منتدى العمق

البابوية والإمبراطورية.. صراع السلطة الدينية والدنيوية في أوروبا العصور الوسطى

كان لظهور المسيحية في القارة الأوروبية منتصف القرن الأول الميلادي على يد الحواريين والرسول أثر كبير على المجتمع الأوروبي،فالإنسان الأوروبي الذي ألف تعدد الآلهة في الميثولوجيا الرومانية وجد نفسه بين ليلة وضحاها أمام دين جديد يدعو إلى توحيد الله وترك عبادة الأوثان .ورغم ما تعرض له أتباع الديانة الجديدة من عمليات اضطهاد واسعة على يد الرومان الوثنيين، خاصة زمن الإمبراطور “دقلديانوس” ، إلا أن شمس القرن الأول لم تكد تغرب حتى انتشرت المسيحية في كل الأقطار والولايات الأوروبية التابعة للإمبراطورية الرومانية، مما دفع الإمبراطور الروماني “تيودوسيوس” إلى الاعتراف بالمسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية .

كان هذا سياق ظهور الديانة المسيحية في أوروبا، والذي لم نشأ الغوص فيه أكثر حتى لا نضيع بين الأحداث التي تلت تبني تيودوسيوس للديانة المسيحية، وكيف حاول فيما بعد توظيفها لأغراض سياسية من أجل محاربة أعداء الإمبراطورية .

بعد أن أصبحت الإمبراطورية الرومانية عاجزة عن فرض سيطرتها على الدولة والكنيسة معا، حاولت الكنيسة الاستفادة من هذا الفراغ السياسي، وانفردت بالسلطة بعد أن جمعت لنفسها ثروة طائلة وأسست لها نظاما ثابتا سمح لرأس الكنيسة في روما من أن يطلق على نفسه لقب البابا كامتياز له . هكذا انتقلت أوروبا من عصر الأباطرة إلى عهد الكنيسة التي أضحت صاحبة السلطة الدينية و الدنيوية، و من يتوج الأباطرة و الملوك، و من يخلع من تراه منهم لا يصلح للحكم أو يرفض الامتثال لأوامرها ، ولتوطيد حكمها أكثر عملت الكنيسة منذ ما عرف ب “مجمع نيقية” أو “مجمع السكوني الأول” سنة 325 م على سن مجموعة من الحقوق التي كانت في نظرها لا يملكها إلا الله، وكان أشهرها “حق الغفران”، الذي تجلى فيما عرف ب “صكوك الغفران”، وهو عبارة عن وثيقة كانت تمنحها الكنيسة الكاثوليكية لرعاياها مقابل مبلغ مالي بغرض الإعفاء الكامل أو الجزئي من العقاب الأخروي،هذا بالإضافة إلى حقوق أخرى مثل حق التحلة وحق الحرمان،وكلها حقوق كان يراد بها ترويض ملوك وشعوب أوروبا لضمان طاعتهم للكنيسة ولباباواتها .

ولدرء أخطار من تخشاهم من ملوك أوروبا، عملت الكنيسة على تتويج ملوك أقوياء موالين لها تتنازل لهم على السلطة الدنيوية، مقابل الدفاع عنها وعن مصالحها ، و اعتبر الإمبراطور شارلمان(742/814) مؤسس “الدولة الكارولنجية” أشهر هؤلاء، إذ أصبح منذ تتويجه سنة 800 م على يد البابا ليو الثالث حامي الكرسي الرسولي .

لكن هذا التحول الذي عرفته الكنيسة الغربية سيفقدها فيما بعد قوتها وهيبتها السياسية وسيسمح لملوك أوروبا التدخل في شؤونها،حيث استغلوا ضعف الكنيسة وأخذوا في عزل وتنصيب الباباوات لفترة طويلة إلى أن وصل البابا غريغوري السابع إلى الكرسي الرسولي في روما سنة 1073 م، فحاول إعادة الاعتبار للكنيسة والحد من التدخلات المستمرة لملوك أوروبا في شؤونها ، وقام بإصلاحات تجلت في وضع نظام انتخابي جديد لاختيار البابا، فأصبح ينتخب بموجبه من قبل مجلسة الكرادلة قاطعا بذلك الطريق في وجه الأباطرة والملوك في انتخاب البابا.

لكن هذه الإصلاحات لم تكن إلا مقدمة لبداية صراع ديني(الكنيسة) دنيوي (الملوك والأباطرة ) في أوروبا الغربية على مدى العصور الوسطى، ونظرا لتعدد الأمثلة في تاريخ أوروبا الوسيط لملوك شقوا عصا الطاعة وأداروا ظهورهم للكنيسة وضربوا عرض الحائط تعاليمها . سنقتصر هنا على ذكر أشهر هذه الأمثلة وكيف تعاملت معها الكنيسة .

– هنري الثاني (1133/1189)

اعتبر ملك بريطاينا هنري الثاني سليل البيت السكسوني أحد أقوى ملوك أوروبا في العصور الوسطى، فقد تمكن بفضل شخصيته القوية وبحنكته السياسية أن يعتلي عرش انجلترا لعقود طويلة . حاول الحد من دور رجال الدين في مملكته ودخل في صراع مرير مع توماس بكت رئيس أساقفة كنتر بوري، والسبب إصداره لدستور يحد من السلط التي يتمتع بها رجال الدين في مملكته ،و زاد اغتيال توماس بكت الطين بلة، فرأت الكنيسة في الحدث فرصة لاستعراض قوتها وجبروتها على هنري الثاني و دمغته بطابع الحرمان، فلم يكن عليه إلا أن يتراجع عن قراره ويلغي الدستور ويرد إلى الكنيسة كل حقوقها وأملاكها .

– هنري الرابع (1056/1106)

إمبراطور المانيا، سجل هو الآخر اسمه في سجلات الكنيسة كواحد من ملوك أوروبا الذين نالهم غضبها بعد أن اختلف مع البابا القوي غريغوري السابع حول مسألة التعيينات أو ما سمي ب “التقليد العلماني” الذي كان يرمي من خلاله تحرير رجال الدين من سلطة ملوك وأمراء أوروبا، وهو الشيء الذي لم يقبله هنري الرابع، فألب عليه البابا أتباعه وعقدوا مجمعا قرروا فيه خلع الملك إن لم يحصل على رضى البابا.

– جون لاكلاند (1216/1199)

ابن هنري الثاني تولى عرش انجلترا خلفا لأخيه ريتشارد المعروف في كتب التاريخ بريتشارد قلب الأسد ملك انجتلرا. دخل جون لاكلاند في صراع مع البابا فدمغه وشعبه ب”حق الحرمان” وحرمهم من الصلاة في الكنائس ومنعت عقود الزواج وحمل الموتى إلى القبور بلا صلاة وعاش البريطانيون حالة من الهيجان والاضطراب، فلم يملك في النهاية إلا الركوع للكنيسة، وذهب إلى روما يبتغي المثول أمام البابا طالبا المغفرة . وهكذا وجد سلاح الحرمان كأداة فعالة بيد الكنيسة .

– فريدريك الثاني (1194/1256)

يظل إمبراطور صقلية و المانيا فريدريك الثاني سليل أسرة الهوهنشتاوفن أشهر من تحدى سلطة الكنسية و وقف في وجهها ورفض الانصياع لأوامرها، و اشتد النزاع بينه وبين البابا غريغوري التاسع عندما رفض القيام بحملة صليبية على المشرق، فما كان على الكنسية إلا أن عملت على تشويه صورته واتهمته بالهرطقة و باعتناق الإسلام ولقبته ” بالزنديق الأعظم “، وأصدرت حكما كنسيا في حقه ما دفعه للجوء إلى بولونيا طالبا الدعم لقتال الكنيسة .على الرغم من أنها نجحت في عزله في عهد البابا إنوسنت الرابع إلا أنه عاد و أعلن نفسه قصيرا متخذا لقب أغسطس وسمى نفسه ابن الله وسمى دولته الأراضي المقدسة وأصر على أن يستمد سلطته من الله عوض البابا.

كانت الكنسية الكاثوليكية ترى في خضوع ملوك وأباطرة أوروبا لها واجبا يقتضيه مركزها الديني وليس تطوعا، في حين كانوا هم لا يجدون مبررا لتدخل الكنسية في شؤونهم لكون القداسة التي تحملها وتدافع عنها هم أيضا يدافعون عنها و يحاربون من أجلها. يقول المؤرخ الانجليزي فيشر ” كانت الأسر الحاكمة في أوروبا تستمد بقاءها من صلتها النسبية بأحد القديسين فيرثون منه القداسة ولا يبالي الشعب بعد ذلك بتصرفاتهم لأنهم مقدسون” .

المراجع المعتمدة

عاشور سعيد ، تاريخ أوروبا في العصور الوسطى
فيشر هربرت ، تاريخ أوروبا في العصور الوسطى
الحوالي سفر، العلمانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • مسافر
    منذ 4 سنوات

    شكراً مبارك على هذه الجولة التاريخية في محطات الكنيسة مع السلطة، أتسأل سؤالين هل كان الكتاب المقدس وتعالبمه كانت تنتهك بتواطئ البابا آم كانت النصوص داعمة لمثل خورقات صكوك الغفران؟ هل كان الشيء المماثل يقع في العالم الإسلامي الموازي؟