة المزينة بالضفة والذهب؛ فطلب بوسنيس pausanias من الطباخين والخبازين من الفرس تحضير عشاء على الأسلوب الفارسي؛ كما طلب من خدمه تحضيرها على الأسلوب الاسبرطي؛ ودعا ضباطه الاسبرطيين الى كل من المائدتين؛ وضحك من الفارق بينهما قائلا: “أيها السادة لقد دعوتكم هنا لاريكم عبث الفرس الذين يعيشون بهذا الأسلوب الباذخ، فقد جاؤوا إلى اليونان ليسرقوا منا فقرنا. (كتاب الطباخ: بلقيس شرارة).

ويعتبر مؤرخو الطعام والمهتمين بتاريخ الطبخ؛ أن أصل حكاية قلي الفطائر أو الكعك بالزيت؛ قد وردت في ما بات يسمى بألواح جامعة بيل؛ وهي ثلاثة ألواح بابلية كتبت بالخط المسماري سنة 1650 ق م؛ أي ما يزيد عن 3500 سنة من اليوم؛ حيث وثقت تلك الألواح [وصلتنا ضمن جزء كبير من مجموعة ضاعت] 35 وصفة من وصفات الطبخ البابلي منقوشة بالخط المسماري؛ كان من ضمنها وصفة لفطائر تتكون من الحليب والزبدة والدقيق والبيض يتم قليها في الزيت.

وترجح المؤرخة كاتية كوفمان الخبيرة الأكاديمية في الطبخ في كتابها “الطبخ في الحضارة القديمة” أن تكون الوصفات التي كتب بالخط المسماري؛ قد كتبت من طرف الكهنة الذين كانوا يقومون بالطبخ للآلهة بأنفسهم.

أما إذا كان الذين قدموا هذه الوصفات وأرّخوا لها في منطقة الغرب الإسلامي التي أصبحت مستأمنة على كل ذلك الإرث الإنساني السابق؛ فقد كان أغلبهم جزءً من بلاط السلاطين؛ يعدون الاطباق ويتفننون في تطويرها.

حين حضر المغاربة “الشفنج” بالعسل واللوز

إذا كان بن رزين التجيبي في كتابه فضالة الخوان (الطبخ في الأندلس القرن 13) قد قدم مكونات الاسفنج وطريقة الإعداد والذي سماه “اسفنج الريح” بالطريقة التي يعرفها أغلب المغاربة اليوم؛ (الطحين الممزوج بالماء والذي يترك لكي يختمر؛ والذي يمزج بالبيض كذلك)؛ فإن صاحب كتاب أنواع الصيدلة في أنواع الأطعمة؛ الكتاب الذي قدم وصفات من المغرب والأندلس خلال الحقبة الموحدية؛ فقد قدمه محشوا بالعسل واللوز والجوز والفستق والصنوبر؛ حيث ميزه عن غيره من الاسفنج.

يقول صاحب الكتاب: “ثم تأخذ اللوز والفستق والصنوبر الذي دققت؛ وتطرح الجميع على العسل؛ وتحركه حتى ينعقد؛ ثم تجعل العجين الذي جعلته في القدر من السميد؛ وتجعل عليه من هذه العجنة المنعقدة بالعسل … ثم تلف الرغيف بيدك وتدورها حتى تأتي مستوية مدورة كأنها لقمة….وتأخذ مقلاة وتجعل فيها زيتا؛ فإذا بدأ بالغليان تلقى اللقم من الاسفنج؛ وتقليها بنار لينة حتى يتم؛ وإذا اردت ان تعقدها بالسكر فافعل”.

وإذا أردنا أن نقدم ملاحظات عما ورد في كلا المرجعين حول إعداد السفنج أو الشفنج كما يطلق عليه اليوم في الدارجة المغربية؛ فلا يسعنا سوى التأكيد دون مبالغة؛ أن المغاربة قد تفننوا في إعداد هذه الوجبة التي كانت تباع في حوانيت السفاجين في مدن المغرب والأندلس بطرق متعددة ومبتكرة؛ وبالتالي لا نستغرب إذا قلنا إن ما يسمى اليوم بالبينيي الذي يرش عليه السكر فقط؛ هو نسخة فقيرة لما ذكرنا عن السفنج بالعسل وأنواع المكسرات؛ أما الانواع الاخرى منه؛ والتي تعرفها دول مثل اسبانيا؛ فهي الابن الشرعي لما ذكرنا؛ وذلك بالنظر إلى أنه بعد 100 سنة من سقوط غرناطة (1492) ألف رئيس طباخي الملك الإسباني فليب الثالث فرانسيسكو مارتينيز كتابا عن الطبخ عام 1611؛ سجل فيه 500 وصفة طعام أساسها الطبخ الأندلسي بعنوان “فن الطبخ وعمل الكيك والبسكويت و المرئيات”.

وهي إشارة ذات دلالة ولا تحتاج إلى مزيد بيان وشرح؛ بالنظر كذلك أن الطبخ في أوروبا كان فقيرا للغاية ساعته ؛ خصوصا فيما يتعلق بما يسمى بالمعجنات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *