وجهة نظر

عربدة سياسية في خدمة مؤامرة

لا يمكن فصل الجدل السياسي المشبوه الذي نعيش على وقعه اليوم، خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي، حول حكومة ائتلاف وطني أو حكومة وحدة وطنية، عن جدل مشابه عشناه أيضا قبل سنة في مواقع التواصل الاجتماعي بالخصوص. لأننا أمام نفس الفاعلين وبنفس الشعارات وبنفس الأجندات الداخلية والخارجية، يعملون على قتل الوطن من خلال تحالف موضوعي مدمر.

كتبنا حينها عن الفاعلين الداخليين مقالا بتاريخ 21 فبراير 2019 تحت عنوان “جبهة الكذابين”، تحدثنا فيه عن “تحالف” فاعلين إعلاميين وسياسيين ونشطاء مواقع اجتماعية و”باحثين” حول أكبر عملية صناعة الكذب والترويج له في تاريخ المغرب المعاصر، للتلاعب بالرأي العام من خلال تبخيس العمل الحزبي والعمل الحكومي تمهيدا للتمكين لبديل غير ديموقراطي تقوده السلطوية. وكانت إحدى أهم خلاصات ذلك المقال: “أننا اليوم أمام عملية قتل الوطن بلغة الغيرة عليه”.

وبتاريخ 8 مارس 2019 كتبنا عن فاعلين خارجيين مقالا تحت عنوان (ما حقيقة “الذباب الإماراتي” بالمغرب؟ وما موقف “جبهة الكذابين”؟ ) تحدثنا فيه عن وجود “مشاريع” أجنبية تعمل من خلال نشاط “الذباب الالكتروني” في مواقع التواصل الاجتماعي على تحقيق أجندتها في منع عودة حزب المصباح إلى تصدر أية نتائج انتخابية بأي ثمن، تقودها دولة الإمارات العربية. وهذه المؤامرة الإمارتية تعززت بما كشفت عنه الجريدة الإلكترونية “كود” (https://www.goud.ma) في الفترة ما بين 22 و 27 فبراير 2019، التي كان لها الفضل في رفع الستار عن محاولة تجنيد مدراء نشر 6 مؤسسات إعلامية مغربية لقيادة حرب إعلامية ضد حزب العدالة والتنمية لعزله ومحاصرته. طالبنا حينها بفتح تحقيق قضائي حول شبهة وجود مؤامرة خطيرة للتدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للبلاد سكتت عنها “جبهة الكذابين”!

واليوم، وفي ضل أزمة الطوارئ الصحية بسبب جائحة كورونا المستجد، عشنا جميعا عودة الهجوم الشرس للذباب الالكتروني للتحالف السعودي الاماراتي الذي حاول استغلال ظرفية الأزمة، وما تفرضه من ضغط نفسي واجتماعي واقتصادي، لمحاولة زعزعة  الاستقرار المغربي من خلال ضرب أمنه الاعلامي، ومحاولة الاجهاز على الحكومة وأحزابها، وخاصة حزب العدالة والتنمية. وعشنا أيضا عودة “جبهة الكذابين” للضرب تحت الحزام، والحديث دون أي مبرر عن حكومة ائتلافية أو حكومة وحدة وطنية وكأننا نعيش أزمة سياسية على شاكلة ما صنعه التدخل الأجنبي في دولة تونس الشقيقة، والتي تعيش اليوم على إيقاع نفس الجدل! ولم تعتبر “جبهة الكذابين” بالفشل الدريع لدعوتها إلى “حكومة إنقاذ وطنية” لمواجهة مخاطر جائحة كورونا، حين استغلت خوف وقلق الرأي العام في بداية الأزمة لدس السموم السياسية، وأبانت فعالية الأداء الحكومي أن تلك الدعوات مجرد عربدة سياسية.

إن الحديث عن حكومة ائتلافية أو حكومة وحدة وطنية يخفي جبنا سياسيا خطيرا، وذلك الطرح لا يعني في نهاية المطاف سوى وضع نقطة نهاية للسير في طريق الخيار الديموقراطي الذي ناضل الشعب المغربي من أجل التمكين له، واعتبره الدستور في فصله الأول أحد “التوابث الجامعة” الأربع التي تستند عليها الأمة المغربية في حياتها العامة، إلى جانب “الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية”.  كما لا يعني سوى أن رهان “جبهة الكذابين” على الديموقراطية قد انتهى، وأنها تفضل التوافق مع السلطوية لترتيب تداول على السلطة بعيدا عن صناديق الاقتراع أو إفسادا لها، ولتضليل الرأي العام فهي تتخفى خلف  لافتات الحديث عن “المشروع التنموي الجديد”! وتحاجج بحصيلة كذبها وتبخيسها للعمل الحكومي وتيئيسها من العمل الحزبي.

الذي تجهله “جبهة الكذابين” وتتجاهله المؤامرة الخليجية، هو أن المغرب أخد الدرس و العبرة من تجربته وتجربة غيره من حكم السلطوية باستبعاد الديموقراطية. وأخطر درس وأقوى عبرة هي ما يتعلق باستقلال قراره السياسي. وأيقن أن الدولة، أية دولة، لا يمكنها أن تعيش باستقلالية حقيقية إلا بقدر ما تكون ديموقراطية. وأن تحول دولة مصر، على سبيل المثال، من قوة قادت “العالم العربي” لعقود إلى لعبة بأيدي التحالف السلطوي الإماراتي والسعودي الاسرائيلي، لصنع خريطة نفود جيوسياسي يقودها نحو الهاوية، نموذج للدولة التي تؤدي ثمن قتل الأحزاب والحجر على الديموقراطية بفقدان استقلالية قرارها السياسي. وأن المخاض السلطوي القائم في تونس، والذي نفخت فيه “القابلة” الخليجية من “روحها” وتترقب مولوده، قد “بهدل” المؤسسة التشريعية فيها، وزرع الفتنة بين أحزابها، وأضعف حكومتها المنتخبة، وأعد لديموقراطيتها الملهمة قبرا يواريها، ضربا لأي أمل للشعوب، الخليجية منها بالخصوص، في أن تعيش بديموقراطية وتحت حكمها.

إن الخلفية الحقيقة للجدل الذي تقوده “جبهة الكذابين” اليوم في المغرب لا يتعلق بالموقف من الحكومة وبرامجها وفعاليتها، بل بالموقف من الخيار الديموقراطي ومدى الاستعداد للتضحية من أجل استدامته وتجويده والتمكين له وتقويته. وإن ركوب “صهوة الكذب” والتبخيس المرضي للعمل الحكومي، والتشويه الممنهج للعمل الحزبي تيئيسا منه، وما يستتبعه كل ذلك من تبخيس العمليات الانتخابية والمؤسسات الناتجة عنها، لا يعني فقط تعبيد الطريق لـ”الخيار السلطوي”، بل يعني موضوعيا التمهيد لتقديم المغرب في طابق من ذل وخذلان للتحالف الاماراتي السعودي الاسرائيلي، يدشن به “الفتوحات الاستسلامية”.

إن المؤامرة الخليجية ضد المغرب قائمة، وإن العربدة السياسية لـ “جبهة الكذابين” مفضوحة، وبقي فقط أن نسأل، في غياب أي مبرر لمواقفها وتوجهاتها، هل تعي فعاليات جبهة الكذابين، الذين لا نشك في وطنيتهم، أنهم موضوعيا، خدام تلك المؤامرة؟

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *