الأسرة، مجتمع

“العادات الغذائية” 19: تأثير البعد الكوني على التحول التاريخي للغذاء

سلسلة “أنتروبولوجيا العادات الغذائية”، نتناول فيها مواضيع تتعلق بالعادات الغذائية المغربية في ارتباطها بمجموعة من الأبعاد البيولوجية والسيكولوجية، والثقافية، والذوق، والدين، والتراث، والهوية… وكذلك في علاقتها بالجانب الاقتصادي والاجتماعي للأفراد في اختياراتهم الغذائية. وسيتم التطرق لها بالتفصيل انطلاقا من كتاب “تحول العادات الغذائية بالمغرب القروي -دراسة أنثروبولوجية-“، منشورات دار الأمان 2015، لأستاذة علم الاجتماع والانثروبولوجيا بجامعة القاضي عياض نعيمة المدني، عبر حلقات يومية طيلة أيام رمضان، في جريدة “العمق”. 

الحلقة 19

مكتسبات التناول التاريخي لموضوع الغذاء

من بين  كل المؤلفات المتناولة لتاريخ الغذاء، انفردت مساهمة ريمون كرو GREW Raymond في هذا الباب برصد إبستمولوجي حثيث، يمزج بين جمال الأدب، عمق الفلسفة ودقة التحليل:

يروم اتخاذ التغذية كموضوع للتاريخ الوصول إلى وصف المجتمعات بشكل مباشر وملموس، من خلال رصد تجارب الأكل والجوع لديها، واستحضار ذاكرة الارتباط العاطفي الذي يجمع الأفراد ببعض الأغذية، وصدمة المتعة التي يتعرضون لها بتذوق أغذية دخيلة على نظامهم الغذائي.

إن البعد الكوني للتغذية يجعلها مؤشرا قويا على الاختلاف الثقافي والتحول التاريخي، فكل المجتمعات تنتج وتوزع الأغذية، تحضرها بالطريقة التي تطبع خصائصها الثقافية، كم أنها توزع الأدوار المتعلقة بالتزود والتحضير بل والاستهلاك بشكل يعكس البنية الاجتماعية الداخلية.

إن المجتمعات تحضر  أيضا أغذية معينة للاحتفال بالمناسبات مهما كان المستوى الاجتماعي للأسر، من هنا نجد أن  الضرورة،  الذوق و التمايز الاجتماعي، كلها قيم تلتقي وتتداخل على المائدة، تملي ما يجب وما لا يجب تناوله، بل من يحضر الطعام ومن يقدمه، وهذا كله يتأكد بحكم كون الغذاء سلوك يومي.

لقد ربط المؤرخون تحولات العادات الغذائية بتحول العلاقات الاجتماعية والتحول التكنولوجي، كما حاولوا كشف الجوانب الإنسانية والفكرية للغذاء، غير أن الإجابة التي كانت تقدمها الدراسات الاقتصادية للتحولات المناخية من فيضانات وجفاف وما كان يليها من أمراض، ارتكزت دوما على الإصرار على نشر التقنيات القادرة على إنتاج وحفظ الأغذية.

غير أن تناول المؤرخين لموضوع الغذاء يبدو أنه  كان حلا نسبيا لمشكل التحقيب الذي يتطلبه عمل المؤرخ، فبالنسبة للمؤرخ  إن مواضيع من قبيل، التسويق، الوجبات السريعة، التحويل الجيني يمكن أن يستدل عليها كمواضيع تؤرخ  للحداثة.

لا شك أن هناك مجموعة من التحولات التي حكمها بحث الإنسان عن الغذاء والقوت، وتتجلى بالأساس في اكتشاف مواد غذائية وزيادة كمية ونوع الأغذية المستهلكة، الشيء الذي ساهم في ارتفاع الأمل في الحياة، وهنا سنجد أن التاريخ العام سيركز على مسائل من قبيل  التكنولوجيا و الضرورة الاقتصادية.

إن أهمية التغذية في التاريخ الإنساني لا تعود فقط إلى عوامل مادية، ذلك أن تناول الأفراد للطعام مجتمعين، تقاسمهم لأغذية معينة وتجنبهم لأخرى يعمل على تكريس إحساس الوحدة والانتماء لدى الجماعة.

لقد بدأ تاريخ الغذاء مع البيولوجيا وصعوبات المناخ، التربة، الملكية والعمل، غير أنه سينتهي إلى البنية الاجتماعية، التبادل الاقتصادي والتكنولوجيا من أجل الحلول في ما هو ثقافي، حيث رصد تاريخ الاختيارات الغذائية الفردية والجماعية التي لا يقوم التاريخ العام للغذاء بدحضها.

إن رصد تاريخ الغذاء قد يقودنا أيضا إلى معرفة العادات التي يعتبرها بعض المختصين جيدة، ولاشك أننا لا يمكن أن نتجاهل مساهمة  المؤرخ البولوني موريزيو في هذا المنحى:

يرى عالم النبات موريزيو أن الضرورة الغذائية والعادات الغذائية التي أسفر عنها البحث الحثيث عن الغذاء قد سيطرت على تاريخ الإنسان، بل وحددت الشكل الذي يأخذه التنظيم الاجتماعي في كل زمان ومكان، ذلك أن الفعل الغذائي يعتبر الفعل الأكثر بدائية من بين كل الأفعال البيولوجية وهو يؤثر، بالشكل الذي يتخذه عند اقتسام وتقاسم الأغذية، على القيم والسياسات.

يعلن موريزيو قلقه من اندثار العادات الغذائية النباتية في أوروبا الغربية، هذه العادات التي أصبحت منحصرة فقط في مادة القمح، ويرى أن ذلك يفسر إلى حد ما ارتفاع عدد الوفيات في أوروبا، في حين تعرف الساكنة الإرلندية والإنجليزية ارتفاعا في الولادات بحكم حفاظها على العادات الغذائية  البدائية النباتية.

سوف يعطينا هذا الكتاب فكرة هامة عن النباتات الغذائية المحروثة أو المقطوفة، كما يكشف لنا عن رحلة بعض النباتات الغذائية والقيم المضفاة عليها كما هو الحال بالنسبة للحبوب التي اكتشف في المشرق، و الحبوب المستعملة حاليا والتي  كانت تعتبر في القدم من الأغذية السيئة، كما يشير  إلى بعض الحبوب التي كانت  تعتبر جيدة آنذاك والتي تم الاستغناء عنها الآن.

لا يمكننا بأي حال أن ننكر  الفضائل المنهجية  التي نستمدها من التناول التاريخي للغذاء، فالتاريخ يحدثنا عن رحلة طويلة الأمد أو قصيرة الأمد لبعض الأغذية، ويكفي أن نعلم مثلا أن سكر الشمندر تطلب أكثر من مئة سنة ليتوطن في أوروبا، كما أن انتشار الذرة والبطاطس والبهارات لم يكن أسرع من ذلك، وهي أمور تدل، فيما تدل عليه، على بطء تحولات العادات الغذائية.   

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *