وجهة نظر

برنامج الإسلام التغييري (1)

تابع العالم بأسره تداعيات مقتل المواطن الأمريكي فلويد، الذي عرى عنصرية دفينة في مجتمع يزعم أنه حر وديمقراطي وأنه قطع أشواطا في التخلص من العبودية. وقبله تراوري بفرنسا الذي لازال ملفه جامدا منذ أربع سنوات.

صورة الغرب التسويقية بدأت تتكشف، والصراع الخفي حول السيطرة أخذ شكلا مكشوفا بشكل كبير جدا، لا على مستوى التقنية بجيلها الخامس، أو جائحة كورونا أو بقية ميادين الحرب والصراع الدائرة. الحاكمون الحقيقيون اليوم هم الموجودون بالخلف يمتلكون المعلومة. ومنصات التواصل الاجتماعي وجه حديث من أوجه ساحات التدافع الدولية، فبين تيك توك الصين أو فيسبوك أمريكا جولات وجولات ومنافسات.

نحن المسلمون ما دورنا اليوم؟ وما موقعنا من الأحداث؟

تحدثنا في مقالة “مشي رسول الله في الأسواق” وضرورة العودة للمنهاج النبوي وأن ما تعيشه الأمة اليوم من تدهور وتخلف هو نتيجة تنكبها عن العلاج القرآني النبوي. الماركسية اللينية كجواب موجود بالساحة لم تجعل نظريتها هكذا فضفاضة، بل حولتها إلى برنامج عملي له القدرة على التنفيذ. فهي تزاحم العاملين للإسلام خاصة في المسألة الاجتماعية محليا ودوليا. الماركسية أصابت حين انتقدت الرأسمالية. لكن وجه اختلافنا الجوهري معها هو الإلحاد، ونتفق معها في رفض الظلم وضرورة تغييره. يجمعنا والماركسيين كون العدل من أهم ما يجب أن تسعى إليه الأمة، ونحذر من الماركسية المتلونة كما فعل مجاهدو خلق بإيران.

المنهاج النبوي الصافي هو جامع الأمة اليوم وغدا ومنقذها. يحتاج اليوم إلى شرح وتفصيل وتبسيط كما فعل الصحابي الجليل ربعي بن عامر.

نقف اليوم عند نقطة منه ألا وهي المحبة والصحبة.

صحبة المؤمنين ومحبتهم، وصحبة رسول الله ومحبته المؤديان إلى محبة الله. سقف غال ومطلب تطمح له همم الرجال، ولهذا كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يحث أصحابه: “إذا سألتموا الله فاسألوه الفردوس الأعلى” كان عليه الصلاة والسلام يرفع أفق ورؤية الصحابة لأعلى على المستويين معا التربوي والسياسي.

كانت المحبة الخيط الناظم وكانت صحبته هي الجامع، وهي المفتاح لجمع المسلمين اليوم في زمانه عليه الصلاة والسلام. كل المسلمين يقولون بمحبة الله ومحبة رسول الله. يبقى فقط عرض هذه المحبة على كتاب الله وسنة رسول الله في الممارسة ومدى صدقيتهما ومحكهما في الواقع. فقد يسهل أن يزعم عمرو أو زيد أنه يحب الله. هات برهانك إن كنت صادقا !

افتقد رسول الله يوما سيدنا ثعلبة بن عبد الرحمن التائب من النار، فبعث في طلبه أكابر الصحابة، سلمانا وعمر. وبعد أن وجدوه، ذهب رسول الله إلى بيته يزوره ويرجو له رحمة الله ومغفرته بعد أن سمع أنه مريض، وهو يعد أنفاسه الأخيرة لصدق توبته، حتى نزلت الملائكة في تشييعه.

أما سيدنا جليبيب فكان ذميم الخلقة، فكان يحثه رسول الله عليه الصلاة والسلام على الزواج، وذهب يخطب له بنفسه عليه الصلاة والسلام. فلما نادى منادي الجهاد وخرج جليبيب ملبيا ثم استشهد. سأل الجناب الشريف النبوي عنه. أتفتقدون أحدا؟

قالوا: لا يا رسول الله، قال أما أنا فأفتقد جليبيا.

فجعل يبحث عليه الصلاة والسلام عنه حتى وجده، فلما وجده عليه الصلاة والسلام حمله بين ذراعيه الشريفيتين وقال: جليبيب مني وأنا منه. أعظم بها من محبة.

إني أحبك يا معاذ.

هذه المحبة جلست سلمانا من فارس، وصهيبا، وتنافت الطبقية والمراكز الاجتماعية بين الصحابة وصارت التقوى هي الميزان.

وفي خطبة الوداع، كان سيدنا رسول الله يتحدث عن عبد قد خيره الله. ففهم المحب المحبوب سيدنا أبو بكر الإشارة فجعل يبكي وغلبه الوجد وسط الناس بالمجال العام، بالمسجد، فنافح رسول الله عليه الصلاة والسلام عنه: “كل الأبواب تغلق إلى المسجد إلا باب أبو بكر.

وحتى بعد انتقال جسده الكريم، رأى بلال يوما رسول الله في المنام، فقال: ما هذا الجفاء منك يا بلال، ألا تزورنا؟

فعاد سيدنا بلال أدراجه للمدينة. فلما أذن نزولا عند رغبة الحسن والحسين، اهتزت المدينة لصوته وبكى كل من فيها.

كل هذه صور المحبة العميقة الصافية من كل كدر التي بثها رسول الله عليه الصلاة والسلام في خاصة صحابته وفي المسلمين عموما وحث عليها. لم تكن محبة لتبادل العواطف في مجال الرخاوة، بل كانت أمرا جهاديا تدافعيا يوميا وبرنامجا عمليا بنى الجماعة المؤمنة والمجتمعات بعد ذلك، وكانت لها مقتضيات وواجبات بما يجمع الجسم ويقويه، ثم بنت مجتمع العمران الأخوي، ثم توسعت المحبة حاملة لواء العدل منقذة الإنسان أينما كان مبلغة دعوة الله للعالمين رحمة وعطفا وحنوا.

“لا تدخلوا الجنة حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم”.

السلام بمعانيه الكلية، سلام السريرة والقلب وخلوهما من الحقد والكراهية والبغض وسائر الأمراض الباطنة النفسية والقلبية.

“لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”.

محبة صادقة نابعة من القلب، لا مصلحة ولا استغلالا، بل محبة لله خالصة وعميقة ومتجذرة.

الأمة إن هي أرادت أن تنجمع وتتوحد وتصبح قوة، لابد لها من مفتاح التأليف بين المسلمين وجمع الجهود. بينما نرى كيف جمعت أمريكا ولاياتها بعدما فقهوا في عالم المادة والواقع اليومي والتحديات والتحولات أن لابد لهم من الجمع. وكما انتبه الأوربيون، وهاهم الصينيون قادمون بقبضة حديدية حولت الشعب إلى شعب منظم مصنع بأعلى درجات التقليد والتقنية والتجسس والتصنيع. المواطن جندي في ماكينة النظام الاستبدادي الصيني، تحت يافطة عقيدة ماو تلميذ الماركسية، التي تهفو إليها قلوب كل اليساريين بالعالم أينما وجدت الدولة النموذج بعد انهيار المعسكر الاشتراكي. ولا اشتراكية إلا الاشتراكية العلمية.

أين السوق المشتركة للمسلمين وأين صناعتهم وتقنيتهم وتجسسهم ومخابراتهم وأمنهم، أم أن بينانتهم اليوم عرضة لمن يدفع أكثر وقد سمعنا هذه الأيام تسريب معلومات أزيد من 94 دولة معروفة للبيع بالأنترنت !

مادام المسلمون يتحركون في ملعب رسمه غيرهم فهم بشروطه ووفق رؤيته، يتفرج من بعيد بعد أن رسم كل شيء على مقاسه.حتى لو ادعى الحكم الإنصاف ورفع قوانين اللعبة في الوجوه. وقس على هذا في كل المجالات. ولابد من إعادة صياغة شروط التدافع وفق العدالة التي تضمن لكل إنسان بغض النظر عن لونه وجنسه ولغته وديانته.

إذا عدنا إلى سيرة وسنة سيدنا رسول الله نجده أول ما فعل أنه آخى بين المهاجرين والأنصار عند وصوله المدينة وبداية تشكل مجتمع مسلم بعد أن بنى المسجد كمجال عام للقاء.

هذا التأليف بما يعنيه من ذوبان الفوارق والطبقية، وتجسيد الأخوة القرآنية، حيث اقتسم المهاجرون والأنصار كل شيء.

ولنسقط ذلك على واقعنا.

المسلم اليوم أيمكنه التنقل من جكارتا إلى الرباط بدون تأشيرة؟

أيمكنه النزول ببلد مسلم دون الحاجة إلى العادة الغربية المسماة “فندقا”؟

المحبة هي المفتاح السحري الذي يحتاجه المسلمون اليوم المتنافرون المتناحرون في أكثر من نقطة وإقليم، ينفخ العدو في تفرقتهم وتشردمهم ليستفيد هو. المحبة هي التي يمكن أن تجمع وتنسق العاملين للإسلام وتيسر الشورى والاجتهاد والتعاون والتطاوع والانتظام وتوحد الاهتمام.

لازالت في المسلمين اليوم أفرادا كرم زمان، آثار تلك المسحة النبوية الأخوية من ذلكم العصر، وقد تجد بين الفينة والأخرى نقطة ضوء هنا وهناك حين يعلق مسلم ببلد هنا وهناك فيجد من يطببه ومن يسعفه ويعتقه ويطعمه ويأويه ويساعده أكان بمنطقتنا أو بالمهجر.

لكن لا نعني بالمحبة هذا الأثر المادي فقط، بل ذلك الذوبان القلبي الروحي الذي جعل الصحابة صفا واحدا. يقول الله عزوجل:”إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص”.

أمام العاملين للإسلام تحد كبير لبناء هذا الصف وطنيا، والبحث عن المشترك بينهم إقليميا، بالجوار بكل حدوده، ثم بعد ذلك دوليا فيما يسميه سيدنا رسول الله وعدا يقينا خلافة على منهاج النبوة، تكون الأمة قد بلغت من النضح ومن الفهم والوعي والإدراك مستويات كبيرة تترفع بها عن الحسابات الصغيرة.

صف بكل أبعاده تنتظره قضية فلسطين ليعالجها من منطق قوة وبقية النقاط الساخنة داخلنا أو خارجنا.

ينتظره تخلف اقتصادي وتبعية وتحرر. ينتظره إنسان مظلوم يخنقه شرطي بأمريكا ويكتم أنفاسه ليتحول إلى قضية رأي عام دولي مناهض لغطرسة أمريكا لتمهد لصعود طامعين آخرين في قيادة العالم الذي تسوقه العناية لنهضة أخرى بإذنه سبحانه. ينتظره عدو صهيوني طغى وتجبر وهو بالكاد كمشة مقارنة بمليار ونصف مسلم.
كان رسول الله عليه الصلاة والسلام في حثه على المحبة يحذر من الحالقة التي تذهب بكل الدين ولو صام المرء وصلى وقام.

فذم الشرع النميمة والغيبة والحقد والحسد والكراهية وكل الأمراض القلبية والنفسية التي تحتاج الأمة تربية لقلعها من جذورها وتصفية القلوب لكي تتحاب بصدق لا علاقة مؤقتة ظرفية بل هي علاقة إنسانية ممتدة للآخرة حبا في الله ولرسول الله.. قال الله عزوجل:”إنما المومنون إخوة”.

أخوة المسلمين ومحبتهم لبعضهم أول مفاتيح النهضة وكلما زاد مستوى التربية زادت المحبة رسوخا وتوسعت النظرة وانشغلت بالقضايا الكبرى بدل السفساف، وكلما زاد مستوى التربية سهل على المسلمين تنظيم أنفسهم وتطاوع بعضهم لبعض بميزان الشرع والإيمان والإحسان لا بموازين الدنيا. هذه المحبة التي يجب أن تكون واضحة متكررة حتى ترسخ بالممارسة لا بالكلام الفضفاض، لتصبح واقعا عمليا تنفيذيا يوميا في كل مجالات الحياة العصرية بكل تحدياتها.

المحبة، المحبة، المحبة سلاح المسلمين اليوم الذي إن حملوه اكتسحوا العالم في الوقت الذي لم يعد الإنسان مؤتمنا على خصوصيته من أنظم ماكرة خبيثة تبيع الإنسان وتتاجر في الإنسان.

المحبة للإنسان، العطف على الإنسان الرحمة بالإنسان هي رسالة الإسلام التي يجب أن تعم العالم.

ولله الأمر من قبل ومن بعد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *