وجهة نظر

مقياس التدين

إذا جاز لنا طرح تساؤل كبير كهذا: ما هو مقياس التدين؟ أو ما المرجع الذي يمكن الاحتكام إليه في قياس درجة تدين شعب من الشعوب؟

ربما كانت الشعائر الظاهرية واحدة من أكثر المعايير سهولة في هذا الشأن، بيد أن هذه المظاهر تحكمها العادة والإلف والتنشئة حتى إنها لتصير نوعا من “الفولكلور” في كثير من الأحايين.

ولذلك نجد في القرآن حرصا شديدا على التذكير بروح الأعمال ولب الأمور؛ فليس البر مثلا أن يقوم المرء بحركات ظاهرية خاوية من كل معنى نبيل، ومتجردة من كل مقصد شريف، وإنما البر قيم جميلة وأخلاق رفيعة ومعاملات حسنة.

﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ ]البقرة:177 [.

وعندما يخطئ أحد مثلا في حق الدين؛ فينتقص من شأن الشعائر أو يحتقر “مقدسا من المقدسات الدينية”-على الرغم من غرابة هذه العبارة في السياق الإسلامي- ما التصرف المناسب في هذه الحالة، كما يقرره الدين نفسه؟

هل نلجأ إلى نفس لغة السباب، والسباب المضاد؟

هل تعتبر “النرفزة” والشتم واللعن هي المحددات الرئيسة لتدين الأفراد والجماعات؟ أم أن الدين يطلب من أتباعه أن يكونوا في منزلة أعلى من هذه؟

الواضح أن الغضب وما يلحق به من أنواع السلوك إنما هو تعبير عن حالة نفسية دنيا، جاء الدين ليرفع الناس عنها، أو يزكيهم كما هو التعبير القرآني؛ ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ ] آل عمران: 164[.

ومن ثم فقد كان العفو، والتسامح، والرحمة هي القيم العليا، والمبادئ السامية التي ينبغي أن تقترن بالدين، لا الغضب والعصبية، وما يستتبعهما من ألوان السلوك، وصنوف الأعمال.

وكان الواجب على أرباب الخطاب الديني تنشئة أتباعهم ومريديهم على هذه الأخلاق الكريمة والفضائل الجليلة، التي تعبر عن مجاهدة للنفس، وتشبع بروحانية الدين، أما اللعن والسب والشتم، فإنها أعمال لا تحتاج إلى تعليم، ولا تربية؛ إن المرء يُعبر بها بشكل تلقائي عندما يشعر أن كرامته تُهان و مكانته تُنتقص.

وحري بهؤلاء الذين انتدبوا أنفسهم لتثقيف الشعوب الثقافة الدينية أن يُبينوا لطلابهم الفرق بين ردةِ فعلٍ تُعبر عن سلوك “حيواني” مرتبط بالرغبة في الدفاع عن النفس، أو الثأر، أو الانتقام، وبين عملٍ ديني مبني على عمق فكر، وسمو نفس، ورفعة خُلق.

إن الدين مؤسسة للتنمية الروحية والمادية؛ ترفع الناس عن الانشغال بسفاسف الأمور، وتربيهم على تغافل الأخطاء الجزئية، وتوجه أنظارهم نحو تحقيق المقاصد الكبرى التي جاء من أجلها الدين، ألا وهي تحقيق السعادة للناس في الدنيا، كي يستحقوا أن ينالوا المثوبة والجزاء الحسن في الأخرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *