رمضانيات، مجتمع

نوابغ مغربية: الحضيكي.. أحد أركان النهضة العلمية التي أنجبتها سوس في القرن 18

تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية.

هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة “العمق” أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات رمضانية بعنوان “نوابغ مغربية”، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ.

الحلقة الثامنة: محمد بن أحمد الحُضْيكي .. طُلوع شمس النبوغ من المغرب

يعتبر أحد أركان النهضة العلمية التي أنجبتها سوس في القرن 18، فهو كان يُعد علامة وفقيها ومؤرخا نظزا لغزارة إنتاجاته وتأليفه، فمن أصولِ أسرة مُسلمة استقَــرَّت بمنطقة تَارْسْوَاط جنوب تافراوت بسوس؛ وُلِد محمد الـحُـضَيْكِي سنة 1706م، وتَرعْرع وسْطَ أسرةٍ معروفة بالورع والتديُّن والصلاح.

بُعِثَ بِهِ منذُ صِباه لتقِّي العِلم والتصوّف في زاوية الشيخ أحمد بن موسى في تازْرْوَالْت التي كانت مَنارةً علمية محتَرَمة في الأوساط الشعبية، وانتقل بَعدها إلى مِنطقة (أَقَّـا) للنّهل مِن مَعين علوم الشيخ أحمد الـكورِي الـمرابِطي الدّرعي، وعنه حِفظ القرآن الكريم.

وحين شبَّ، اشْـتـدَّ حُبّه للعلم وولعُهُ بالفقه؛ فَشَدَّ الرحال إلى (ماسَّة) ليُعَزِّز رصيده الفقهي والتربوي على يدِ شيخِ المنطقة آنذاك، السيد أحمد الصَّـوابي. ثم جَال مناطق سوسَ آخِذا العِلم مِن أفواه الرّجال، وقد مَكّنه تجوُّله المجالي هذا؛ مِن الإحاطة بطبيعة وتراث وتاريخ المنطقة، ومِن تنويع أوْعِية الأخذ ومصادِر التَّلقي الفِكري والمعرفي والفقهي.

وانتقَلَ بَعد ذلكَ إلى مراكش، عاصمة العلم والتصوّف، تَلاها بزيارة إلى فاس حيثُ أجازَهُ علماءُها الـمُبرَّزون أمثال أحمد بن عبد القادر ومحمد بن قاسم جسّوس وعمر بن عبد الله الفاسي ومحمد البناني وأبو مَدين الفاسي خطيب جامع القرويين المتوفى سنة 1768..، ثمَّ نَزل في سَلا، التي أجازَه فيها شيخُ شيوخها السيد أحمد بن عبد الله الدكالي الرباطي المتوفّى سنة 1765.

امتاز الحُضيكي بذاكرة قوية، فحفِظ عن ظهر قلبِ في أيام الطَّلبِ على مَشايخ سوس؛ الأجرومية، والألفية، والرسالة للشّافعي، والتوضيح لابن هشام، ومقامات الحريري، وتُـحفة ابن عاصِم..؛ الأمر الذي شَجَّـعَه على الاستمرار في التعلُّم وتدشين مرحلة الكتابة والتّدوين..، فأقفَل عائداً إلى قريته في منطقة “إيسي” بالجنوب الشرقي لتافراوت، ومنها كانَ إشعاعه.

في العام 1739 واتَــته فرصة زيارة المشرق، من بوابة الحجّ، فحَجَّ بيتَ الله، وعَرَّج على علماء الوقت طيلة الـمدّة التي قَطعتها رحلته الحجازية بَرّاً؛ ذهابا وجِـيئةً، وكان مُقامه في مصر، ومخالَطتُهُ علماء الأزهر الشريف مُدَّة سَنتين هي الأهمّ في مساره العـلمي، والمرحلة الثَّمينة التي جَوَّدَت ذِهنه وفكره وَوسَّعت مُـدْرَكاته الفهْمية والنَّظرية، وحبَّبت إليه الاختلاف والانفتاح.

عاصَرَ العَلَّامة الـحُضيكي شَطرا من عهد السلطان العلوي القوي مولاي إسماعيل، وعايش فترة الاضطراب والفوضى السياسية التي أعقَبت اختلاف أبناء المولى إسماعيل وتقاتُلهم على الـمُلك، فضلا عن اجتياح الأوبئة والطاعون للبلاد، وفتكها بالعباد؛ غير أنَّ الأحوال السياسية المضطرِبة والاجتماعية الـمتزعزعة لـم تقِف حائلا أمام البـحّاثة الـحُضيكي عن تحصيل العلم واستِكمال مشوار البناء المعرفي.

مَدَّ الله في عُمره؛ فعاصَر مرحلة حُكم السّلطان الـعالِم محمد بن عبد الله، وما شهِدته من استقرار وتوطيد للحكم واستِتباب للأمن والأمان في منطقة سوس، مسقط رأس الشيخ الـحُـضيْكِي، استثمر الرجل تلك الأجواء إيجاباً، فكان له نشاطٌ تعليمي فعّال في منطقة (إيسّي)، وإنهاضٌ علمي وتربوي بالزاوية الناصرية وطريقتها، التي عاش ومات منتمِياً إليها، وإشاعةٌ لـمُناخٍ دينيٍّ ذا مسحةٍ صوفية كان له أكبر الأثر في تخريج عشرات الـمتـمدرسين والحفّاظ الـنُّـجَباء.

ورغم تفوّقه ونَجابته وقيامه بمهام التدريس وتخريج الـنُّخَب؛ إلّا أنه كانَ دائم الانْـتِـهَال مِن علم العلماء الـمعاصِرين له، فنراهُ مُلازماً لشيخه أحمد بن محمد الـعبّاسي مدّة أربع سنوات، تَلقّى عنه فيها كُتب “الجامع الصحيح”، و”الـتُّحفة”، و”عُـمدة الـموثِّق”، و”ألفية الـعراقي”. وقد ذَكر المؤرِّخ ابن محمد السّملالي في الجزء الرابع مِن مُصَنَّــفِـهِ “الإعلام بِـمَن حلَّ بمراكش وأغمات مِن الأعلام” أنَّ الحضيكي تَلَقَّى العلم عن كثير مِن الشيوخ، وأجازه 18 شيخا من كبار علماء سوس.

وخَصَّه العلّامة الـمختار السوسي بترجمة وافية وإضاءات جديدة عن شخصه في الجزء الحادي عشر من مَوسوعته “المعسول”، وفي كتابه “رجالات العلم العربي” كذلك. فيما عدَّد لنا الباحث أحمد بومزكُو مِن شيوخِ وأساتذة الـعلّاَمة الحُضيكي الذينَ أخَذ عنهم مُباشَرة أو إجازةً؛ أربعين شيخاً عالِما، مِن المشرق والـمغرب. مما أثرى تجربة العلَّامة الـحضيكي، وأناله اعترافاً بالتفوق والـعِلمية من لَدن تلامذته وساكنة سوس.

كانت للرَّجُل عناية خاصة بـجمْع الكتب، ونَسْخِ الفريدِ منها، والتعليق على مُعظَم ما يَقرأ منها، ووضْع تلك التعليقات والحواشي في تَقاييد جديدة تصيرُ مع الوقت “مُؤلَّفات” للشيخ. وقد خَصَّص الراحل المختار السّوسي في مُصنَّفِه الماتع “سوس العالِمة” حيِّزاً للتعريف بالمكتبة الضّخمة للحضيكي ودورها في إثراء العلوم بسوس.

وأَكَّدَ الباحثون على أنَّه لا تكاد تخلو خزانة سوسية مِن نُسخة عن كتاب “طَبقات الـحُـضَيكي”، ناهيك عن كُتبه الأخرى. كما اختصَّ بالافتاء في بني قومه، لـمكانته العلمية والاجتماعية فيهم، وأثَّر تأثيراً مبارَكاً في مسار الحركة العلمية بسوس العالمة.

عَمِل في مدرسته مُعلِّما للفقه والحديث والتفسير والمنطق وعلم التصوّف وتلقين الأوراد للتلاميذ الـمنضمين لحلقاته، من أبناء سوس ومِن خارِجِها. وصفه تلميذه محمد بن عبد السلام الناصري المتوفى سنة 1824 بــ”الفقيه النّـبيه العالِم .. فريد زمانه، وحامل لواء السُّنة في أوانِه”.

ونَعَتَه الحسن البونعماني بأنّه “أحد أركان النهضة العلمية التي أنجبت كثيرا من العلماء في القرن الثاني عشر الهجري، الثامن عشر الميلادي”، وقال فيه تلميذه محمد التّـسْكْـدلْـتِــي (..الشيخ الإمام الذي بِـه أنارت بلاد سوس بالسَّهْلِ والنَّجْدِ). ومَدَحه سَعيد الشلح بأبيات، منها قوله مُعدِّداً مَواهِبَ الشيخ الـعلمية:

وبَرِعْتَ في علم الشريعة مِثلمـــــــا أصبحتَ في علم الحقيقةِ بارعُ

فإذا وَعَظْتَ فأنتَ حُجَّةُ وَقتِنــــــا بُرهانُ سِرِّكِ للأباطِلِ قــــــاطِـــــــــــــــعُ
وإذا سُئِلتَ فأنتَ مالكُ عَصرنا ومَتى تُحدِّثُ بالحديث فَـنافِـــــــــــــــــعُ
يا أيها الـحَبْرُ الذي بعلومـــــــــــهِ في رَوضةِ الـعِرفانِ راعٍ وراتـــــــــــــــــعُ

لقد خَرَّجت مدرسة الإمام الـحُضيكي ما يناهز 97 مِن التلاميذ الـنبغاء، بَين عالِـمٍ وفقيهٍ نَوازِلِـيٍّ ومتصوّف سالكٍ ولُغوي نِحْـرير ومؤرِّخ غَزيرٍ ومدرِّس وأديب. تَوَزَّعُواْ على أقطار المغرب، ومنهم مَن غادر إلى الـمشرق، وكثيرٌ منهم فَقَدوا حياتهم بسبب وباء 1799 وتأثَّرت برحيلهم الـحياة العلمية والأنشطة الدعوية والـمجتمعية في البلاد.

غزارةُ علِم الرجل وتربيته الصوفية وصلاحه، ما كان لِـيَـظَلَّ دُونَ الإسهام بنصيبٍ وافِر في الإنتاج العلمي والتأليف، بحيث خلَّف عَشرات المصنّفات النّفيسة؛ فَـفِي مجال العلوم النحوية له كتاب قيم، وفي العلوم الدِّينية له (21) كتابا، وفي مجال التراجم له (4) كُتب؛ أشهرُها (الطَّبقات أو المناقِب الـحُـضَيْكِية) وفيه ترجمة لــ823 شخصية مغربية علمية وصوفية وأخرى ذات تأثير كبير في عصرِها، وذلكَ منذ القرن الخامس الهجري وإلى غاية القرن الثاني عشر الهجري، من المغرب والأندلس ومصر وليبيا والسودان والحجاز والجزائر..، اعتباراً من علاقته ببعضهم، ومعاصرةَ بعضهم له، وسماعه عن آخرين، وهو عمل تأريخي وفكري جبّار ولا يقْدِر على إنجازه إلّا النبغاء الكبار.

وقد وقَفنا على نُسخته الإلكترونية وقرأنا منه ما تيسَّر. وفي مجال الآداب خلَّفَ كِـتَابَيْـن، وأربعة كُتبٍ في ميادين متنوِّعة، منها تحقيقه لمخطوط في الطبّ، واختِصاره لمخطوط “القانون” لأبي علي الـيوسي رحمه الله.

ومِن أبرزِ أدواره الإصلاحية والاجتماعية في الجنوب:

• تصدّيهِ للبدع والجهل والانحرافات الأخلاقية والـسلوكية
• إصلاحهِ لِذاتِ البَـيْنِ بين الـمتخاصِمين من القبائل، والسعي الدائم لإحلال السلام
• حَــثّه لمريديه وتلامذته على حَفْر الآبار ومَدِّ الأراضي بالمياه وتقديم الخدمات الاجتماعية للناس
• فضْلاً عن استعمالهِ نفوذَه الروحي والتربوي في دعم مساعي السلطة للاستقرار واستتباب الأمن في المنطقة.

وبعدَ حياةٍ مِعطاءةٍ مُستقيمةٍ، انتقل العلّامة محمد بن أحمد الـحُـضَـيْكِي إلى رحمة الله يوم السبت 15 شتنبر 1775. وكان مما نعاه به تلامذته الـخُلَّص، قول أحدهم:

لِـتَـبْكيهِ سوس الأدنى والأقصى بَعْدَها * وما فيها مِن عَـجماء والحجَر الصَّـــــلْدِ
فكَم سُنَّةٍ أحْــــــــياها بَعْد إمـاتـةٍ * وكَم ضَلالٍ أَطْفى بَعْدَ توقُــدِ

فإلى الله في الـخالِـــدين.

مصادر ومراجع:

* (الحضيكي) محمد بن أحمد: “طبقات الـحُضيكي“، تحقيق الباحث أحمد بومزكو، مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2006.
(الجشْتِيمي) عبد الرحمن: “الـحُـضَيْكِيّون”، تقديم وتحقيق المجلس العلمي المحلي لإقليم تارودانت، مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2010، نسخة إلكترونية.
* (السملالي) العباس بن إبراهيم: “الإعلام بمن حَلَّ مراكش وأغمات من الأعلام”، مراجعة وتدقيق المؤرخ عبد الوهاب بن منصور، المطبعة الملكية –الرباط، الطبعة الثانية 1993.
* (السوسي) محمد المختار: “سوس العالمة”، مطبعة فضالة –المحمدية، الطبعة الأولى 1960.
* (السوسي) محمد المختار: “المعسول في الإلغيين وتلامذتهم وأصدقائهم”، الجزء 11، مطبعة النجاح – الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1963.

الحلقة التاسعة من إعداد: عـدنان بـن صـالح/ باحث بسلك الدكتوراه، مختبر “شمال المغرب وعلاقاته بحضارات الحوض المتوسِّطي”، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي – تطوان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *