وجهة نظر

موقع مائة بير: مساهمة انتروبولوجية

“وهكذا يكون الغزو البرتغالي قد خرب دكالة وتركها على حالة لا تسمح لها بالانتعاش السريع”  أحمد بوشرب: دكالة والاستعمار البرتغالي إلى سنة إخلاء آسفي وأزمور (قبل غشت 1481 ـ أكتوبر 1541 ) ( الدار البيضاء، الشركة الجديدة دار الثقافة، الطبعة الأولى 1984 ) ص: 452

“مدينة مائة بير في دكالة” هي قرية صغيرة واقعة على ربوة كلسية، في خارجها عدة مطامير تعود الناس أن يخزنوا فيها حبوبهم. يقول سكان هذه البلاد بأن القمح يحفظ في هذه المطامير مائة سنة دون أن يفسد أو تتغير رائحته.

ولكثرة هذه المطامير التي تشبه الأبيار سميت هذه المدينة مدينة مائة بير. والسكان فيها قليلون جدا، لأنه لا يوجد فيها اي صانع باستثناء بعض الحدادين اليهود. وفي الوقت الذي نقل ملك فاس سكان المدينة إلى الإقامة بأرضه أراد أن ينقل أيضا سكان مدينة بير لكنهم رفضوا هذا الانتقال وفروا إلى آسفي حتى لا يتركوا أرضهم. ولما رأى الملك ذلك نهب مدينة مائة بير فلم يجد غيها غير الحبوب والعسل والأشياء الثقيلة التي لا قيمة لها ” الحسن بن محمد الوزان الفاسي المعروف بليون الإفريقي: وصف إفريقيا ، الجزء الأول، ترجمه عن الفرنسية: محمد حجي ومحمد الأخضر(بيروث ، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1982 )ص: 153 /154

موقع مائة بير هي من المواقع الهامة التي كانت موضع صراع بين المغاربة والبرتغاليين بعد احتلالهم لمدينة آسفي ومدينة أزمور بداية القرن السادس عشر. ذلك أن البرتغاليين قد احتلوا آسفي حوالي 1508 وأزمور حوالي سنة 1513، وبعدهما بقليل احتلوا مازاغان 1514 .وما بين هذين المدينتين (أزمور، آسفي) كان مسرحا لكل ما يمكن تصوره من مآسي سببها الاستعمار البرتغالي لدكالة. فمن استغلال للموارد الاقتصادية بكل أنواعها وخصوصا الفلاحية منها، إلى جعل مناطق دكالة سوقا مربحا لتجارة الرقيق سواء بصيد الناس واختطافهم عنوة، وخصوصا منهم الأطفال والنساء، أو استغلال فترات الفاقة من أجل دفع السكان إلى بيع أنفسهم وأهليهم.

ومع ذلك وبالرغم من الفترة القصيرة لتواجد البرتغاليين فقد استطاعوا أن ينسجوا علاقات ، في أغلبها ، ذات طابع تجاري مع القرى والقبائل والدواوير الموجودة بالشريط بين أزمور وآسفي وحتى أحواز مراكش. لقد كان الاستعمار البرتغالي أسوأ احتلال للمغرب عرفه البلد لحد ذلك التاريخ. ولولا المقاومة المستمرة والوقوف البطولي للمغاربة لوصل البرتغاليون إلى الأغراض التي جاؤوا من أجلها إلى المغرب وهي التمسيح، بتشجيع الكنيسة وتمويلها، وأيضا الاستغلال الاقتصادي والسياسي. ورغم أن قدرات المقاومة كانت محدودة في ذلك التاريخ، ومع ذلك فإن حركة المقاومة قد أفشلت خطط الاحتلال البرتغالي الذي اضطر إلى الانسحاب بعد المكوث في آسفي لمدة ثلاثة وثلاثين سنة وفي أزمور لمدة ثمانية وعشرين سنة، ولهذا كان جلاؤهم عن الثغرين وقبلهما عن ثغر أغاديرـ سنة 1541. ومع هذا فقد بقي ثغر مازاغان محتلا لمدة قرنين بعد ذلك.

كيف وقع كل هذا؟ كانت الدولة المغربية في أقصى درجات ضعفها. لقد تزامن هذا مع أحداث سياسية لم يشهد لها تاريخ المغرب مثيلا. ومنها على الخصوص:
ـ نهاية الدولة المرينية والتي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة.

ـ ضعف دولة بني وطاس التي عجزت عن توحيد المغرب وقضت فترتها في صراعات لا تنتهي سواء مع المرينيين أو مع الشرفاء السعديين أو مع الإمارات المستقلة، زيادة على خروج أكثر القبائل عن السلطة المركزية. وهذا يعني أن الوطاسيين كانوا أعجز عن مواجهة القوة البرتغالية الصاعدة والمتحمسة إلى التوسع والفتح ونشر المسيحية بعد النهاية المأساوية لآخر دولة إسلامية بالأندلس.

ـ استسلام الحكم الاسلامي بالأندلس بسقوط غرناطة وبداية محاكم التفتيش ومحاولة الاسبان والبرتغاليين الإجهاز على المسلمين أينما كانوا بحماسة المنتصر.

ومع ذلك، وبالرغم من التواجد القصير بدكالة، فقد استطاع البرتغاليون أن ينسجوا علاقات مع القرى والمواقع ومع بعض القبائل المتواجدة في الشريط بين أزمور وآسفي وحتى أحواز مراكش، وهذا عن طريق السياسة تارة وعن طريق الغزو في أحيان أخرى. وعند الكلام عن الغزو فيجب أن نتصور عمليات الهجرة الطوعية والتهجير والاستغلال البشع للثروات الذي عرفته المنطقة من طرف البرتغاليين. حتى إنه ومع انتهاء الاحتلال البرتغالي وجدنا أنفسنا أمام منطقة تفتقد لمقومات التقدم والنهوض ولنزيف ديمغرافي كبير.

تزخر منطقة دكالة وإلى اليوم بالآثار التي تشهد على الحضور البرتغالي، غير كثيرا من هذه الآثار أصابها الاندثار لعوامل كثيرة و منها عدم الاهتمام وعدم القدرة على جعل هذه الآثار مزارات سياحية قد تسد بعض متطلبات التنمية بالمنطقة.

أشار الأستاذ بوشرب إلى موقع مائة بير عدة مرات في كتابه، ولهذا دلالة تاريخية هامة باعتبار أن هذا الموقع كان عامرا ومكانا تجاريا تروج فيه السلع المتداولة في ذلك الوقت وأهمها المنتوجات الفلاحية. وبمراجعة التعريف الذي قدمه الحسن الوزان نعرف على التقريب مكان هذا الموقع الذي انتهى أمره مع خروج البرتغاليين ومع النزوح الكبير الذي عرفته المنطقة آنئذ. إنه قريب من تيط أي أنه يبعد بمسافة ليست كبيرة عن مدينة الجديدة الحالية ولعله في محيط ما يعرف الآن بالجرف الأصفر وفي دائرة قد لا تكون بعيدة. أما من حيث التسمية فإن الحسن الوزان يعتقد أن الأمر يتعلق بمطامير لخزن الحبوب التي تدوم كثيرا في هذا الموقع. وأعتقد هنا أن الحسن الوزان لم يزر المكان وإنما سمع به. ولهذا أرجح أن الأمر يعود إلى مائة بير حقيقية. زيادة على هذا فإن القول بأن مائة بير هو عبارة عن مطامير لا يستقيم بالنظر إلى ثقافة المكان ، فهنالك فرق كبير بين الآبار والمطامير ومن الصعب أن يستعمل إسم للاشارة إلى معنى آخر.

هنا سأنطلق في افتراض جغرافي وتاريخي من خلال إشارات أنتروبولوجية لها أهمية كبرى، وشغلتني لمدة طويلة لم أجد الوسائل ولا الوثائق ولا الإمكانيات البحثية لطرحها. غير أني سأقدمها هنا كافتراض يحتاج إلى بحث من طرف مختصين في التاريخ والآثار.

أنطلق من هذا الافتراض لكوني ابن المنطقة بل إني ابن الموقع الذي أفترض أنه قد يكون المكان الذي سمي بمائة بير، والذي يقع على مسافة ثلاثين كلمترا جنوب الجرف الأصفر وعشر كيلومترات غرب سيدي اسماعيل. إن ما يوجد في هذا المكان مثير فعلا للدهشة.

1 ـ الموقع: مدخله هو من الطريق الرئيسية رقم 1 ، ست كيلوميترات في اتجاه سيدي اسماعيل، على الطريق القروي المنطلق من مجموعة مدارس سيدي اسماعيل، وعلى بعد ست كيلوميترات على هذا الطريق القروي.

2 ـ كان الناس قديما يسمون هذا المكان بالقرية. وهو دوار العيايدة الآن.

3 ـ كان جدي من أبي وكذلك من أمي وهما رجلان متفقهان وحاملان للقرآن يحكيان أنه كان بالمكان مائة بئر. وفي صباي وأنا طفل أواخر الخمسينات عرفت وجود عدة آبار بها ماء( ثلاثة على الأقل) ولكل واحد منها أسم مع وجود حفر أخرى لآبار انهدمت. ويسمى المكان بالمحابيب.

4 ـ يوجد بالمكان الذي سمي بالقرية مساكن تحت الأرض مبلطة ويتصور أنها كانت صالحة للسكنى لأن التبليط والجير الذي يزينها لا يزال موجودا إلى الآن. وأعرف الكثير منها وأنا طفل، بل أني أستطيع إلى الآن أن أحدد مكانها رغم أن أصحاب الأراضي الآن قد أغلقوها. وأنا شخصيا أملك واحدة منها لا أزال أحافظ عليها كما هي لكل غرض مفيد. كان آباؤنا يستعملونها لخزن الحطب والثبن( كانوا يسمونها: الجالا، أو : التوفري).

5 ـ أتذكر أننا كثيرا ما كنا نجد قطعا نقدية وبكثرة بالمكان ونحن صغار وكذلك بقايا أوان فخارية. وحتى التربة كانت شبه رمادية أي أن المكان كان عبارة عن سكنى فيما أفترض.

6 ـ عرف المكان بتواجد شكل آخر للسكنى وهو التوازيط( جمع تازوطة) ، وكان يستعمل للسكنى وكذلك للتخزين.

7 ـ ما عرفه الناس من السكنى مما يحكى لنا ولفترة قريبة هو الخيام أما النوالة فنحن نعرف أنها الشكل السكني الغالب هنالك ، وبالنسبة للبناء فقد كان ناذرا حسب ما عايشنا. وهذا يدل على أن المنطقة لم تكن منطقة استقرار وهو ما يؤكد ما ذهب إليه المؤرخون مثل الأستاذ بوشرب بأن دكالة قد هجرت من سكانها إثر الغزو البرتغالي.

8 ـ أما بالنسبة للمطامير فنحن نعرف أن بعض الأماكن هناك تستعمل وإلى الآن لخزن الحبوب لمدة طويلة ، ولا تزال تستعمل إلى اليوم و أعرف بناية كنا نلعب على جدرانها ونحن صغار لا تنتمي إلى النسق السكني كما وصفته ، وحسب ما أتذكر فإنها تشبة بناية بقايا معمار برتغالي.

9 ـ بما أن البرتغاليين قد استمروا في احتلال مازاغان فإنه من الممكن أن هذا المكان كان يستعمل من طرفهم حتى بعد مغادرتهم آسفي وأزمور.

يعتمد الافتراض الذي قدمته والذي أنطلق فيه من معطيات تعود إلى أواخر الخمسينات وبداية الستينيات مما أعرفه بدقة في وقت كان المكان يعيش وضعا بدويا متخلفا جدا عند خروج الاستعمار الفرنسي. فسواء فيما يخص عيش الناس أو محيطهم التجهيزي أو حالة لباسهم أو سكناهم أو سلوكهم اليومي ، كل هذا كان في حالة شديدة البداوة وكأن الزمن كان متوقفا . وفي مثل هذه الأوضاع يمكن معرفة الماضي البعيد من خلال ما هو موجود ، ومثل هذه المظاهرهو ما اعتمد عليه الأنتروبولوجيون الفرنسيون خصوصا وهم يمهدون للاستعمار الفرنسي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

قد يكون هذا الافتراض صحيحا وقد تكون مثل هذه المواقع متعددة بالمنطقة خلال الاحتلال البرتغالي ، ويعتمد هذا على الاستقرار بالأماكن التي يوجد بها ماء مثل الموقع المعني بافتراضنا.

لا ادعي هنا تقديم أية حقيقة تاريخية ثابتة ولكني مع ذلك أدعو المهتمين بتسجيل هذا الموقع في المواقع التي تحتاج إلى بحث إذا كان هذا مفيدا للبحث التاريخي والأثري.

* أستاذ للفلسفة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • غير معروف
    منذ 4 سنوات

    هناك دوار يسمى البريكات بالجماعة الترابية اولاد احمدان باقليم الجديدة يوجد به موقع جغرافي يسمى " مائة بئر" وهو الان عبارة عن ابار قديمة غير مستعملة.