وجهة نظر

الأزمة الصحية وضرورة بناء دولة اجتماعية في المغرب

المستقبل كما يقال لم يكتب في أي مكان ويجري التحضير له. هكذا فإن اتخاذ متمنياته كعلامة مسبقة لأي تغير مستقبلي للواقع لن يساعد بالتأكيد على إعداده. إن صرخات النصر التي يعاد إعلانها قبل الأوان، من قبيل بداية نهاية النيوو ليبرالية وعودة دور الدولة لتنسيق وتنظيم الحياة في المجتمع، لم تكن وليدة تحليل دقيق لدينامية موازين القوى الموجودة، أو الطريقة التي يمكن أن يحدث بها التغيير المنشود، ولا حتى عن درجة قبول الأطراف المستفيدة من استبدال للوضع الراهن. فهل،

على سبيل المثال، يمكن فعلا التفكير بجدية في امكانية العودة إلى النسب المرتفعة لاقتطاعات الضريبة على الدخل على غرار سنوات الثمانينيات او قبل ذلك (2)؟
بل على العكس، إن تبني مثل هذا السلوك المتسرع من شأنه أن يسهل على القوى المحافظة والمستفيدة من الوضع السابق للأزمة، العودة إلى حالتها “الطبيعية”، ما قبل الوضع الحالي، من خلال التشكيك في مصداقية هذا الطرح من الناحية العلمية، وبالتالي يتم تهميش القوى القليلة التي تمارس النقد في المجتمع.

من الممكن أن يشكل الإعداد والاستعداد للمستقبل، في ظل الظروف الحالية، فرصة فريدة من نوعها بسبب ضعف الأفكار والمعتقدات القديمة. لكن الاستفادة من الظرفية من اجل التغيير لا يتأتى الا من خلال طرح بديل مبني على قراءة تحليلية تتخطى المدى القريب للمنحى الاقتصادي، وتتجاوزه نحو قراءة في الفرضيات والنظريات الأساسية التي أنتجت نظاما اقتصاديا ضعيفا (غير فعال وغير عادل) في مواجهة الصدمات (راجع القسم 3 في حالة المغرب). وبالتالي فإن أفضل استجابة للأزمة الصحية الحالية هي الاستجابة التي تسمح بإدارة الطوارئ، وتمكن في نفس الوقت من تطوير رؤية مدعمة بدلائل واضحة حول نموذج تنموي بديل وإظهار عدم جدوى الأفكار والمعتقدات التي بني عليها النموذج الحالي. وهو، في نظرنا، الأمر الوحيد الذي يمكن أن يعطينا سببًا للاعتقاد بأن ما بعد الأزمة قد يكون مختلفا عما قبلها.

الأزمة الصحية، أي مخرج مشرف؟

من المعلوم أن الأزمة الحالية ليست أزمة صحية فحسب، بل تتعداها لأزمة النموذج الاقتصادي، وبشكل أعمق هي أزمة أفكار. حيث أن هاته الاخيرة هي التي تسيطر على الاثنتين، وهي التي تحدد معالم المستقبل وحجر الزاوية لبنائه.

بعد كل أزمة بهذا الحجم وبشكل شبه مؤكد، تتمحور النقاشات حول موقع ودور الدولة بالنسبة للسوق الاقتصادية، لتطفو على السطح أغلبية “واجهة” تدعو الى ضرورة التدخل العمومي. ومع ذلك فإن نتيجة معركة الأفكار حول دور الدولة ليست محددة مسبقًا حيث ان أي تقارب في اتجاه خرق الحدود المنيعة بين الدولة الاطفائية والدولة الاجتماعية، لا يمكن أن يكون سوى وهم عابر ناتج عن عدم معرفة مسبقة بالفرضيات التي تشكلهما. وهو الأمر الذي يكشفه لنا التاريخ القريب للأزمات الاقتصادية التي عرفها العالم والذي يوجه الباحث عن أسباب نشأة هاته الأزمات وأصولها العميقة للنبش في تجاوزات السوق وسياسات التفكيك والتقليص المتعمدة لدور الدولة. برغم من ان فكرة نجاعة السوق استندت وتستند إلى افتراضات وآمال استمر الواقع في دحضها:

لم تنجح نظرية “تدفق الثروة “، التي تعد حجر الأساس في مسالة التوزيع عند النيوو ليبراليين، في القضاء على اللامساواة،

عدم ترجمة فرضية النجاعة المطلقة للقطاع الخاص، إلى قدرة ذاتية على الاستثمار وعدم الحاجة الى الدعم العمومي، بل الأكثر من ذلك لم تقده للابتكار وتخطي العوائق التكنولوجية كما هو مزعوم في ادبيات التوجه النيوو ليبيرالي،

لا يسفر مبدأ المنافسة في غالب الاحيان على انخفاض الأسعار كما هو مروج له. وذلك بسبب عدم استقرارها الزمني لأن المنافسة هي نتاج عملية دائمة لتنظيم توازن القوى داخل السوق وليست حالة نهائية مستقرة وحتمية له،

ان تجربة السنوات الأخيرة للعولمة النيووليبرالية قد افضت الى ان ترك السوق لحاله يؤدي الى تمديد سلاسل القيمة إلى حدٍ يتعذر معه ضبط محليا حتى المنتجات الأساسية (موازين الحرارة والأقنعة وما إلى ذلك)،

تحرير السوق لم يوسع مجال الحريات الحقيقية بمفهوم الكاتب A. K. SEN

لم تسفر سياسة المساعدات المالية المباشرة التي اتبعتها بعض الدول في مواجهة الفقر والهشاشة عن تحسين معيشة ورفاهية الأشخاص المستفيدين،

كما ان السياسات الاقتصادية المبنية على قواعد تحُد من مجال أخد المبادرة والتكيف مع الظرفية من جهة والإصلاحات الهيكلية “الصديقة للسوق” من قبيل ضخ مزيد من المرونة في علاقات الشغل من جهة أخرى لم يؤديا الى تحقيق التنمية.

ومن المفارقات العجيبة، أنه في وقت الأزمات، يتم اللجوء لنفس الدولة لإنقاذ النظام القائم. وطالما أن الحلول التي تقدمها الدولة في الوقت الراهن لا تتجاوز بعض الإجراءات التلطيفية التي تفرضها حالة الطوارئ، ولا ترتقي في نفس الوقت الى أزمة أخرى أكثر خطورة والمتمثلة في إفلاس الأفكار التي كانت السبب في تقلص مساحة الدولة و تقهقرها، فحتما ستعود القوى المحافظة إلى الواجهة (كيانا وأفكارا)، ليس للتبشير ببراءتها، ولكن لتعزيز وإعادة الاتصال بالنظام الذي كان سائداً قبل الأزمة، وأيضا لتذكير الدولة بمحدودية دورها، الذي يمليه الإطار المرجعي المعياري الذي تمثله النظرية النيوو كلاسيكية و أيديولوجيتها النيوو ليبرالية. الدور الذي تم اختزاله بشكل كبير في الخوصصة وحماية الملكية الخاصة من ناحية ومعالجة إخفاقات السوق ومراقبة شروط المنافسة من ناحية أخرى. وهوما أطلق عليه اسم “الحكامة الجيدة” من طرف المؤسستيين الجدد. أوفي المقابل الدور الذي يُخضع الدولة لخدمة الأوليغارشية. وكِلا الدوران يتعارضان مع روح الدولة الاجتماعية.

والواقع أن دور الدولة الاجتماعية ليس مقتصرا على توفير الحد الأدنى من الحماية والأمان، أو في دعم المتدخلين الاقتصاديين الذين يواجهون صعوبات، بل يجب أن يتخذ دورها شكلا عاما وطابعا استباقيا. ان الدولة الاجتماعية هي التي تضمن الرفاهية الجماعية وتسعى باستمرار إلى الجمع بين هدف النجاعة الاقتصادية ومبدأ العدالة الاجتماعية. وعمليا، وبالرجوع إلى التعريف الأوسع الذي خصّه بها C. Ramaux (2012)، فإن الدولة الاجتماعية هي المسؤولة عن ضمان الحماية الاجتماعية، تنظيم علاقات الشغل وقيادة سياسة توظيفية طوعية، توفير الخدمات العمومية بالجودة المطلوبة وتوظيف السياسات الاقتصادية، بما في ذلك السياسة الصناعية، بشكل يتماشى مع مبدأي النجاعة الاقتصادية ومبدأ العدالة الاجتماعية.

من جانب أخر وبالنظر للمآسي التي اظهرها الفكر السيادي او الشيوعي في القرن العشرين، فإن الدولة قد تقود الأمور إلى الأسوأ. وبشكل مباشر فإن مفهوم الدولة الاجتماعية يتعارض مع هاتين النظريتين للعالم لأن مبدأ العدالة الاجتماعية الذي تقوم عليه غير قابل للتجزئة من جهة وينطبق على الجميع بغض النظر عن العرق والجنسية والانتماء السياسي، كما انها لا تتعارض من جهة اخرى مع قيم الحرية والمبادرة الفردية.

خلاصة ما سبق أن الخروج المشرف من الأزمة الصحية الراهنة، في المغرب وفي دول أخرى، سيعتمد على النتيجة التي ستؤدي اليها صراع الأفكار. وفي هذا الاطار تبدو المقارنة بين أزمة عام 1929 وأزمة عام 2008 بليغة حيت كانت الأزمتان بحجم مماثل إلى حد ما وكان تدخل الدولة في كلتا الحالتين كبيرًا وحاسمًا ، باستثناء أن هذا التدخل واكبه تغير تدريجي وجذري في تصور دور الدولة بعد أزمة الكساد الكبير 1929 (الثورة الفكرية الكينزية التي تعتبر الدولة فاعلًا حرًا في تحركاته وليس في موضع التابع و المكمل للسوق) ؛ في حين أنه بعد الركود العظيم 2008 ، كانت الدولة مقيدة بشكل كبير من قبل الأيديولوجية السائدة والثقة العمياء في قدرة السوق على التعافي بنفسه، والتي يعود أصلها النظري إلى أعمال V. Pareto (1848 – 1923 ) المعروفة باسم نظرية الرفاهية (théorème du bien-être). منذ ذلك الحين، تم الاعتراف بأن سياسة عدم التدخل (laisser-faire) تجعل من السوق القوة القادرة على الحصول على اعلى درجة من الرفاهية الجماعية (optimum social)، ولكن على حساب سلسلة من الفرضيات والاجراءات التكبيلية(3).

فبهذه الطريقة تم تجاوز أزمة الثلاثينيات، وما بعد الحرب العالمية الثانية، وتبعتها فترة طويلة من النمو المرتفع والسيطرة على اللامساواة بفضل تنزيل أنظمة الحماية الاجتماعية وغيرها من السياسات العمومية النابعة من مفهوم الدولة الاجتماعية، بينما في المقابل لم تكد أزمة عام 2008 تنتهي حتى افسحت المجال لازمات أخرى، أزمات ارتفاع الدين العمومي والأزمات الاجتماعية والسياسية. وبالتالي فان الازمة الراهنة ليست صحية فقط بل هي اكتر بكثير من ذلك، هي ازمة نموذج وأفكار.

ربما تكون هذه فرصة للقول إن أولئك الذين وصفوا تدخلات الحكومة المغربية على أنها كينزية لم يفهموا الدور الذي ينسبه Keynes J. M. (1883-1946) للدولة. فحسب كينز، تدخل الدولة هو فعل مستقل، وليس رد فعل في حالة استثنائية فقط. بحيث يجعله استباقي لدورات النمو وأساسي في محاربة الريع إلى حد الدعوة إلى “الموت الرحيم” لأصحابه. ومتخليا عن الفرضيات النيوو كلاسيكية المتعلقة بالفردية المنهجية وعقلانية الأشخاص، ومؤسسا بذلك للتدخل دون الحاجة للعودة الى السوق كمرجع للتقييم مدى نجاعته.

أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة المغربية هي اجابيه وتصب في الاتجاه الصحيح للحد من تداعيات الازمة، الا انها لا تتعدى حد ردة الفعل واقتصرت على ملء الفراغ الذي تركته السوق. والا فما معنى عدم مسائلة ونقد استراتيجية الخوصصة؛ مساعدة الشركات دون شروط مسبقة؛ عدم مواجهة الخروقات التي يتعرض لها قانون الشغل بجلاء و بصفة استثنائية في مثل الظروف الحالية دون ابداء أي تحرك أو رغبة في إصلاح مهمة مفتشية الشغل لمواجهة هاته الخروقات؛ ان لا يتم إعادة النظر في طريقة تحديد أجور العاملات والعاملين في مناصب مفيدة اجتماعيا و التي لا تستقيم الحياة العامة الا باستمراريتها؛ الاستمرار في منطق الاحسان على مبدأ التضامن المؤسساتي؛ عدم فرض الضريبة على انتقال الثروة والارث…كل هذا خوفا من خطر كبح للديناميكية نظام السوق و خاصة من ناحية إعاقة قدرته على الابتكار و من العوائق التي قد تؤثر على حسن اشتغاله بعد مرور الازمة. ولكن للأسف، لا يمكن أن تتواجد هكذا مثالية في السوق إلا في حالات جد نادرة، حيث السائد هو التلاعب بالسوق من اجل خلق مجالات تتيح الاستفادة من الريع، مما يؤدي الى انخفاض النمو وتوسيع الفوارق في الدخل والثروة.

الأزمة الصحية، الدولة الاجتماعية والسياسات الاقتصادية في المغرب

اتسمت إدارة حالة الطوارئ الصحية وتداعياتها الاقتصادية وكيفية مواجهتها بمرحلتين متناقضتين: المرحلة الأولى، اتسمت باتفاق ضمني غير موثق بين الحكومة ومعارضيها، ينص على الحاجة إلى سياسات اقتصادية توسعية (مالية ونقدية)، إذا استثنينا التحدث عن اعادة جدولة الإنفاق العام والتي تم التراجع عنه يومين بعد ذلك. في المرحلة الثانية، انتقل النقاش إلى جدل حول نسبة عجز الموازنة بالنسبة الى الناتج المحلي الخام ومقدار السيولة التي يمكن للبنك المركزي ضخها من خلال قنواته التقليدية مع ضمان قدرت الأبناك على استيعابها. في المقابل وفي دول اخرى، تم الإعلان وبكل بساطة عن دعم غير محدود للاقتصاد شكلا ومضمونا، بما يتماشى مع طبيعة الصدمة ومداها.

إذا أردنا تصور المسار الذي قد تتخذه السياسات الاقتصادية في ظل هذه الازمة وبمنطق الدولة الاجتماعية، فإن الجدل حول طبيعة تدخل الدول ومداه سيكون مختلفا. عاجلاً أم آجلاً، يجب على الدولة أن تواجه قراراً بفك الحجر الصحي لأن التكلفة الاقتصادية له (تكلفة الوقف الجزئي للنشاط بالإضافة إلى تكلفة تدابير الدعم) هي على منحى متصاعد تزداد بمرور الوقت، في حين أن “التكلفة الصحية” (تلك المتعلقة بالوفيات والمرض والوقاية والتحمل الزائد للخدمات الصحية) ستنخفض تدريجياً بمجرد انتهاء ذروة الوباء. في ذلك الوقت، عند تقاطع المنحنيين، لن يكون الحجر الصحي مبررا، وسيكون استمراره سببا مباشرا لأزمة اقتصادية واجتماعية عامة، والتي لن تساعد بأي حال في حل المشكلة الأولى المتعلقة بالصحة العامة.

يبدو للوهلة الأولى أن هذه المقاربة الاقتصادية المبنية على مقارنة الخسائر والأرباح ترتكز على منطق سليم، لكن عمليا هذا المنطق يضعف عند إرادة تحديد التكلفة الصحية للأزمة، الأمر الذي يتطلب مجموعة دقيقة من الفرضيات اللازمة للتقييم المالي للحياة البشرية. الا ان هذا التقييم ينطوي على عدة مخاطر من شأنها جر التحليل إلى مجال الاختيارات الأخلاقية المعقد وحيث هناك توضع معايير أخرى للحكم تتجاوز الجانب المالي الضيق. وقد أظهرت العديد من الأمثلة الواقعية أن قيمة الحياة البشرية لا يمكن أن تختصر في منطق الربح والخسارة وذلك بكل بساطة لتعارضها مع جوانب أخرى أخلاقية وسياسية (مثال: حالة خزانات الوقود للسيارات فورد “بينتو”).

لذلك، فبدلاً من المقامرة في تقدير تكاليف الخسائر البشرية والاكتفاء بالتقويم “العقلاني” المبني على مبدا الربح والخسارة، سيكون من الأفضل للحكومة، وبروح الدولة الاجتماعية، أن تسعى إلى الحد قدر الإمكان من الأثر الاقتصادي للحجر الصحي على الشركات والأسر، حتى يتسنى لها تأجيل نقطة التقاطع (الفرضية) بين المنحيين ويتم بالتالي ربح الوقت للتحضير بعناية شديدة لشروط رفع الحجر الصحي. وبشكل عملي، يُترجم هذا الأمر إلى سياسات اقتصادية لدعم الاقتصاد بدون حدود أو خلفيات أيديولوجية (4)، حتى يتم إبقاء منحنى التكلفة الاقتصادية للحجر الصحي تحت منحنى التكلفة الصحية، ويكون بذلك إنهاء الحجر مبرمجا ومحضرا له بشكل جيد بدل ان نجبر عليه.

وبالتالي، فإن السياسات الاقتصادية الغير المقيدة من شأنها أن تبعد الدولة عن مواجهة اللحظة المصيرية التي ستضعها امام خياران وحيدان أحلاهما أمر من الأخر: الاول يتمثل في الإبقاء على الحجر الصحي مع خطر أزمة اقتصادية مدمرة وموجعة، والثاني هو رفع الحجر ومواجهة أزمة صحية أكبر. في مثل هاته الظروف، تصبح شروط النقاش الموضوعي حول السياسات الاقتصادية كما لو أن الوضع طبيعي غير مجدية. لأن ما يجب اعتماده في مثل هاته الحالات هو التوافق الوطني، المدعم حاليًا بتوافق وإجماع دولي، ينبني حول مبادئ معينة مثل:

الدولة هي الحامية، وهي المنتجة والمشغلة، وهي المقرضة كذلك. تُترجم هاته الاقتراحات إلى سياسات اقتصادية تقديرية غير مقيدة، ضربا عرض الحائط منطق التوقعات العقلانية عند الاعبين الاقتصاديين (anticipations rationnelles) ونظرية الخيارات العامة (théorie des choix publics) الاتان تؤسسان لمبدأ عدم فعالية السياسات العمومية التقديرية.

إن مبدأ الدولة هي الحامية في النهاية، ظهر جليا أتناء انتشار الوباء، ما يضعنا أمام ضرورة إعادة النظر في تقييم القطاع الصحي في المغرب خلال السنوات الأخيرة.

بعد أن دفعت الإيديولوجية النيوو ليبرالية المغرب إلى تقليص خدمات القطاع العام مقارنة بمتطلبات المواطنين، والنتيجة أصبحت الان واضحة أمام الجميع.

في الواقع، عرفت وتيرت الإنفاق الصحي في المغرب تراجعا منذ سنة 2010: بعد مضاعفة الإنفاق بمعامل 3.5 منذ سنة 1995، وذلك بفضل متوسط ​​معدل النمو السنوي البالغ 8٪ بين 1995 و2010، تراجع معدل نموه الى 4.4 ٪ فقط في السنوات التي تلت ذلك. والسؤال المطروح هو أي قانون وأي قرار ذاك الذي صدر بإلزامية نمو القطاع الصحي بنفس وتيرة نمو الاقتصاد الوطني؟ حيث جاء الوباء ليظهر للجميع خطأ بل سخافة هكذا قرار، لان الصحة العامة تمثل مصدراً أساسيا لرفع الإنتاجية، وبالتالي للنمو في المستقبل، خاصة في البلدان النامية حيث يكون هامش تحسين الوضع الصحي للسكان كبير وبتكاليف أقل.

مؤخرا، عانى قطاع الصحة المغربي بشكل كبير من هاته القرارات والمنطق القصير النظر. حيث أن حصة الإنفاق العام من إجمالي الإنفاق الصحي منخفضة ولا تتجاوز الثلث. وتتحمل الأسر الباقي إما عند “الاستهلاك” للخدمات الصحية أو من خلال التأمين الصحي. كذلك، شهدت هذه الحصة متوسط ​​انخفاض سنوي قدره 0.45 نقطة منذ عام 2010، وهو ما يفسر 25٪ من الانخفاض في إجمالي وتيرة الإنفاق الصحي (Tamsamani، 2017).

أزمة النموذج الاقتصادي المغربي، الدولة الاجتماعية وإذا كان M. Kalecki هو المنقذ!

خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، اختار المغرب استراتيجية الانفتاح التجاري والمالي لاقتصاده، والتي تم نشرها من خلال التوقيع على عشرات اتفاقيات التجارة الحرة، وإطلاق مجموعة من الحوافز الاقتصادية والضريبية والتنظيمية للمستثمرين الأجانب. وقد واكبت سياسة النمو الموجهة نحو الخارج، استراتيجية وطنية للمشاريع الكبرى المهيكلة، والتي كان هدفها تشجيع وتحسين مناخ الاستثمار في البلاد وزيادة العائد وأرباح رأس المال الخاص. عرفت هاته الفترة أيضا خيارا استراتيجيا ثالثا وهو التخلي عن التخطيط الهيكلي الشامل كاستراتيجية وطنية وتبديلها بمخططات قطاعية مستقلة عن بعضها البعض.

ولقد أظهرت هذه الخيارات بعد بضع سنوات محدوديتها وذلك عبر تراجع معدل النمو منذ سنة 2010. كما أظهر تكرار الحركات الاحتجاجية الاجتماعية منذ سنة 2011 فشل هاته الاستراتيجية من ناحية العدالة الاجتماعية وعدم قدرتها على تقليص الفوارق الاجتماعية. وإذا ما تم قياسها باستخدام مؤشر “جيني” المحسوب على أساس إنفاق الاستهلاك، فان التفاوت على مستوى الدخل (احصائيا ومكر واقتصاديا) ظلت تابتا في الزمن(5) وعلى مستويات مرتفعة. في النهاية أصبح من المؤكد أن النموذج الاقتصادي التنموي الحالي استنفد كل امكاناته، وباعتراف أعلى سلطة في البلاد.

للخروج من هذا المأزق وبناء القدرة على الاستمرار في مسار النمو، سيكون لزاما تغيير طريقة التفكير التي أدت بالسياسات العمومية الى مازقها الراهن وتكريس مبدأ القطيعة الإبستمولوجية. في هذا الصدد يبدو أن المخطط النظري الذي اقترحه M. Kalecki (1899 – 1970) هو الأنسب لتحليل مثبطات النمو في المغرب وشروط إنعاش اقتصاده. بدءاً من الفرضيات الأساسية البسيطة والبديهية حول سلوك الأشخاص والمتدخلين، ليصل إلى استنتاجات تفسيرية حول دينامية الاقتصاد والدورة المتوافقة مع ما يمكن ملاحظته داخل الاقتصاد الوطني.

بكل اختصار، يُظهر لنا التركيب الفكري عند M. Kalecki (1971) ما يلي، أولاً، طريقة توزيع القيمة المضافة هي المحددة لسرعة خلق الثروة داخل الاقتصاد وليس العكس، كما تحدد احتياطي رأس المال على المدى المتوسط. التبريرات لهاته العلاقة السببية بين طريقة التوزيع والنمو متعددة لا يتسع المجال هنا لسردها. سوف نقتصر بتفسير M. Kalecki نفسه: باعتباره في وضع قوة داخل السوق، يتجه مالكي راس المال والشركات الى فرض معدلات عالية من الأرباح على حساب الأجور، الشيء الذي يحد من القوة الشرائية للأسر والطلب بصفة عامة بمكونه الاستثماري وبالتالي يبطئ النمو وعملية تراكم رأس المال نفسه. ثانيًا، يحظى الاستثمار بمكان محوري في مخطط M. Kalecki (1968) التفسيري للدينامية الاقتصادية، ليس فقط كعنصر من عناصر الطلب، ولكن أيضًا لأنه يزيد من القدرات الإنتاجية. ومن جهة أخرى يشير M. Kalecki الى أن الاستثمار يمكن أن يكون مصدرًا للأزمة في حالة لم يحدد الاستثمار الإضافي بشكل “نافع” ومدقق مبني على معايير محددة، مما يجعله غير متوازن مع مستوى الطلب (أو النمو). من هذا المنظور فان العديد من البلدان النامية ومن بينها المغرب تنطبق عليها هاته التوصيفات الثلاث للاستثمار: الطلب غير كافي والقدرة الإنتاجية محدودة وكثرت لاستثمارات الغير النافعة. ثالثًا، في ادبيات المدرسة الكاليكية يكون الخلق النقدي (création monétaire) من خلال الرفع من حجم القروض غير محايد حيت يمكنه نظريا وإذا توفرت بعض الشروط التأثير الإيجابي والفعال على حالة الاقتصاد الحقيقية. ليصبح مكانة القطاع المصرفي في الاقتصاد كمكانة القلب في الجسم، وبالتالي يكون الاستثمار غير مرتبط بقدرة الادخار المتاحة ولكن بسلوك البنوك والقطاع المصرفي.

هذه العناصر الثلاثة لا تمثل فقط مثبطات/محفزات لنمو الاقتصاد المغربي، ولكنها أيضًا تمثل اليات يمكن من خلالها للحكومة التحكم في مستوى الانتاج لإيصاله للمستويات المطلوبة. إن العمل على هذه المكونات الثلاثة لا يمكن أن يتم الا في إطار دولة اجتماعية، قادرة على زيادة نسبة الأجور في توزيع القيمة المضافة وبالتالي الحد من اللامساواة، والتخطيط (بشكل شامل) للاستثمارات العامة، وإنشاء بنك استثماري عمومي، وإجبار القطاع المصرفي على الخضوع للمبدأ الأولي للسوق التمويل الذي يربط الأرباح بالمخاطرة (وليس بالريع)، وباختصار، لإنشاء اقتصاد متنوع économie mixte)) وتضامني.

يعتبر Keynes (1936) أن مهمة الدولة تنتهي بمجرد “قدرتها على تحديد الحجم الإجمالي للموارد المخصصة لزيادة وسائل الإنتاج، والنسبة الأساسية المخصصة للأجور” كما لا يحق لها ” التدخل في الحياة الاقتصادية للمجتمع. حيث لا مصلحة لها في تولي ملكية وسائل الإنتاج.” لهذا، يجب عليها السعي من أجل “تشجيع ونشر امكانية الاستثمار للجميع … وبذلك تضمن فرص العمل لمعظم الأفراد … طبعا دون استبعاد التسهيلات وجميع أنواع الدعم المقدمة للتعاون مع مبادرة القطاعات الخاصة “.

وفي الختام، فإن الدولة الاجتماعية ليست هبة ربانية تنحدر من السماء، وليست أمرا ينبثق من الفراغ. ليست أبدية ولا مستقلة. فهي بناء اجتماعي ينبني على خيارات الافراد والمجتمع، تتبلور في قرارات سياسية، ومثل أي بناء اجتماعي، فإنه يحدث بمرور الوقت وبالتزام ومشاركة الأشخاص المعنيين. كما أنها ليست بطاقة مصرفية بدون رمز متاحة حصريًا لأولئك الذين يعرفون كيفية استخدامها، الا انها حصيلة جهد والتزام جماعي، ينظمه السياسي، تستوجب ان يستفيد منها كل فئات الشعب. وبهذا المعنى، فإن منطق المعاملة بالمثل بين الدولة والمواطن (الحقوق والواجبات) وبين الدولة والسوق أمر أساسي في أي مشروع لبناء دولة اجتماعية.
الدولة الاجتماعية ليست حلا سحريا سهل المنال. بل على العكس، أن الدولة الاجتماعية قد تعاني من نقائص مثل البيروقراطية، عدم الكفاءة، الفساد، والتواطؤ. لكن التعرف على هذه الاختلالات من أجل تصحيحها شيء، وأخذها كذريعة للخوصصة والتحرير والمرونة بأي ثمن، وبدون حجج قوية ودراسات ميدانية قاطعة بعيدة عن التعصب الأيديولوجي شيء اخر.

* الدكتور ياسير التمسماني / ساعد على ترجمته من الفرنسية يوسف وزار

هوامش
1 دكتور في الاقتصاد من جامعة السوربون بباريس
2 بلغ معدل الضريبة على الدخل 65٪ في فرنسا عام 1983 و87٪ في المغرب خلال نفس الفترة. وانخفض إلى 45٪ وإلى أقل من 38٪ في الدولتين على التوالي.
3 من المسلم به أن النهج الافتراضي الاستنباطي الذي اعتمده التيار النيوو الكلاسيكي، الذي ينتمي إليه V. Pareto، يعتبر أن فرضيات النموذج لا يجب أن تكون متماهية تمامًا مع ملاحظة الواقع، ولكن ما يهم هو التسلسل المنطقي للأفكار وتماسكها الداخلي. ولكن رغم ذلك، تحتوي هذه الفرضيات على قراءة معينة ومبدئية للمجتمع وبسلوك الأشخاص التي لا يمكن وصفها بالحياد.
4 عدم الخلط بينه وبين اقتراح “العملة المروحية” الذي يهدف الى توزيع اعانات نقدية على الجميع لأن الجميع متساوي أمام الأزمة الصحية وعواقبها الاقتصادية. العائق الوحيد للتدخل العام في ظل هذه الظروف هو طرق استخدام الدولة للأموال المقترضة. يجب أن تكون مرتبطة بروح الدولة الاجتماعية التي تنعكس في السعي المشترك لتحقيق الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.

5 من ناحية أخرى، يمكن الاعتقاد بأن التفاوتات الاجتماعية قد ارتفعت، اولا لأن حسابه يتم في المغرب على أساس الإنفاق الاستهلاكي وهذا لا يمثل سوى جزء صغير من الدخل للفئة الأكثر حظوة. ثانيا، ان التفاوتات على مستوى مخزون الثروة تكون دائما أكثر عمقا مقارنتا بالتفاوتات المبنية على الدخل والتي لا يتم احتسابها بالنسبة لمقياس مؤشر “جيني”.

مراجع

Kalecki, M. (1968). Trend and Business Cycles Reconsidered. The Economic Journal, 78(310).

Kalecki, M. (1971). Selected Essays on the Dynamics of the Capitalist Economy, 1933-1970. Cambridge: Cambridge University Press.

Keynes, J. M. (1936). Théorie générale de l’emploi, de l’intérêt et de la monnaie. Chapitre XXIV – Notes finales sur la philosophie sociale à laquelle la théorie générale peut conduire. Paris: Éditions Payot, 1942.

Ramaux, C. (2012). L’État social, pour sortir du chaos néolibéral. Paris: Fayard/Mille et une nuits, coll. « Essais ».

Tamsamani, Y. Y. (2017). L’évolution des dépenses de santé au Maroc : une analyse des déterminants démographiques et macro-économiques. MPRA paper(83996).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *