منتدى العمق

قصص في زمن كورونا: دمعتان على الطريق

دمعتان على الطريق

السادسة والنصف مساء، رأيتها وقد كانت في ناظري أيقونة تكتنز في صدرها وخزا ألميا كبيرا. مظهرها صورة رسمتها بريشة المشفق، فقد كانت تسند ركبتيها لوجنتيها الناعمتين وبذراعيها تعانقهما وعيناها تسيل دموعا. على أحد الكراسي بإحدى الحدائق العمومية كنت جالسا أراقبها ولم تكن لي جرأة – تعدم خجلي-للاقتراب منها. وامتهان لغة السؤال عن حالها ومعرفة ما بها.

فجأة تنساب قطة بيضاء؛ بمواء رقيق من تحت قدميها فالتوت التواء غزليا بطرف المقعد. بدأت أرقب حركات القطة فإذا بها تفاجئ مشاهدتي لها بقفزة لأحضان الفتاة فأرغمتها على أن تفلت كفيها عن ركبتيها فحضنتها بقوة وبشغف. وبدأت تمرر يديها على جسمها الناعم. وأنا أتأمل حالة الفتاة المأساوية. على كتفي حطت أصابع كف أوجست منها خيفة لفجائية الحركة. وأنا أدير وجهي صوب الشخص فإذا بي أمامي وجه مشرق جميل كان لفتاة طبق لتلك التي كانت توا أمام ناظري أراقبها.

فاندهشت للأمر؛ فكأنه طيف الفتاة أمامي جاء يعاتبني على ملاحقتي إياها. فلم يكن بمقدوري التلفظ ولو بكلمة أرد بها تحيتها. نظرا للشبه الكبير الذي كان يكسو الوجهين. أرغمني الذهول على امتهان الصمت لبرهة، حتى أسقطت تجبر صمتي بكلمة رقيقة من فيهها تقول سائلة:

– أَوَحيَّرك أمرها؟ وربما تسأل عن سبب حزنها وبؤسها؟
في ارتجافة بصرية أجبت:

– نعم
وبالسؤال عن هويتها افتتحت كلامي فقالت:
– أنا شقيقتها التوأم.
– (فأضافت شارحة): قبل أشهر وبالضبط منتصف الشهر الأول من أشهر الحجر الصحي الذي فرضته بلادنا فقدنا والدتنا إثر ثبوت إصابتها بفيروس “كوفيد 19” المشؤوم والقاتل.

كان الخبر صفعة شعورية أخرى صفعت به صدري وقلبي؛ فالفتاة يتيمة متأثرة بوفاة والدتها بسبب وباء لا يد لها في ولادته في عالم كانت تراه جنة تخلد بها.

فاستيقظت من غمرة التفكير تلك، وعاودت سؤلها فقلت:
ووالدك؟ وباقي العائلة؟ ولما ظلت هنا وحيدة؟

أجابتني وبريقٌ دمْعِيٌّ رقراق على وشك أن ينهمر من عينيها:

والدي اتخذ قرار الانفصال عن والدتنا منذ سنة مضت، وشقيقنا الوحيد الذي كان يكبر كلتينا فقدناه وما عاد يسأل عنا، وما أظنه يعلم بحالنا ولا أين نحن واين كنا. مذ رحلته البحرية السرية لبلدان المهجر وما سمعنا عنه خبر.

فأدركت حينها سبب الموقف النفسي الذي كان يكسو الفتاة وهي في تلك الحالة. فقد كانت فراشة وسط كومة شوك من المشاكل العائلية؛ فقدت حضن الحنان (أمها) بلعنة قيل منشؤها حيصبيص بين قارة “كرستوف كلومبوس” وبين “أرض دقيقي الأعين، الصين.” وشقيقها الحنون، ويأتي تجبر الوالد ليزيد الألم وخزا في النفس والقلب لمَّاه طلَّق والدتها قبل وفاتها.

أخذت بكف الفتاة وتوجهنا صوب شقيقتها وانسابت كفي دونما إذن صوب خديها فمسحت دموعها وقلت وفي نفسي عسكر الكآبة:
صبرا بنيتي فللقدر كلمته، ولسموك أن تستمري في الحياة. والدتك كانت تريدك طموحة مثابرة لا منكسِرَة الفؤاد والإحساس فليس هكذا ستسعدينها وهي في فراش السماء الطاهر.

اخترقت كلماتي فؤاد الفتاة، وقتها غمرت شفتيها ارتعاشة خفيفة أردفتها صرخة بكائية رقيقة غسلتها قطرات دمعية أعدمت من بريق عينيها. فانقضَّت على صدري تفرغ كل ما يجيش في صدرها من آلام. وكان مواء القطة قد زاد. موقف أوقعني في موقف أرغم عيني على أن تذرفا دمعتان؛ دمعة لحال الفتاتين ودمعة صدَّقَتْها العين على الخد. وضعت كفيَّ في يدي الفتاتين وغادرنا المكان تاركين وراءنا ماضٍ مليء بالآلام والأحزان. ونحن سائرين في الطريق تراءت أمامنا عجوز في عقدها السابع؛ فانسلت من يدي كفي الفتاتين وبكلمة واحدة نادت كل منها: جدتي…جدتي…واستلقتا في حضنها وتوجه الثلاثة مواصلات مسيرتهن. فعرجت الفتاتان ناظريهما نحوي بطرف دامع حزين نعم؛ لكن بقلبين يحملان أملا جديدا في المضي في الحياة. وبلغة المتأثر تحملت عناء رفع كفي ولوَّحتُ لهما بكل محبة مودِّعا إياهما. فغادرتا وعدت لبيتي وفي ذهني حبكة قصة عنوانها ” دمعتان على الطريق “.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *