أدب وفنون، حوارات

الأديب العراقي القاسمي لـ”العمق”: الأدب الجيد يدور حول الميلاد والحب والموت (2)

الحلقة الثانية والأخيرة

يعتبر المفكر العراقي المقيم في المغرب الدكتور علي القاسمي، كاتبا متعدد الاهتمامات. فهو روائي وقاص وناقد ومترجم، إضافة إلى كونه أستاذا ً جامعياً متخصصاً في علم المصطلح وصناعة المعجم، وله اهتمام خاص بحقوق الإنسان والتنمية البشرية المستدامة.

بعد الجزء الأول الذي تحدث فيه عن جديد أعماله وعن سر اهتمامه بأعمال ارنست همنغواي، وقضايا الترجمة، يسلط الضوء في هذا الجزء الثاني من حواره لجريدة العمق، على البحث المصطلحي، وبروز الطفل في كتاباته، وقضايا النقد وسر إعجابه بمدينة مراكش..

حاوره عبد الغني بلوط

اشتغلتم بالبحث المصطلحي واشتهرتم به، إلى أين يسير هذا البحث في العالم العربي في ظل ما تجاذب  سياسي لا ينتهي؟

البحث المصطلحي في البلدان العربية بخير، فهناك في كلِّ بلدٍ عربي مجمع لغوي يقوم بتوليد المصطلحات العلمية والتقنية وغيرها، وهناك في الرباط مكتب تنسيق التعريب التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم / جامعة الدول العربية، يتولى تنسيق تلك المصطلحات وتوحيدها. وأصدر هذا المكتب أكثر من ستين معجماً موحداً لمصطلحات العلوم والتقنيات تشتمل على آلاف مؤلفة من المصطلحات، مثل: المعجم الموحد لمصطلحات الفيزياء العامة والنووية، والمعجم الموحد لمصطلحات الكيمياء، والمعجم الموحد لمصطلحات النفط، والمعجم الموحد لمصطلحات الأرصاد الجوية، والمعجم الموحد لمصطلحات الطب البيطري. إلخ. إلخ. إلخ.

وكل معجم يشتمل على المصطلحات الأساسية في ذلك العلم مع مقابلاتها الفرنسية والعربية، وأحياناً مع تعريفات المفاهيم التي تعبّر عنها تلك المصطلحات. أضف إلى ذلك أن عدداً من المنظَّمات والمؤسَّسات المتخصِّصة في العالم العربي تدعم البحث المصطلحي بإصدار معاجم في مجال اختصاصها، فالمنظمة العربية للزراعة مثلاً أصدرت معجما لمصطلحات الزراعة، ومنظمة الصحة العالمية ـ مكتب القاهرة ـ أصدر معجماً بمصطلحات الطب وتعريفاتها، يضم أكثر من نصف مليون مصطلح.

وأكثر من هذا فإن مكتب تنسيق التعريب يمتلك بنكاً للمصطلحات. وفي الحقيقة، كان المغرب العزيز من أوائل الدول في العالم التي أنشأت بنكاً للمصطلحات في السبعينيات من القرن الماضي، حينما أسَّس المرحوم أحمد الأخضر غزال، مدير معهد الدراسات والأبحاث للتعريب بالرباط آنذاك ،بنكَ المصطلحات في معهده، ثم أُنشئت بنوك المصطلحات في عدد من البلاد العربية.  فالعمل المصطلحي بخير. اسمح لي أن أضرب لك مثلا على ما أقول. في الشهر الأولى من جائحة ـ كوفيد 19 في العالم العربي، اضطلع مكتب تنسيق التعريب بالرباط بإصدار “معجم مصطلحات كوفيد 19” (إنجليزي ـ فرنسي ـ عربي)، مع تعريفات جميع المصطلحات الطبية المتخصصة باللغة العربية. فاللغة العربية تمتلك اليوم جميع المصطلحات العلمية والتقنية الأساسية اللازمة للتعبير عن أكثر الموضوعات تخصُّصاً علميا أو تقنياً.

ولكن ـ بيني وبينك ـ هذه الآلاف المؤلَّفة من المصطلحات، لا أعدّها أنا مصطلحات، وإنما هي مولَّدات، لأنها لا تُستعمَل . وما لم ينتشر اللفظ العلمي ويلقى قبولاً في الاستعمال الفعلي فهو ليس مصطلحاً بل مولَّداً عرضة للسبات أو الموت. مجرَّد مولَّدات في معاجم مرتَّبة على الرفوف. وهذا يُذكّرنا ببيت الشعر الساخر:

وعندَ الشيخِ كُتبٌ من أبيه … مسطَّرةٌ ولكنْ ما قراها

فالسياسة اللغوية في بلداننا العربية تحتّم تعليم العلوم والتقنيات بغير العربية، أي بلغة أجنبية. وطلابنا لا يستوعبون النصوص العلمية والتقنية باللغة الأجنبية، ولا تشكِّل مفاهيمها جزءً من منظومتهم المفهومية. وهذا بشهادة جمعية أساتذة كليات العلوم الذين يصرحون بخجل أنهم يدرّسون طلابهم باللغة الأجنبية مدة أربع سنوات أو أكثر، وبعد تخرجهم لا تستطيع أغلبيتهم الساحقة كتابة فقرة بسيطة بتلك اللغة (الاستثناء أولئك القلة من الطلاب الذين درسوا التعليم العام بمدارس أجنبية). وطبعاً، عذرُ أولئك الأساتذة أنهم أساتذة علوم وليسوا أساتذة لغة إنجليزية أو فرنسية، وهم على حق.

عندما كنتُ أعمل في مراجعة الترجمة العربيةلـ “تقرير التنمية البشرية” الذي يصدره سنوياً البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، قمتُ بدراسةٍ إحصائيةٍ بسيطةٍ على سُلّم التنمية البشرية الموجود في آخر التقرير الذي يقسم البلدان الأعضاء في الأمم المتحدة وهي أكثر من 180 بلدا، على ثلاثة أنواع:بلدان ذات تنمية بشرية عالية، ومتوسطة، ومتدنّية. فوجدتُ أن جميع البلدان ذات التنمية البشرية العالية، تستخدم لغاتها الوطنية في التعليم في جميع مراحله ومستوياته، مثل الدول الغربية واليابان والصين وكوريا وماليزيا وتركيا وإيران وغيرها؛ وأن البلدان ذات التنمية المتدنية تدرِّس العلوم والتقنيات بلغة أجنبية مثل معظم الدول العربية والإفريقية والهند وباكستان وبنغلاديش والفلبين وغيرها.

التدبير المصطلحي بخير في البلدان العربية، ولكنه جزءٌ من السياسة اللغوية التي تقرر مصير البلدان تقدماً وصعوداً أو تخلفا وهبوطاً. وهذه السياسة اللغوية في بلداننا تقتضي دراسة العلوم والتقنيات بلغة المستعمِر القديم: الإنجليزية أو الفرنسية. فلم يعُد قيمة للمصطلحات العربية التي تضعها المجامع العربية ويوحّدها مكتب تنسيق التعريب بالرباط. وهذا يؤثر على عالمية اللغة العربية، التي تقاس اليوم بكمية المحتوى الشابكي لكل لغة (أي كمية المادة المتوافرة في الشابكة ـ الإنترنت ـ بتلك اللغة). فاللغة الفارسية اليوم تتقدَّم في هذا المقياس على اللغة العربية، لأن الطلاب الإيرانيين يدرسون العلوم والتقنيات باللغة الفارسية ويستطيع معظمهم إنشاء مواقع شابكية في تخصُّصهم، فتنتشر المعرفة في البلاد. أما طلابنا العرب فلا يستطيعون التعبير عن معلوماتهم باللغة العربية، لأنهم درسوا تلك المعلومات بلغة أجنبية لا يتقنونها ولا يستطيعون التعبير بها بسهولة وطلاقة. فتبقى معرفتهم الضئيلة محصورة فيهم ولا يشاركون في التنمية البشرية لبلدانهم. التنمية البشرية تتطلب من الطبيب، مثلاً، أن ينقل معرفته وخبراته إلى الممرضة والمساعد الطبي والمريض وجميع المواطنين الآخرين.

موضوع الطفل بارز في كتاباتكم، برأيكم هل نال هذا الموضوع الاهتمام المستحق في الإبداع على المستوى العربي؟

صحيح أن لي كتابيْن حول الطفل: أحدهما قصة طويلة ” عصفورة الأمير: قصة عاطفية من طي النسيان للأذكياء من الفتيات والفتيان”، لأن هذه الفئة العمرية من الأطفال ( بين السنة الحادية عشرة والخامسة عشرة من العمر)، لا تجد كثيراً من القصص المناسب لها. وكتابي الثاني هو للأساتذة وعنوانه ” لغة الطفل العربي: دراسات في السياسة اللغوية وعلم اللغة النفسي”. وصدر الكتابان عن (مكتبة لبنان ناشرون) في بيروت. ولكن هاذيْن الكتابيْن لا أثر حقيقي لهما في خدمة الطفل.

فخدمة الأطفال الحقيقية تكمن في النظام التعليمي الإلزامي الجيد الذي يستوعب جميع الأطفال، ويطلق مواهبهم الكامنة. فهو نظام يحقق العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص بين الأطفال، فينفع الأمة بالكشف عن الأطفال الموهوبين لتسنُّم قيادة المؤسسات الإنتاجية في البلاد فيعمُّ الرفاه. بيدَ أن نظام التعليم في بلداننا العربية نظام طبقي لا يحقق تكافؤ الفرص بين الأطفال ولا يؤدي إلى التماسك الاجتماعي في البلاد. فهذا النظام يتكوَّن من أربعة أنواع من المدارس تكوِّن مواطنين بعقليات مختلفة. وأنواع المدارس هي:

أـ المدارس الأجنبية التي تملكها دول أجنبية وتدرِّس منهجاً أجنبياً، وتفرض أجوراً باهظة لا يطيقها إلا أبناء رجال السلطة أو الأغنياء.  وعلى الرغم من أنها حسب الاتفاقات تلتزم بتدريس المنهج الوطني، فهي لا تفعل ذلك. وخريجو هذه المدارس يشعرون بالاغتراب في بلدانهم، فيهاجر معظمهم إلى البلدان الذين تربوا على ثقافتها. ومَن يبقى منهم هو الذي يتولى المراكز القيادية في المؤسسات الوطنية، لأن البلدان العربية تستعمل اللغة الأجنبية في المؤسسات العلمية والتقنية والاقتصادية والمالية كالبنوك والشركات.

ب ـ المدارس الحرة / الأهلية / الخاصة: وهي تدرس المنهج الوطني مع عناية خاصة باللغة الأجنبية، وتتقاضى أجورا تطيقها الطبقة المتوسطة بشقِّ الأنفس، وخريجو هذه المدارس يعملون عادة مساعدين لخريجي النوع الأول من المدارس، لأن الكفاءة في العمل تعتمد على إتقان اللغة الأجنبية بالدرجة الأولى.

ج ـ المدارس الحكومية: وهي تدرِّس المنهج الوطني، ولكنها سيئة التجهيز، فلا تتوفَّر على مكتبات ولا مختبرات ولا ملاعب رياضية مناسبة، ويكثر فيها غياب المدرسين والتسرب المدرسي. وهي لا تستوعب جميع الأطفال. فكثير منهم يبقى بلا تعليم. وعلى الرغم من أن هذه المدارس تخصّص ساعات أسبوعية للغة الأجنبية أكثر بكثير من الساعات المخصصة للغة الوطنية، فإن الأكثرية الساحقة من الأطفال لا يستطيعون التواصل باللغة الأجنبية بعد إنهاء الدراسة الثانوية. ومعظم المنتسبين لهذه المدارس يواجهون البطالة، ويبقى أملهم في الهجرة بقوارب الموت إلى الغرب بحثاً عن إنسانيتهم.

د ـ مدارس التعليم الأصيل: وهي استمرار مع تطوير جزئي للمدارس الدينية القرآنية.

وهذا نظام تعليمي تنفرد به البلدان العربية. قد توجد مدارس أجنبية في بعض الدول المتقدِّمة، ولكن الحصول على وظيفة حكومية  ـ حتى لو كانت في السلك الدبلوماسي ـ يعتمد أساساً على إتقان الموظف للغة الوطنية وثقافة بلاده، لا اللغة الأجنبية وثقافة أهلها.

غالبا ما نسمع في الندوات والمؤتمرات الفكرية عن تراجع النقد الأدبي في العالم وأثر ذلك على المستوى العربي، إذا كان ذلك صحيحا إلى ماذا تعزون هذا التراجع، وما هو دور النقاد أنفسهم لعودة الروح إلى النقد أم الأدباء يمكنهم أن يضمنوا أعمالكم نقدا كما فعلتم أنتم في عدد من مؤلفاتكم؟

إذا كان ما تفضلتم به صحيحاً، فمردّه إلى أن هذا العصر هو عصر العلم والتقنيات، وليس عصر الأدب والنقد.

ولكن الأدب بمختلف أجناسه وأنواعه متخلِّف في بلداننا لعدّة أسباب:

ـ إن الأدب جزءُ من ثقافة البلاد. والبلاد المتقدّمة ذات ثقافة متطورة، فيغلب ازدهار الأدب فيها.

ـ إن الإبداع الأدبي يُدرَّس في جامعات البلدان المتقدّمة.  فتقنيات كتابة القصة، أو الشعر، لها دروس خاصة في الجامعات الأمريكية مثلاً، يُعطيها كُتّاب أو شعراء مشهورون حتى لو لم يكونوا قد حصلوا على الدكتوراه، وهذا هو الاستثناء الوحيد في تعيين أساتذة الجامعات.

ـ إن الأدب ينتعش ويتطور إذا كان ثمة أدباء محترفون. وفي بلداننا لا نجد أدباء محترفين. كلنا هواة نعمل في التعليم أو الصحافة أو غيرهما ونزاول الإبداع في أوقات فراغنا بحسب أحوالنا. أما في فرنسا، مثلاً، يتمتع المبدعون، من رسامين وأدباء، برعاية الدولة، وهناك مؤسّسات توفّر السكن والأكل والمكتبة لمن يريد التفرغ سنة أو أقل لإنجاز كتاب في النقد، أو الرواية أو البحث. وقد زرت أحد هذه المساكن الفرنسية التي تقدم خدماتها لأصحاب الإبداع ذي العلاقة بالثقافة الفرنسي، بالقرب من مدينة مراكش على طريق اوريكة.

ـ إن الصحافة الغربية تفرد مجلات وجرائد متخصِّصة بالأدب والنقد. وحتى الصحف السياسية اليومية تخصِّص صفحات كثيرة للأدب وفيها حقل لمراجعة الكتب الجديدة ونقدها. وإذا ألقينا نظرة على الصحف العربية نجد أنها ـ في معظمها ـ تخصص أربع أو خمس صفحات للرياضة البدنية خاصة كرة القدم، ولا تخصص إلا صفحة أسبوعية واحدة للنقد.

وعلى الرغم من كل ذلك، فأنا أجد النقد الأدبي في المغرب العزيز يواكب المقاربات النقدية العالمية، عن طريق الترجمة المتواصلة. والأدباء في المشرق يستفيدون كثيراً من الدراسات النقدية المغربية المزدهرة.

فرضت جائحة كورونا نفسها على العالم، وفي مجال الإبداع ظهرت كتابات اعتبرت “متسرعة” حولها، في نظركم، هل يمكن أن نقبل من المبدع “منجزا قابلا للاستهلاك الظرفي”، أم يجب أن ننتظر نضج الشروط الذاتية والموضوعية للإقبال على الكتابة في هذا الموضوع؟

في طفولتي، علّمني والدي أن الأدب الجيد يدور حول مواضيع رئيسة ثلاثة: الميلاد،  والحب، والموت.

وأحسب أن الإبداع الرفيع هو الذي يستطيع أن يرقى بالحدث مهما كان صغيراً محدوداً إلى سماوات الخيال الشاسعة. والإبداع الفاخر لا ينحصر في المكان والزمان إلا إذا كان ذلك من أغراضه، كما نجده في الرواية التاريخية مثلاً.

بصفتكم مفكرا عراقيا مقيما في المغرب، وعلى اطلاع بالثقافة المشرقية والثقافة المغربية، ما هي ميزة كل ثقافة، أين تلتقيان وأين تختلفان؟

في علم الاجتماع، تُعرَّف الثقافة بأنها مجموعة الأعراف والمعارف والقيم والسلوكيات الاجتماعية السائدة في مجتمع ما ويتوارثها أبناؤه جيلاً بعد جليل، وهي ككل شيء آخر قابلة للتراكم والتطور.

وفي كل ثقافة كبرى،ت وجد ثقافات فرعية متعدّدة. وهذه الثقافات الفرعية قائمة على أساس جغرافي، أو مهني، أو لغوي، أو طبقي أو غير ذلك. فإذا كان أبناء البلد الواحد يشتركون في ثقافة واحدة تطبع تفكيرهم وشعورهم وسلوكهم بشكل عام، فإن الثقافات الفرعية لها خصوصيات وميزات. فإذا قلنا إن الثقافة الفرنسية تسود في فرنسا، فإننا ينبغي أن ندرك أن هناك ثقافات فرعية جهوية أو لغوية مثل الثقافة الألزاسية، والثقافة الباسكية، والثقافة البريتونية، إلخ، وهناك ثقافات فرعية مهنية، مثل الثقافة الزراعية، والثقافة الصناعية، والثقافة العسكرية، إلخ.، وهكذا.

والثقافة العربية الإسلامية كذلك، هي إحدى الثقافات العالمية الكبرى. وتشكل الثقافة المشارقية والثقافة المغاربية ثقافتين فرعيتين فيها. ولكن ينبغي التنبيه هنا أن لفظ ” العربية” في مصطلح ” الثقافة العربية الإسلامية”، لا يدل على عرق أو جنس بشري مخصوص وإنما يدل على ثقافة. فإذا قلنا الثقافة العربية الإسلامية في العراق أو المشرق، لا يعني ذلك أن الناس هناك جميعهم من جنس العرب، فنحن نجد فيهم الآشوريين والسريان والأرمن، وأغلبيتهم من المسيحيين. ولكن ذلك يعني أنهم يشتركون في أعراف ومعارف وسلوكيات الثقافة العربية الإسلامية. وكان الرسول (ص) هو الذي نفى صفة الجنس والعرق عن الثقافة العربية الإسلامية بقوله: “ليست العربية بأب لأحدٍ منكم أو أمّ، وإنّما هي اللسان، فمن تكلَّم العربية فهو عربي”، أي فهو عربي ثقافة لأن اللغة هي عنصر الثقافة الأساسي الذي تنتقل بواسطته الثقافة وتتراكم وتُتوارث. (وقد علمني ذلك شيخي المرحوم العلامة المغربي عبد العزيز بنعبد الله).

وجواباً على سؤالك الكريم، أقول إن الثقافتين الفرعيتين المشارقية والمغاربية يلتقيان في الخصائص الرئيسة للثقافة العربية الإسلامية، ولكل منهما خصوصياته وميزاته التي أفرزتها العوامل الجغرافية والتاريخية والبشرية. وإذا قرأتَ روايتين أحدهما مصرية والأخرى تونسية، سترى أنهما نابعتان من ثقافة كبرى واحدة، مع خصوصيات فرعية لكل منهما.

وعندما ينتقل الإنسان من ثقافة إلى أخرى يُصاب بالاغتراب الذي هو أشد من الغربة. وتتفاوت درجة شدته من فرد إلى آخر حتى يمسي عند بعضهم مرضاً يسمّى بالحنين إلى الوطن Home sickness/Mal du pays، وهذا ما أصابني بعد أن أنهيت دراستي في الولايات المتحدة الأمريكية. ولما لم يكن بمقدوري الرجوع إلى العراق، تشرَّفتُ وسعدتُ بالقدوم إلى المغرب، وقد ذكرت ذلك في روايتي السير ذاتية ” مرافئ الحب السبعة” حين قلت:

“وصلتُ إلى الرباط، مدينة جديدة كل الجدة عليَّ.  لم أرَها من قبل، ولم أَخْبُر دروبها، ولم أعرف أزقَّتها، بل من السهل أن تضيع خطواتي فيها. ولكن شيئاً ما في هذه المدينة جعلني أشعر أنها ليست غريبة. فوجوه أهلها تحمل ملامح وجوه أهل بلدتي. وصوامع جوامعها ينطلق منها ذات الأذان الذي كنت أسمعه في منزلي منذ طفولتي، وأزياء أهلها قريبة من أزياء أعمامي وأخوالي.  أليس هذا ما كنتُ أبحث عنه بلسما لمرض الحنين إلى الوطن الذي أصابني في أمريكا؟”

ذلك الشيء الذي أسعدني في الرباط هو عناصر الثقافة الكبرى المشتركة، وخصوصيات الثقافة الفرعية المغربية هي التي جذبتني أكثر، فشعرتُ أنني بين أهلي وأصحابي.

مراكش مدينة تاريخية بأبعاد حضارية وجمالية، غالبا ما تصفون هذه المدينة في أحاديثكم، ما الذي جعلكم تكنون هذا الود للمدينة الحمراء؟

مراكش مدينة جميلة ذات حضارة عريقة متميزة في العالم. وجميع الحواضر المغربية الكبرى: فاس، طنجة، مكناس، الدار البيضاء، الرباط، تطوان، مدن جميلة رائعة لها خصوصياتها المتميزة.

لقد زرتُ مدناً كثيرة في العالم، ولكني وجدتُ مراكش أجملها طبيعة، وأصحّها هواء، وأعذبها ماء، وأكرمها أُناساً. وهذا ما أخبرني به كذلك صديقي المرحوم عبد الكريم غلاب، شيخ الأدباء المغاربة، الذي زار أغلب عواصم العالم بحكم عمله الصحفي.

ماذا تعني لكم هذه الكلمات؟

الحب.. هو أن تحب المكان الذي تعيش فيه وتحب أهله، لتكون سعيداً.

الغربة.. الغربة غربتان: جسدية وفكرية، والأخيرة أشد.

الإبداع.. الإبداع ملاذ من الغربة.

الأمل .. لا حياة بلا أمل.

الموت.. الموت بداية حياة.

علي.. طالبُ علم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *