وجهة نظر

العودة إلى “الثقافة” أو “المدافعة الثقافية”

لطالما ظلت الثقافة معملا لإنتاج و توزيع القيم و استلهامها، و لطالما كان دور المثقف “الدفاع اللارسمي” عن قضايا المجتمع و تيماته و بنياته و تمثلاته، سواء كان ذلك بالفعل الإيجابي، أو بالفعل السلبي .. و لطالما كانت سيرورة البناء الثقافي تتخذ من هواجس الناس و اختياراتهم عناوين لهندسة مختلف المشاريع الفكرية و الأدبية و الفنية على مر العصور … و لطالما كانت تلك الشواهد و المؤسسات محركا للتفاعل مع مختلف الظروف التي تثور في المجتمتع و تتحكم في سيره المنتظم في حركة الزمن و حركة التاريخ …

لكن الثقافة ليست “جزءا” من هذه المقاصد كلها و لا ركيزة لتثمين تفاعلاتها و امتزاجها فحسب، بل نتاج تقاربات سيوسيولوجية و أنثربولوجية تجعل منها حافزا أمام إعلان مبادئ و “قيم كونية”، باستثمارها لمختلف أشكال التدخل و التأثير، و لعل أهم ما تحييه الثقافة في شموليتها، تلك القيم الصلبة الشائعة، من قبيل الديمقراطية و الكرامة و العدل و الإنصاف …

و المعلوم أن هذه القيم “الأممية” ليست تدبيرا خالصا لأي ثقافة، إنما معرفة تنشأ عن تركيب مجموعة من العناوين و الأفكار العلمية المؤسسة لنظم معينة، تتداخل فيها “البنية المعلوماتية” بالبنية “التربوية” و على ذلك الأساس تتشكل وحدة الثقافة كمعرفة خالصة بوحدة القيم كتجسيد لها

إننا نلمح أن الثقافة تتصف بانسيابية قيمها، فهي تؤول إلى محاولة تدبيج “صيغ و لوغاريتميات” “خطابية – فكرية” تعنى بهموم المجتمع، لكنها لا تسنده إلى نهاية مضمونها، و هي وظيفة تحتاج تكميلا؛ و يرتهن بهذا التكميل مستوى الفعل الناتج عن الفاعل الثقافي، الذي يقدر أن يصول هذه الثقافة و يحنطها كما الحِنطة، و يسمح بالعودة إلى الثقافة للإحالة عليها، لا العودة إليها كزينة فكرية أو نمط من أنماط التحديث، و معنى ذلك بكل بساطة، أن يستفرغ المثقف جهده الوظيفي و المعنوي في الانكباب على مختلف المعارف التي تثيحها له ثقافة معينة من أجل استخلاص “قواعد التفاعل” مع متغيرات المجتمع، و استنباط القيم المتحكمة في هذه الثقافة، قصد تنزيلها على الواقع و إيقاعها عليه “دون عجز و دون خجل”، إذاك، من الممكن أن “يؤوب ثقافيا” و أن لا يقتصر فعله على مجرد الاحتفالية الرمزية أو الدلالية بتلك الثقافة، بل أن تكون محور كل أعماله و انشغالاته ..

و لعل “العودة إلى الثقافة” و استثمار جهد المثقف في الدفاع الصريح عن القيم المجتمعية لازم اللحظة بغِلظة أو “بتطرف”، عبر استخدام أنماط فكرية و إبداعية .. كما لابد من إعادة الاعتبار للحس الإنساني المشترك الذي تداعت عوامل عديدة على إنهاكه، و تقزيم مقصديته و التقليل من فاعليته في محاولة لتشكيل “بؤر مقاومة” فعالة لديكتاتورية المادة و الصور المنمطة و الانهماك المهووس بقضايا الأمن و الهوية .. في مقابل ارتفاع الاهمتمام الاستراتيجي بقضايا استدراك الآمال و الأحلام العريضة في رؤية العالم ينخرط في المثاقفة الفعلية حول قيم العدالة و الحرية و الكرامة …

و نظرا لكون “مآزق الزمن الآني” لم تسبقها تهيئة ثقافية عميقة و واسعة تتوج بإنجاب المواطن الواعي و المدافع و المؤهل لبناء المجتمع الجديد، و نظرا للأيدي الكثيرة التي تعهدت هذه الولادة القيصرية المؤلمة و تقاسمت الوليد بعدها محدثة دمارا رهيبا في كل شيئ، فإن القادم الثقافي أسوأ ما لم “تُستنهض هذه الهمم”، و ذلك ليس تعبيرا عن تشاؤم يائس، و إنما حكم يقظ يرى أن العودة الى الثقافة بهذه الشروط، هي في المقام الأول دعوة “للتحرر” من الثقافة الاستعراضية أو الثراتية إلى “الثقافة المدافعة”

فتلك “الثقافة المدافعة” هي التي من الممكن لها أن تشكل صمام أمان أمام عوادي “الخرق”، و تمكن من الاتجاه نحو “التوبة النصوح” التي لن تسمح “للمثقف الصريح” بالسكوت أو “الانزواء نحو الظل”، و تثيح له بإمكانيات متوفرة، سبل النهوض بأفكاره نحو “الممانعة و المرافعة”، و نحو التأسيس و المقارعة بالحجة الثقافية الدامغية، ليزيح ما يمكن إزاحته، و يبقي ما لا تشوبه شائبة، و يعود لحركيته التي أسكتتها متغيرات “الانفعال المجتمعي” …

* باحث في الأنساق و القيم المعاصرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *