وجهة نظر

السنة الدراسية ولعبة الألوان

إشاعة تناقلتها مختلف مواقع التواصل الاجتماعي مفادها: “قرار وزارة التربية الوطنية جعل الموسم الدراسي الحالي سنة بيضاء، ونجاح جميع التلاميذ والتلميذات”، عمدت الوزارة على إثر ذلك إلى نفيها نفيا قاطعا، كما تم ضبط صاحبها، وتمت متابعته ومحاكمته وفق القوانين الجاري بها العمل.

والحقيقة أن اختيار هذا اللون للتعبير عن سنة بدون معنى وبدون مردودية يعتبر أمرا مثيرا لكثير من التساؤلات: ما دلالات اللون الأبيض عموما ؟ ما سر اختياره في هذا السياق ؟ ما العلاقة الرابطة بين اللون الأبيض والنجاح المجاني الذي توهمه صاحب التدوينة/الإشاعة ؟ هل من قبيل الصدفة أن يتم الربط بين الأمرين “رمزية البياض” و”النجاح” ؟

يتضمن الرمز عادة_كما يقول الباحثون في التواصل_ أكثر من دلالة تنفتح على بعدين اثنين: أحدهما ظاهر، وهو ما تتلقاه الحواس منه مباشرة، والآخر باطن، يرتبط بالمعنى المراد تبليغه.

يرتبط اللون الأبيض بمجموعة من المعاني والإيحاءات الإيجابية: منها الخير والنقاء والبراءة والصفاء لهذا السبب ترتديه الفتيات يوم زفافهن، تصوير الملائكة باللون الأبيض، تقديم الرعاية الصحية “الأطباء والممرضات”، النظافة، الاتساع والانتشار، التجدد والإشراق… فهل ثمة علاقة محتملة بين هذه المعاني الجميلة وبين سنة عُطِّلَتْ فيها الدراسة قسرا ؟ وأُغْلِقَت أبواب المدارس والثانويات والكليات ومراكز التكوين ؟ وحيل بين الأساتذة وتلاميذهم بجدران الحجر الصحي ؟ أعتقد جازما _انطلاقا من حقيقة أنه ليس من خطاب بريء_أن استحضار هذا الوصف في السياق المغربي يدل على:

_نفور تام من فضاء المدرسة، ورغبة جامحة في التخلص من التزاماتها وواجباتها وفروضها وامتحاناتها.
_ميل كبير إلى الكسل والدعة والتهاون .
_عدم الشعور بأدنى غضاضة في تحقيق نجاح مجاني دون بذل أدنى مجهود.
_استعذاب حالة الحصار التي يعيشها التلاميذ في ظل الحجر الصحي، مادامت تلبي الرغبة اللاشعورية

المسكوت عنها في النوم والإهمال والخلود إلى الراحة بمفهومها المبتذل البئيس.

الغريب في الأمر أن هذه المعاني تشترك كلها في كونها سلبية مُشْعِرَة بالنفور والاشمئزاز والغثيان، تناقض تماما المعاني البهية، والإيحاءات الجميلة التي يدل عليها اللون الأبيض.

الآن وقد خرجت الوزارة بقرارات تهم تنظيم الموسم الدراسي الحالي، ونحن نعيش هذه الظروف العصيبة وغير المسبوقة، هل يمكن أن نتحدث عن دلالات اللون الأسود ؟ هل النفي القاطع لحقيقة السنة البيضاء يعني بمنطق المخالفة أنها سنة سوداء ؟ ما مؤشرات السواد من خلال القرارات المتخذة ؟ ما المستويات الدراسية التي ستراها سنة بيضاء ؟ وما المستويات التي ستعتبرها سنة سوداء؟

يتصل اللون الأسود في علم النفس بالأمور المجهولة والسرية، وهو لون الغموض، هو لون الخوف والقوة، وهو مصدر لإظهار السلطة، ويقال في علم النفس الإنساني إن محب اللون الأسود هو شخص منطو على نفسه، ومنضبط، ومستقل، وهو صاحب إرادة قوية… بعض هذه المعاني السلبية يمكن الوقوف عليها من خلال حالة التوتر والقلق التي يعيشها تلاميذ البكالوريا الذين توقفت فجأة أحلامهم، وحرموا من إتمام وحدات المقرر بشكل حضوري مع أساتذتهم، السواد يحضر بمذاق الحرمان من العطلة الصيفية بالنسبة لتلاميذ السنة أولى بكالويا الذين سيظلون يحملون هَمَّ التفكير في الامتحان الإشهادي طوال فصل الصيف بكل ما يميزه من ارتفاع درجة الحرارة وما يسببه من ارتخاء وتهاون ونوم… ويحضر بمذاق التأجيل والتمديد والانتظار القاتل بالنسبة لتلاميذ السنة الثانية بكالوريا … وما يعلقون على نتائجها من آمال الالتحاق بالمدارس والمعاهد العليا…

السواد يخيم على كل الأسر في ظل الحجر الصحي الذي قيد الحركة ومنع الناس من مغادرة البيوت، وجعلهم يعايشون أهوال الموت بشكل يومي، ملزمين بمتابعة نشرات الأخبار التي تنقل أنباء تثير الرعب والفزع “أعداد المصابين، أعداد الوفيات…”، أصبح الموت حاضرا بشكل قوي ويومي في حياة كل منها، نحن الذين تعودنا على التهرب من ذكره أو إثارة ما يُذَكِّرُ به، بل ومن من فرط تعلقنا بالحياة نتشاءم من كل ينغص عليها هذا الوهم الجميل الزائف، أصبح مشهد الجثث الممدة بأكفانها البيض مشهدا عاديا…يذكرنا بالتجارب القاسية التي عاشها أجدادنا في سنوات خلت، عندما كانت تهاجمهم الأمراض الفتاكة على حين غفلة لتحصد أرواح المئات بل الآلاف منهم في رمشة عين، ليس من قبيل الصدفة أن يحضر اللون الأسود لتوثيق هذه الحقائق التاريخية المرعبة، فبعض هذه الأوبئة القاتلة كان يسمى “الطاعون الأسود”.

خلاصة القول إن إطلاق إشاعة “السنة البيضاء” لم يكن بريئا ولا سَاذَجاً بالشكل الذي نتصوره، بل إنه يختزن دلالات ومعان عميقة ترسم بعضا من السمات المميزة لأجيال متعلمينا خلال الألفية الثالثة، أجيال فتحت أعينها على عالم قطع أشواطا كبيرة في مجال التقدم التكنولوجي والعلمي، فأصبح بلمسة أنملة قادرا على السباحة في بحار المعارف ومحيطات العلوم، وعلى السفر إلى كل بقاع العالم/القرية الصغيرة، غير أنه _للأسف الشديد_ عوض أن يسعى للانخراط الإيجابي في هذه الثورة التكنولوجية المذهلة، وللإسهام في تنميتها وتطويرها، اكتفى بموقف المستهلك السلبي الذي ينفر كليا من الجد والاجتهاد ويحلم ب”سنة بيضاء” تمحنه الحق في نجاح مجاني رخيص وبارد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *