وجهة نظر

التربية والتعليم عن بعد

مباشرة بعد انطلاق الحجر الصحي ببلادنا وتوقيف الدراسة إثر انتشار فيروس كوفيد -19؛ بدأت تتقاطر المقالات والدراسات والمخاوف بسبب اعتماد التعليم عن بعد وأثاره السلبية على الأطفال وكيف أنه سيعمق الفوارق الاجتماعية وسيحرم العديد منهم من حقهم في التمدرس الجيد القائم على تكافؤ الفرص؛ وهو أمر قد لا يختلف عليه اثنان؛ لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح:

ألم تكن هذه الفوارق عميقة بالأصل في ظل “التعليم الحضوري”؟ أم أن لون المريلة الموحد والحضور اليومي هما الضامن للعدالة وتكافئ الفرص داخل فصول المدارس المغربية؟ ولماذا أوجزنا كل مخاوفنا من التعليم عن بعد وعلله في الفوارق الاجتماعية فقط؟ أليست له أثار سلبية أخرى على المتمدرسين الذين لم يتلقوا تدريبا جيدا متعلقا بطرق استعمال الأجهزة ومخاطرها الجسدية والنفسية والأمنية؟ وبالمقابل أليس له حسنات تتجاوز فعل الإنقاذ الآني لسنة دراسية كانت على وشك الانتهاء؟ لكن السؤال الأهم من وجهة نظرنا هو أين ومتى سقطت التربية وفصلت عن التعليم في ربكة التعامل مع الجائحة؟

أسئلة كثيرة هي تلك التي تمخضت عنها تجربة التدريس عن بعد لكن الأكيد أنه شكل يقظة فكرية واجتماعية حول المدرسة ومحتواها المعرفي والتربوي وأطرها وروادها ؛ في حين كان الجميع يطالب بمزيد من العصرنة والحداثة والرقمنة والمواكبة التكنولوجية للمدرسة المغربية ؛ وفي الوقت الذي كانت المدرسة تطالب بمزيد من الاهتمام والتواصل من طرف الأهل والأولياء ؛فرضت قوانين الجائحة التعليم عن بعد كنموذج وحل مؤقت مازال قيد البناء و الدرس والتطوير ليشكل في حال نجاحه لبنة أساسية وفارقة في مجال التعليم في بلادنا خاصة إذا ما استطاع أن يتدارك دهشة اللحظة الأولى ؛ لكن الأكيد حتى هذه اللحظة أنه استطاع أن يجمع الفاعلين التربويين وشركائهم في غرفه ومجالسه الافتراضية وأن يجلس الأباء والأولياء قرب أبنائهم ليشاركوهم بناء تعلماتهم وليلمسوا عن قرب معاناة الأساتذة لضبط السلوكيات قبل بناء المفاهيم وتصحيح التمثلات ؛ وبالمقابل فتح التعليم عن بعد أبواب الفصول الدراسية الافتراضية على مشراعيها لملامسة مدى جدية وتفاني وابداع بعض الأساتذة وتقاعس وتجاهل البعض الأخر الذي تذبذب ما بين التراخي والعشوائية وانصاع للأمر من منطلق التخلص من واجب ثقيل سواء أكان عن قرب أو عن بعد ؛ كما أنه وضع اليد على مكامن القوة والضعف في المنظومة خاصة منها ما تعلق بتكوين الأساتذة تكوينا يمكنهم من امتلاك مفاتيح التنمية الذاتية ومهارات التواصل الفعال .

لكن الحديث عن التعليم يبقى حديثا غير مكتمل والجهد المبذول فيه جهد ناقص مادام قد فصل عن التربية ولربما كان السبب الأوضح هو فجائية الوضع وسرعة التدخل بحيث تم التركيز بشكل كبير في بداية التجربة على إنقاذ السنة الدراسية وانهاء البرامج التعليمية في وقتها المحدد وإن كان هذا ليس بالسبب المكره الذي يسقط التربية من حسابات الفاعل التربوي؛ أليست التربية والتعليم وجهان لمعول بناء الطفل -الإنسان المغربي؟ فلم إذن لم تحض بالاهتمام والاستمرارية التي حظي بها التعليم؟ قد يجيب البعض بأن منظومة تربوية وتعليمية تعاني في الأصل مشاكل عديدة – فاقمتها جائحة كورونا- تحاول التوازن وعدم السقوط؛ من الجحود والتعجيز مطالبتها بإتقان الرقص على إيقاع تجارب دول قطعت أشواطا متقدمة في هذا المجال؛ لكن حتى هذا التبرير على معقوليته لا يعفيها من بذل الجهود لمواصلة مهمة التربية الملقاة على عاتقها ؛ وهي ليست أبدا المنظومة او المؤسسة الوحيدة التي عليها أن تصاب بالهلع أيضا لتوقف العملية التربوية كما أصيبت به لتوقف العملية التعليمية ؛ من حيث حرص التربية على إدراك الانسان وإعداده لمواجهة الآفات التي يمكن أن تعترض طريقه ونجاحه في تصنيع الحياة ؛لذا يتوجب اليوم على القطاعات والمؤسسات المعنية والمهتمة والشريكة في فعل التربية وبناء الفكر التربوي أن تتكاثف وتوحد الجهود سواء تعلق الأمر بقطاع التربية والتعليم أو بقطاع الثقافة والاتصال والشباب والرياضة أو بغيرهما من مجتمع مدني وفاعلين تربويين ؛ لاسيما أن ظروف الحجر الصحي وتغير العادات اليومية الصحيحة والصحية للأسرة عامة وللأطفال بشكل خاص ؛ يفرض مواكبة تربوية بل وحتى نفسية هامة لهم .

وإذا كانت التوصيات تملي على الأباء والأمهات ألا تتجاوز ساعات الدراسة اليومية أربع ساعات ونصف؛ فبما سيملأ هؤلاء الأطفال الزمن المتبقي من يومهم ووقت فراغهم؟ ألا يحتاجون لبرامج تنشيطية وتربوية تمتص قلقهم النفسي الذي تزيد تعميقه بعض الأسر إما بترديد الشائعات حول الجائحة على مسامع الصغار؛ أو بالانغماس في توافه العادات كإدمان الألعاب التي ترفع من درجة التوتر والضغط النفسي ومشاهدة المسلسلات الرديئة والكسل وكثرة الأكل وغيرها؟ مما قد يوقعهم في أمراض نفسية كالاكتئاب والخوف أو جسدية كالسمنة ألا يجب أن يصاب الفاعل التربوي من الهلع خوفا من ضياع القيم التربوية والأخلاقية والوطنية للأبناء بسبب طول المدة التي أصبحوا يقضونها وهم جالسون أمام الحواسيب والهواتف “الذكية” يتنقلون بين صفحات التواصل الاجتماعي التي لا حجر عليها ولا رقيب ولا حسيب؟

أليس حريا بالمنظومات التربوية أن تسرع إلى انقاذ الأبناء من براثن إعلام لم يضع أبدا في حسبانه الجانب التربوي لصغار السن ولم يكلف نفسه عناء إضافة برامج جديدة لهم أو تغيير وتأجيل أخرى لمواكبة الوضع الاجتماعي والنفسي والصحي الطارئ؟ ولم لا يتم تخصيص برامج للتربية عن بعد سواء على شاشات القنوات التلفزية أو في مواقع التواصل الاجتماعي التي سخرت كل تطبيقاتها للمواد الدراسية التعلمية ؛واستبعدت الأنشطة التربوية والرياضية والثقافية والتنشيطية التي تهدف إلى إدراك شخصية الطفل وتلبية احتياجاته النمائية وكأنها ليست بمستوى أهمية التعليم وبناء المعارف؛ فبمجرد الإعلان عن بدء التعليم عن بعد تسابقت كثير من الأسر لشراء الأجهزة الالكترونية لأبنائها وتزويدهم بشبكات الانترنيت دون أي تقدير لمخاطر هذه الأخيرة فكانوا كمن رموا أبنائهم في بحر لجي تلاطمهم فيه أمواج الجهل والتفاهة والعنف والإرهاب و اللاأخلاق وانهيار القيم دون أن يحرص المربون على تزويدهم بالكفايات والمهارات اللازمة لخوض غمار تجربة التعلم الذاتي و عن بعد في ان معا .

إن أهمية التربية وسبقها للتعليم واقترانها به لا يمكن إلا أن ترسخه الآفات والجوائح؛ وإذا عصفت بأحدهما لا قدر الله-فستعصف حتما بالأخر؛ فلا تعليم بلا تربية تسمو بأهدافه وغاياته ولا تربية بلا تعليم يرقى بمستقبل الأطفال ويضمن امتلاكهم للمعرفة والعلم والقدرة على تصنيع الحياة.

إن المنظومة التربوية اليوم ملزمة بتجاوز مرحلة تأجيل الاهتمام بالتربية واسنادها لآباء وامهات قضى جلهم فترة الحجر الصحي وهم يحاولون إعادة اكتشاف الذات والتعرف على الأهل الذين كانوا لفترة طويلة عبارة عن شركاء في السكن ومحاولة التعايش معهم وتحمل طباع بعضهم البعض مقتصرين في فعل التربية على توفير مكان مناسب للدراسة ومستلزمات التعليم عن بعد؛ أو بإسنادها لإعلام مازال هو نفسه يحتاج إلى إدراك أهمية الدور التربوي الذي كان من الممكن أن يقوم به مستثمرا بذلك تصالح عدد كبير من المغاربة معه وإقبالهم على مشاهدة محتواه لا أن يضعهم أمام خيارين أحلاهما مر ؛ فإما أن يرغموا أنفسهم على قبول برامج لا تلبي كثيرا من احتياجاتهم النفسية والفكرية والاجتماعية في فترة الحجر الصحي -التي طالت لفترة لم يكونوا على دراية مسبقة بمدتها وبالتالي لم يكونوا على استعداد نفسي وفكري لها – وإما أن يعرضوا عنه إلى الإعلام الأجنبي الذي لا يتوافق بالضرورة مع مواطنتهم وقيمهم ومبادئهم وأفكارهم.

وأخيرا لابد أن كثيرا من الفاعلين التربويين قد وضعوا أصابعهم على مكامن القوة والضعف في تجربة التربية والتعليم عن بعد ونحن بدورنا خلصنا إلى مجموعة من التوصيات التي من شأنها أن تسهم إلى جانب أخرى في ترصيص بناء فكر تربوي مرن وقوي في مجابهة المستقبل الغامض بكل ما يمكن أن يحمله من أفات وجوائح لذا وجب علينا أن نصغي بإمعان إلى تجارب الدول التي سبقتنا بخطوات في هذا المجال لا من باب التقليد والتقديس إنما من باب الاستفادة واختصار الجهد والوقت ؛ كما أن علينا أن نقوم بتقييم مرحلي كل حين وحين لنكشف الثغرات والعثرات ونعترف بالأخطاء كمرحلة أساسية لتصحيحها وتغيير التوجهات والمخططات والتدابير ؛

بالإضافة إلى ضرورة تجاوز مرحلة البداية و فجائيتها في التربية والتعليم عن بعد وإعداد الخطط والبرامج لننتقل به من تجربة اضطرارية إلى اختيار واستراتيجية ورؤية متفحصة واستشرافية لمستقبل التربية والتعليم في بلادنا؛ مستثمرين في ذلك كل الخيارات المناسبة التي تعزز التربية على المواطنة والحقوق الإنسانية لدى أجيال أصبحت مولعة بكل ما هو رقمي وحديث ومعاصر ؛ فبدل أن نحاول شدهم للنموذج التقليدي علينا أن نواكب لهفتهم للجديد ونؤطرها و نعقلنها ونمدهم بكل الوسائل والقيم التربوية التي تساعدهم على تلبية احتياجاتهم النمائية وإدراك مواهبهم وقدراتهم الدفينة وتعزيز أخرى كالقدرة على اتخاذ القرارات وحسن التوجه والاختيار؛ بما يضمن نجاحهم في بناء الحياة وتصنيعها.

* أستاذة باحثة في قضايا المرأة والطفولة وطالبة في سلك الماستر بالمعهد الملكي لتكوين الأطر وكوتش في التنمية البشرية والتفوق الدراسي؛

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *