وجهة نظر

قراءة دستورية في الحريات الفردية.. العلاقات الجنسية الرضائية نموذجا

عرف المجتمع المغربي في الآونة الأخيرة تطورا مهما على مستوى طرح قضايا الحقوق والحريات الفردية، وتعزز هذا التطور بالنقاش الحاد الذي عرفه حول مراجعة مجموعة القانون الجنائي، خصوصا بعدما تقدم أحد النواب البرلمانيين بمقترح قانون يهدف إلى رفع تجريم الإفطار العلني في رمضان والعلاقات الجنسية الرضائية التي تتم خارج إطار الزواج.

وإذا أردنا أن نعالج هذا الموضوع وفق مقاربة دستورية سيكون الأمر مخجلا للجميع، رغم أن دستور 2011 يشكل قفزة نوعية في تاريخ الحريات والحقوق، عندما خصص بابا منفردا لها، من الفصل التاسع عشر إلى الفصل أربعين من دستور المملكة المغربية لسنة 2011. وحين أكد أيضا صراحة على مكانة الاختيار الديمقراطي وأهمية المرجعية الحقوقية ضمن الهندسة الدستورية للمغرب، وذلك في إطار استكمال الإصلاحات السياسية وإقامة دولة الحق والقانون، في نطاق التكامل بين مقومات الديمقراطية التشاركية والديمقراطية التمثيلية.

ولفهم وضعية المشرع الحرجة لابد أن نستدعي المرجعيات التي يستند إليها. فمن جهة، يتخذ المغرب الإسلام دينا للدولة (الفصل الثالث من دستور المملكة المغربية)، والملك هو حامي حمى الملة والدين، كما أن الهوية المغربية تتميز بتبوء هذا الدين مكانة الصدارة، ويعد من الثوابت التي تستند عليها الأمة والمجلس العلمي الأعلى في إصدار الفتاوى المعتمدة رسميا، ومراجعة الدستور لا يمكن أن تتناول الأحكام المخدشة بالدين الإسلامي، فهو ثابت غير قابل للتغيير ولا للتجديد أو التحريف.

وفي هذا الإطار يعتبر الدين الإسلامي كل علاقة رضائية خارج مؤسسة الزواج زنا، والزنا من الكبائر المحرمة قطعا لقوله تعالى: ولاتقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا. وقد كان الجلد مئة جلدة عقاب الزاني والزانية الأعزبين، في حين إذا كانا متزوجين أو قد تزوجا مرة في العمر، فإنهما يرجمان بالحجارة حتى الموت.

ومن جهة أخرى، فقد انخرط المغرب في المنظومة الكونية لحقوق الإنسان، وصادق على انضمامه للعديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، إيمانا منه بأن هذه المواثيق تعد كسبا ديمقراطيا له ولغيره من البلدان التي تنشد تحقيق ديمقراطية فعلية. ولنفاذ هذه القواعد الدولية في مجال حقوق الإنسان على المستوى المحلي يفرض بالتبعية إدراج مضامينها ضمن التشريعات المحلية، عن طريق منحها مكانة سامية مقارنة مع التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات مع الاتفاقيات الدولية، وهذا من شأنه أن يعطي لهذه الضمانات معنى آخر. فالدستور الوطني بالنظر إلى المكانة التي تشغلها الحريات العامة، يشكل مرجعية الالتزامات الدولة في مجال حماية الحريات والحقوق، ويدفع بالدولة أيضا إلى ملاءمة تشريعاتها الوطنية مع المواثيق والاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الإنسان، حتى تتفاعل أكثر مع المكانة التي يستحقها المواطن داخل المجتمع الذي يعيش فيه.

إن التزام المغرب دستوريا بمبدأ سمو المواثيق الدولية، لا يعني إحداث قطيعة مع خصوصيات الحكم بالمغرب وثوابته، فإذا ما حصل أي تعارض بين نص دولي متعلق بحقوق الإنسان وإحدى الثوابت الأساسية للنظام السياسي المغربي، فإن المغرب يكون له كامل الحق في إعلان تحفظه عن المصادقة. وبالتالي، يكون المشرع المغربي قد تعامل بذكاء مع إشكالية السمو هذه، حين ربطه بشرط عدم مخالفة الثوابت الأساسية للنظام السياسي، وهو ما من شأنه أن يفتح باب التأويل دائما، ويصبح هذا التأويل ممكنا أكثر لصعوبة تحديد المقصود بالشريعة الإسلامية. فمسألة التنصل من الالتزامات الدولية لم تعد مقبولة بذريعة مبدأ السيادة، أو بإشهار ورقة المرجعية الثقافية والدينية، وهو ما أكدته اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات، حين أعتبرت أنه لا يجوز لدولة ما الاستناد إلى تشريعاتها الداخلية لتتنصل أو تحل من التزاماتها الدولية المفروضة عليها بموجب المعاهدة.

وعلى هذا الأساس ظهر تياران: الأول محافظ يتشبث بعدم المساس بمرجعية الدولة الإسلامية، والتي تفرض عليه الإبقاء على تجريم العلاقات الجنسية الرضائية الخارجة عن إطار الزواج، وتيار آخر حداتي يندد بتطوير التشريع، مواكبة لمتطلبات المجتمع المغربي المعاصر، ورفع تجريم هذا النوع من العلاقات.

وإذا أردنا أن نتعمق أكثر في البحث ونساءل القانون الجنائي المغربي، فنجده ينص من خلال الفصل 490 على أن – كل علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تربط بينهما علاقة الزوجية، تكون جريمة فساد – ما يعني أن كل علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا يربطهما عقد زواج هي جريمة يعاقب عليها القانون، ولو كانت بين راشدين وبشكل رضائي. ولقيام هذه الجريمة من الناحية القانونيةـ تقتضي مواقعة الرجل للمرأة، أي حصول وقيام اتصال جنسي عمدي توفر خلاله القصد الجنائي للقيام بالمعاشرة الجنسية، مع علم الطرفين بانعدام الرابطة الزوجية بينهما. إلى جانب حصول الإثبات القانوني لتكون الجريمة قائمة، والذي لخصت وسائله في ما يلي:

– محضر ضابط الشرطة القضائية المحرر في حالة التلبس، ويبقى للمحكمة السلطة أو الصلاحية في اعتبارها تمثل حالة تلبس أو لا، وبالتالي ثبوت جريمة الفساد في حق المتهم أو تبرئته؛

– الاعتراف المضمن في مكاتيب أو أوراق صادرة عن المتهم، ويخضع الاعتراف المكتوب كذلك في قيمته الإثباتية للسلطة التقديرية للمحكمة؛

– الاعتراف القضائي، وهو إقرار المتهم على نفسه بارتكاب الجريمة المنسوبة إليه، وهو سيد الأدلة، ويجب أن يصدر عن المتهم في جلسة عمومية بشكل صريح.

إن الحريات الفردية في صورتها الحديثة هي في أمس الحاجة لحماية أكثر تماشيا والتحولات المجتمعية، فقد أصبح تجريم العلاقات الرضائية من التشريعات المنتمية للماضي التي لا تتوافق ولا تواكب تطورات اليوم، والتي تعتبر حكما قاسيا لاذعا للحريات الفردية، مادام الطرفان لم يخدشا حرية الغير. فالعلاقات الرضائية بالمغرب تواجه تناقضا يتأرجح بين واقع يفرضها بحدة، وتشريع يجرمها ويعاقب كل من يقدم عليها. وهذا ما يجعلني أجدد الدعوة إلى رفع هذا التجريم، والذي يشكل انتهاكا للحريات الفردية ومساسا للاختيارات والقناعات المختلفة، فحتى وإن أخذ الموضوع من منظور ديني، والذي يعتبره القرآن ” زنا “، لا تثبت ولا تقام إلى بشهادة أربعة رجال، ويكون الفعل رأي عين، وهو شيء تحقيقه شبه مستحيل، إلا إذا كان الفعل الممارس أمام الملأ، والذي يصبح في هذه الحالة نوعا من الإداء المعنوي بالغير، وخدش وإخلال علني بالحياء، معاقب فاعله. فاحترام مشاعر المجتمع ومرجعيته الدينية هو أمر ضروري، لكن في المقابل لا يمكن أن يمتد إلى درجة تضييق الخناق على حريات الفرد وتقييدها، فليس هناك ما يفسر شرعية الدولة في اقتحام مكان مغلق يمارس فيه الفرد حريته بعيدا عن أنظار المجتمع، بقدر ما يعتبر تقييد وخناق ومساس بحريات الأفراد. فحتى إن كان الفعل محرما قطعا، فإنه يرجع لعلاقة العبد بربه، فالإيمان ليس فرضا، لذلك فالتقيد بتعاليمه لا يمكن أن تكون فرضا وبقوة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *