لنا ذاكرة

“الثريد”.. طبق الأغنياء والفقراء الذي أعده المغاربة بطريقة مختلفة عن الشرق والأندلس

يعتبر طبق «الثريد» جزءا من المائدة المغربية، وذلك على مر التاريخ وقد شكل إلى جانب طبق “الكسكسو” أحد العلامات المميزة التي لا تخلو منها مائدة من موائد المغاربة، أغنياءهم أو فقراءهم، في مدن المغرب أو نجوعه أو جباله أو سهوله أوقراه، وذلك بخلاف بعض الأطباق التي اعتبرت جزءا من مائدة الأغنياء فقط، أو جزء من مائدة من سكنوا المدن دون سواها.

كما شكل هذا الطبق، جزءا من مائدة الاحتفال والاحتفاء لدى المغاربة، حيث درجوا على إعداده في مناسباتهم الخاصة أو العامة، كاحتفاء المغاربة برأس السنة الفلاحية أو حفلات العقيقة أو الزواج .

وقد أشار بن الوزان في كتابه “وصف إفريقيا”، إلى هذا الطبق حين حديثه عن العادات المتبعة في الزواج عند أهل فاس بداية أواسط القرن 16، “حيث اقتضت العادة في مثل هذه الحال أن يأكلوا لحوم البقر والغنم والدجاج المطبوخ المضاف إليه مختلف الخضر.. تلك عادات الأعيان والتجار، أما وجبة الطعام لعامة الناس فيقدم فيها ثريد مصنوع من خبز خفيف يشبه الشرائط ويغسّ في مرق لحم مقطع قطعا كبيرة، ويقدم الثريد في إناء كبير تسبح فيه قطع اللحم، ويأكل المدعوون بأيديهم دون ملاعق بمعدل عشرة أشخاص في كل إناء”.

وإذا كان بن الوزان قد تحدث عن هذا الخبز الخفيف الذي يشبه الشرائط أواسط القرن 16، فإن كتابا من القرن 12 الميلادي وهو لكاتب مجهول قد وصف هذا الخبز بالفطير الإفريقي، حيث يقول، “ويصنع منه _أي السميد _ رغف رقاق وتدهن، ويذر عليها السميد وتطوى مثل المورقة؛ ثم تدخل الفرن وتترك لتعقد.. وإن شئت طبخت ( الرغائف ) في طاجن، ثم تفتت… ويجعل عليه من اللحم المقلة والدسم الكثير.. ” وهي إشارة واضحة على أن المغاربة صنعوا ثريدهم بهذا النوع من الرغيف أو الفطير الإفريقي (نسبة إلى المغرب كما كان يطلق على المنطقة الممتدة من ليبيا إلى المحيط الأطلسي؛)، كما وصفه صاحب الكتاب الذي أشرنا إليه، وهو كتاب “أنواع الصيدلة في ألوان الأطعمة: الطبيخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين”. وذلك بخلاف “ثريد” اللحم الذي كان يصنعه أهل قرطبة من فتات الخبز كما يشير نفس المصدر السابق (ص 160).

ونحن نعتقد أن عادة إعداد «الثريد» بالخبز المفتت بالأندلس، هي عادة انتقلت من المشرق العربي إلى الإندلس زمن الفتح الاسلامي ، فقد أشار المسعودي صاحب كتاب “مروج الذهب ومعادن الجوهر” إلى أن “.. وظيفة المكتفي بالله ( الخليفة العباسي 902 _ 908 م ) ، كانت عشرة ألوان في كل يوم؛ وجدْي في كل جمعة … وكل على مائدته بعض خدمه وأمره أن يحصي ما فضل من الخبز، فما كان من المكسر عزله للثريد، وما كان من الصحاح رد إلى مائدته من الغد، وكذلك كان يفعل بالبوارد والحلواء “.

وهو نص يوضح بجلاء كيف أن الخليفة العباسي كلف أحد خدمه بجمع بقايا الخبز من على مائدة طعامه؛ وذلك قصد استعماله مرة أخرى في إعداد طبق «الثريد».

وقد أشار بن سيار الوراق في كتابه “الطبيخ وإصلاح الأغذية “، وهو كتاب عن الطبخ في القرن العاشر الميلادي، الى كيفية إعداد هذا «الثريد» ، وذلك تحت عنوان “في عمل المفتوت بماء الحمص والباقلى المنبوت (ص 165) بالقول “… فإذا نضج الفروجان والبصل جعل فيهما من الفلفل.. وفقص فيهما سبع بيضات على صفة عيون البقر، ورفعت على النار وقطع خبز السميد ثم سقي ذلك الخبز من ماء المرق وغرف حول «الثريد» أعضاء الفروجين والبصل”.

ولازالت هذه الطريقة هي نفسها المستعملة في إعداد ما يسمى بطبق الفتة، خصوصا في سوريا، وإن اختلفت مكونات الطبق، حيث تصنع الفتة بتقطيع الخبز، وذلك بإضافة الحمص الممزوج باللبن إلى الخبز الذي يتم تفتيته إلى قطع صغيرة، ليضاف إليه المعدنوس والرمان واللحم المفروم، فيما يشبه ” migasميكاس” الإسباني، الذي يعتبر من أشهر الأكلات الإسبانية إلى اليوم، والذي لازال المغاربة يعرفونه بهذا الاسم، حيت يتم إعداده بفتات الخبز، وإن اختلفت المكونات المضافة إليه، والتي لا تتجاوز إضافة البصل والفول والعدس والمرق إلى فتات الخبز، وقد كان من الأكلات التي كانت أمهاتنا تعدها في زمن مضى.

وقد يتساءل القارئ، لماذا هذا الاختلاف في إعداد طبق «الثريد»، بين أهل المشرق الذي أخدها عنهم فيما بعد أهل الأندلس وبين أهل المغرب، حيث أعد أهل المشرق والأندلس «الثريد» بفتات الخبز، في حين أعده أهل المغرب بأفخر أنواع الرغائف التي يتم إعدادها خصيصا لهذه الأكلة، بل وبطرق متعددة، كالتي أشار إليها مثلا بن رزين التيجبي صاحب كتاب ” فضالة الخوان” الذي أرخ للطبق بداية العصر المريني؛ بالقول “.. ثم تطوى (أي العجين) ويزاد فيها سمن ثم تمد أرق ما يمكن وتوضع في الطاجن.. ثم تزال وتضرب باليدين حتى ينفصل بعضها من بعض ثم تقطع في المثرد” ( ص 45 ).

وأما جوابنا عن السؤال السابق، فالأمر مرتبط أساسا بعادات اهل الجزيرة العربية في تدبير النذرة، في مجال جغرافي لا يزرع فيه القمح الا في مجال محدود جدا، وبالتالي يعتبر الخبز احد الاطباق المميزة؛ والتي لا نستغرب أن يعمدوا الى إعادة الاستافذة من بقاياه في إعداد «الثريد»، وهي العادة التي اصبحت متأصلة عندهم، حتى وهم ينعمون بثرف الحضارة أو الملك؛ كما أشرنا سابقا إلى ذلك عند الحديث عن الخليفة العباسي المستكفي بالله.

وذلك بخلاف أهل المغرب الذين كان ولايزال القمح جزء أصيلا من مكونات التغذية لشعوبه، وذلك من القديم . ” المغرب العتيق ” جيروم كركوبينو ص 64. حيث تفنن سكان هذه المنطقة منذ اقدم العصور في اعداد انواع مختلفة من الاطباق، و التي يدخل القمح ضمن مكوناتها الرئيسة ،واما الخبز وما يدخل تحت مسمياته، فقد اعدوه بطرق مختلفة يصعب الاشارة إليها في هذا المقال لتنوعها وتعددها، بل إن القمح بمختلف أنواعه؛ شكل جزء أصيلا من اقتصاد هذه المنطق منذ القديم ( تاريخ شمال أفريقيا؛ اصطيفان اكصيل ج 6 ص 10 ).

واما الطرق التي اعد بها المغاربة «الثريد»، كما أوردته اقدم كتب الطبخ التي وصلتنا، وهما كتاب انواع الصيدلة في ألوان الاطعمة أو الطبيخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين وكتاب فضالة الخوان لابن رزين التيجبي وهو كتاب عن الطبخ من العصر المريني؛ فقد أشارا الى طرق متعددة ومتنوعة، سواء في طريقة إعداده كما درج على ذلك اهل المغرب أو في طريقة تحضيره كما عرفه اهل الاندلس، أو في كلا العدوتين معا، حيث ثم إحصاء اكثر من خمسة عشر نوعا منه؛ كالثريد برؤوس العجول أو الثريد باللحم البقري والاكرنب الشتوي؛ أو الثريد باللحم البقري والقرع والباذنجان أو ثريد الفطير المصنوع بالدجاج وغيرها مما أورد صاحبا الكتابين، وهي طرق لا زال يحرص المغاربة على إعداد «الثريد» بها، وإن كان البعض منها يحتاج الى نفض الغبار عنه، حتى يكتشف المغاربة تنوع اطباق مطبخهم؛ بل وتنوع طرق إعداد الطبق الواحد منها، وهو عمل يحتاج الى جهد آخر، يجمع بين المادة التاريخية والإعداد العملي للطبق .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *