وجهة نظر

صرخة الأسر والحاجة إلى مساءلة وضعية قطاع التعليم الخاص

فجرت التطورات التي رافقت جائحة كورنا بالمغرب التوثر الذي كان مسكوتا عنه في العلاقة غير المتوازنة التي كان يعرفها قطاع التعليم الخصوصي بالمغرب بين أرباب مؤسسات التعليم الخصوصي وأولياء وآباء التلاميذ.

لقد فسح المغرب الباب على مصراعيه لسياسة الخوصصة والمبادرة الحرة في عدة مجالات مجتمعية حيوية، وفي مقدمتها مجالي الصحة والتربية والتعليم، من دون أن تواكبها تدابير عملية تحقق حكامة جيدة من جهة، وتضمن نظاما صارما وشاملا للحماية الاجتماعية، خاصة بالنسبة للأسر التي اختارت تمدرس أبنائها بالقطاع الخصوصي.

هكذا نعتقد أن جائحة كورونا لم تعمل إلا على إعطاء الفرصة ل”المكبوت”،في هذه العلاقة المختلفة وغير المتكافئة، إلى الظهور على صفحات وحيطان مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة.. ويوجد على رأس هذاالذي  كان في عداد “المكبوت” و”المسكوت عنه” مشكلة حادة مزدوجة تعاني منها الأسر المغربية التي توجد ما بين أسفل الطبقة الوسطى وأعلى الطبقة الفقيرة، إذ من الصعب تصنيفها بالفقيرة فقرا مدقعا، لكنها لا تتوفر على كل الشروط والمواصفات والإمكانيات التي تجعلها تنتمي إلى الطبقة الوسطى، التي تضيق دائرتها يوما بعد يوم، بسبب كثرة المتساقطين منها نظرا للانعكاسات السلبية لسياسات “تحرير السوق”المتبعة،والتي تحملت الفئات الدنيا من الطبقة “الوسطى” وحدها تكاليفها الباهضة.

هذه المشكلة المزدوجة تتمثل، من جهة أولى، في التدهور الكارثي للقدرة المادية لهذه الأسر، وتتمثل من جهة ثانية في فقدان الثقة في المدرسة العمومية.

ففقدان الثقة في المرفق العمومي التربوي والتعليمي يعد الدافع الأول الذي يجعل هذه الأسر تتحمل ما لا طاقة لها به من التكاليف المادية من أجل تمدرس أبنائها بمؤسسات القطاع الخصوصي. وقد سنحت ظروف الجائحة، والمشاكل التي رافقت مسألة التعليم عن بعد، إلى إثارة هذه المشكلة الخطيرة بطريقة قوية وحادة.

لقد كان المطلب الأساسي للأسر هو الإعفاء من الواجبات الشهرية لتمدرس أبنائها، خاصة وأن عملية التعليم عن بعد أضافت لهذه الأسر أعباء مادية إضافية غير قابلة للتأجيل، فالأسرة التي لم تكن تتوفر على الربط المنزلي بشبكة الأنترنيت قد اضطرت اضطرارا لذلك، والأسر التي كانت تعاني من ضعف صبيب هذه الشبكة وجدت نفسها مجبرة على تقويتها.. بالإضافة إلى شراء الحواسيب واللوحات والهواتف بالنسبة لمن كانت لا تتوفر على هذه الوسائل، وما يعنيه ذلك من إحداث ثقب في الميزانيات الشهرية المحدودة .

هذه الأسر التي كانت تعاني الأمرين بسبب تكاليف الواجبات الشهرية لتمدرس أبنائها، ومن رسوم التسجيل والتأمين الخيالية التي تفرضها المدارس الخاصة مع نهاية كل موسم دراسي، وجدت نفسها مطالبة بكل ذلك، بالإضافة إلى ما تحملته من أعباء مادية فرضتها فرضا ضرورات التعليم عن بعد.

يعلم الكثير من الآباء والأمهات أنهم لم يختاروا تمدرس  أبناءهم في خيريات ومؤسسات إحسانية، وإنما في مؤسسات يحركها بالدرجة الأولى هاجس الربح، ومن غير المتوقع أن “تتكرم” عليهم بأي هبة أو منحة أو إعفاءات مجانية، ولكن وجدوا الفرصة مناسبة لإطلاق صرخة قوية، لعلها تصل إلى آذان مختلف المتدخلين في الموضوع.

فهي صرخة في وجه مؤسسات التعليم الخصوصي، التي تقتات على غياب ثقة تلك الأسرة في المدرسة العمومية، في الوقت الذي لا تقدم فيه أية إضافة نوعية على مستوى جودة الخدمات التربوية والتعليمية المقدمة، والتي كشفتها عمليات التعليم عن بعد، حيث ظهرت جل المؤسسات الخاصة بعيدة كل البعد عن كل أشكال العقلنة الرقنية والعصرنة التواصلية، ودبرت “التعليم عن بعد” بوسائل متخلفة وبدائية في مجال التواصل والتربية والتعليم.

فقد كشفت ظروف الجائحة الفقر المدقع عند هذه المؤسسات في مجال التكوين الخاصة بأطرها في مجالات الرقمنة والتواصل والتفاعل، وفضح غياب أي أثر ملموس لمواد التواصل والبرمجيات والإعلاميات، التي تدعي أنها مدمجة ضمن برامها التربوية والتعليمية، على مستوى التلاميذ والتلميذات. إذ وجد عدد من الآباء أنفسهم مضطرين إلى تمرين أبنائهم على إتقان هذه التقنيات والتطبيقات، لأن نتيجة ما ادعت المؤسسات الخاصة في هذا المجال كانت صفرا على صفر.

وعلى ذكر تطبيقات التعليم عن بعد، فقد عرفت فوضى عارمة، إذ عوض عمل المؤسسات الخاصة على توحيدها وشراء حقوقها، تركت معظمها المجال للمبادرات الحرة للمدرسين، في جهل تام بالخلل الذي يسببه تعدد التطبيقات على ذاكرة الحواسيب واللوحات والهواتف.. الخ.

هكذا ظهر جليا ضعف استثمار هذا القطاع في مجالات حيوية وفي مقدمتها تكوين الأطر تكوينا عصريا يتيح لهم القدرات اللازمة لتملك تقنيات وتطبيقات التواصل الحديثة وما تتيحه من إمكانيات هائلة في مجال التربية والتعليم. كما كشفت الجائحة أن مستوى التلاميذ المتمدرسين بالقطاع الخاص لا يختلف عن مستوى زملائهم في التعليم العمومي فيما يتعلق بالتمكن من هذه التقنيات العصرية في التواصل والتعلم.

إنه، وبصرف النظر عن الجوانب القانونية المؤطرة لعلاقة الآباء بمؤسسات التعليم الخاص، والتي لا تخلو من التباسات وبياضات، فإن صرخة الآباء في وجه هذا القطاع تجد ما يبررها في طفيلية هذا القطاع وضعفه وغياب الإضافة النوعية المنتظرة منه على مستوى جودة الخدمات التربوية والتعلمية.

وإلى جانب القطاع الخاص، فإننا نعتقد أن موقف الأسر الرافض لأداء واجبات التمدرس صرخة في وجه سياسة الدولة في هذا القطاع، والتي ينقصها الكثير من الاجتهاد على مستوى التعامل مع الأسر التي أعفت الدولة من أعباء تمدرس أبنائها بالمؤسسات العمومية، من دون أن تفكر في سن تدابير تشريعية وضريبية واجتماعية تساعد هذه الأسرة على تحمل تبعات التمدرس بالقطاع الخاص.

ونعتقد أنه يتعين على كل من البرلمان والنقابات وكل الجهات المعنية أن تلعب الدور المطلوب في هذه القضية، خاصة وأن سياسة الخوصصة والتشجيع على المقاولة الحرة تعد اختيارا استراتيجية للدولة المغربية، ولا نعتقد أنها ستتراجع عنه تحت ضغط أي ظرف.

وعليه سيكون من المفيد لسياسة الدولة ضمان القدرة المادية للأسر والعمل على وقف تدهورها المستمر والحيلولة دون وصولها إلى درجة الانهيار التام من خلال سن سياسة اجتماعية متوازنةومنصفة، إذ لا يعقل أن تنفق هذه الأسر على قطاع التعليم مرتين، فهي تنفق، من خلال الاقتطاعات الضريبية المختلفة من مداخيلها، على المرفق العمومي، وفي الوقت ذاتها تنفق مما تبقى من أجورها على تمدرس أبنائها بالقطاع الخاص بعيدا عن أي تحفيزات أو تشجيعات مادية ملموسة من طرف الدولة.

إن تشجيع هذه الأسر وتحفيزها يعد تشجيعا للقطاع الخاص وللاستثمار النوعي فيه، من خلال مقاولات وطنية جادة ومسؤولة توفر البنيات الضرورية لتعليم خصوصي نوعي، وتضع حدا للاختلالات الكبيرة التي يعرفها هذا القطاع، بدءا بالبنايات والأقسام والساحات والتي لا تصل إلى مستوى الحد الأدنى من الشروط الصحية التي تتوفر عليها أبسط المؤسسات العمومية.

لقد آن الأوان لاستغلال ما تتيحه هذه اللحظة التاريخية من أجل وقفة جادة مع قطاع التعليم الخاص من أجل ضمان حقوق الأسر، وتجاوز الاختلالات القائمة في علاقاتها مع المؤسسات الخاصة، ووضع حد لفوضى العرض والطلب، سواء على مستوى واجبات التمدرس أو على مستوى الرسوم الخيالية للتأمين والتسجيل، والمقررات الأجنبية الباهضة الأثمان، ووضع قواعد تعاقدات واضحة وشفافة بين أرباب المدارس وآباء وأمهات تلاميذ هذا القطاع، بدء بالتنصيص على إلزامية تأسيس جمعيات الآباء بالمؤسسات الخاصة، وتوحيد واجبات التأمين وطنيا ووضع معايير صارمة لرسوم التسجيل، ومنع فرض المقررات الأجنبية منعا كليا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *