وجهة نظر

في الحاجة إلى علوم إنسانية نقدية

إن أزمة العلوم الإنسانية هي تعبير يطرح مشاكل عديدة أهمها أنه وعلى عكس المعتقدات الشائعة، ليست أزمة نشأت من داخل التخصصات التي يتم جمعها تحت يافطة العلوم الإنسانية، بل هي نتيجة للتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي فرضت بدورها تحولا جذريا في الطريقة التي أصبحت المجتمعات المعاصرة تنظر بها لمسألة التعليم والتكوين منذ ثمانينيات القرن الماضي. إن أنواع الوظائف التي أصبحت مطلوبة داخل اقتصاد ينبني على الاستهلاك فرضت سياسات تعليمية سايرتها المدارس والجامعات بتغيير برامج الدراسة وخلق تكوينات جديدة من أجل تلبية احتياجات اقتصاد السوق الجديد. في هذه العملية، عمدت السياسات التعليمية بشكل تديجي الى الغاء تلك التخصصات التي اعتُبِرت عديمة الفائدة، أو على الأقل لم تعد متوافقة مع متطلبات سوق العمل. فمنذ ذلك الوقت وتخصصات العلوم الانسانية تشهد اندحارا متواصلا.

هذا بالضبط ما تدور حوله رواية «ووترلاند» الصادرة عام 1983 للكاتب الانجليزي غراهام سويفت، حيث يتحدث « طوم كريك » الراوي والشخصية الأساسية في هذا العمل الادبي ، وهو مدرس مادة التاريخ ، بمزيج من السخرية و الجد ردًا على قول أحد طلابه بأن “التاريخ أصبح على وشك الانتهاء” فيقول :

هل تعلم لماذا أصبحت مدرسا يا برايس؟ حسنًا – لدي قصة حب مع التاريخ. هوايتي المفضلة. ولكن هل تعرف ما الذي حثني على التدريس؟ كان ذلك عندما كنت في ألمانيا عام 1946. كل تلك الأطنان من الأنقاض. لم يتطلب الأمر الكثير. فقط بضع مدن دُكّتْ عن آخرها. لا دروس خاصة ولا جولات في معسكرات الموت. دعنا نقول فقط أنني اكتشفت أن هذا الشيء المسمى بالحضارة، هذا الشيء الذي كنا نعمل عليه منذ ثلاثة آلاف عام […] ثمين. شيء مصطنع وسهل التدمير – لكنه ثمين. (ص207)

ولتوضيح وجهة نظره أكثر، يحذرنا الراوي من الانسياق خلف فكرة أن الإنسانية تتقدم نحو الأفضل، أي نحو “تقدم” ايجابي لا مفر منه. فالاعتقاد بذلك يعني الذهاب بشكل أعمى ومن دون وعي تجاه إدامة أخطاء ومذابح الماضي لأن التاريخ، كما يقول، يعيد نفسه، أو بالأحرى رغم أن الإنسان يصنع التاريخ الا أنه لا يتعلم أبدًا من أخطاء الماضي. فالتاريخ، وفقًا لهذا الفهم، وخلافا لما أكدته فلسفة هيجل وبعدها فلسفة ماركس لا يعدو أن يكون سلسلة من التكرار والمعاودة الأبدية لما مضى، فهو قصة تدور حول نفسها، كما يقول الكاتب: ” ] التاريخ [يكرر نفسه ، ويدور حول نفسه مهما حاولنا تقويمه. كله تقلبات وانعطافات. يسير في دوائر ويعيدنا إلى نفس المكان. ” (123)

بعيدًا عن كونه متشائمًا، فإن كلام توم كريك هو في الواقع تحذير من نسيان السبب الذي من أجله يتم تدريس التاريخ في المدارس أي حتى تعي الاجيال كيف وصلت الحضارة الانسانية إلى ما هي عليه وتتعلم عدم تكرار أخطاء أسلافها. لان كلما حققته الإنسانية من تقدم حتى الآن، فذلك راجع لأن بعض الناس عملوا بجد من أجله. فالتقدم ليس قانون من قوانين الطبيعة، وبالتأكيد ليس قانونًا من قوانين الطبيعة البشرية، بمعنى أن التقدم ليس حتمية طبيعية أو تاريخية، حسب الكاتب: ” لا تقع في الوهم أن التاريخ عبارة عن فيلق جد منضبط يمشي بلا كلل وبكل ثبات نحو المستقبل “. (117)

هذا الخطاب عن أهمية تدريس التاريخ والعلوم الإنسانية بشكل عام يأتي في سياق سياسة تجزئة مكونات العلوم الانسانية الى تخصصات ضيقة ومتباعدة عن بعضها البعض تحت دريعة الاختصاص الأكاديمي الى درجة التنافر وادعاء البعض بكل سذاجة “العلمية ” الصرفة لتخصص ما واعتبار الآخرين لا علميين. غير أن نتيجة هذا التطور هي التشتت والتضخم في المناهج وانعدام التنسيق المفاهيمي والأهم استحالة انتاج نموذج موحد لفكر نقدي تحويلي وتحرري. و بما أن العلوم الانسانية أضحت مجالات بدون روابط قوية بين بعضها، أصبح من السهل الإجهاز عليها و تقزيمها الى مجرد دروس اختيارية (elective courses)تمكن الطلاب من الحصول بسهولة على نقط ائتمان (credit points) لإتمام الرصيد المطلوب لنيل الدبلوم. وبالتالي لم يعد هناك أدنى إحراج في التخلي عن بعض المواد عندما يقل الطلب عليها أو عندما تمر المؤسسة بضائقة مالية. ذلك بالضبط ما تندد به رواية غراهام سويفت عبر انتقادها للسياسة اليمينية المحافظة التي سادت في عهد ماركريث ثاتشر الوزيرة الاولى في حكومة المملكة المتحدة في ثمانينيات القرن الماضي. وهو السياق الذي طبعته سياسات يمينية محافظة تميزت بتقشف كبير خاصة في مجال الخدمات العمومية ترجمت الى تقليص حاد في ميزانية الخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم. في الرواية المذكورة يجد الراوي نفسه في مواجهة قرار الإحالة على التقاعد إثر قرار مدرسته تنحية مادة التاريخ من المناهج الدراسية نظرا لقلة الموارد المالية. في الواقع حسب الكاتب يتعلق الأمر بسياسة عمومية تلجأ الى تبرير قرارتها بناء على أن بعض تخصصات العلوم الإنسانية لم تعد تنفع في شيء وأن لا أحدًا يهتم بها كثيرًا، وبالتالي يمكن التخلي عنها.

مغزى هذا الكلام هو إن رواية غراهام سويفت والتي مكنته من شهرة عالمية تنبأت منذ ما يقارب من أربعة عقود بحالة العلوم الإنسانية كما نراها اليوم، أي حالة يطبعها التهميش في المجتمع وفي السياسة ويتم ترجمة ذلك الى سياسات عمومية. والمناسبة هي ما يقع حاليا في الجامعات في كثير من البلدان ومن بينها المغرب حيث إن التخصصات المعرفية المرتبطة بالإنسان والمجتمع كمجالات مركبة ومعقدة تم تجويفها وتقليصها إلى مجرد معرفة تقنية وعملية خالصة تروم خدمة الاعمال من تجارة وصناعة وخدمات الماركتينغ…الخ. من سخرية التاريخ انه الى وقت غير بعيد كانت الفنون والعلوم الانسانية تعد ضرورية لكل من كان ينوي النجاح في عالم الاعمال سواء كان مسيرا او مستخدما، حيث كان الجميع يقر بأهمية ما يسمى في النموذج الأنجلو-أمريكي liberal education. فما كان بالأمس مجرد ارهاصات أو بدايات محتشمة كما توضحه رواية غراهام سويفت أصبح اليوم سياسة لا تخجل من نفسها حيث تتعرض العلوم الإنسانية لهجمة شرسة سوف تنتهي لا قدر الله بانقراضها في زمن ما بعد الحداثة العلمية والتقنية التي نعيشها. ومع اختفاء هذه المعارف فإن الحواجز التي تقف ضد حماقة الإنسان وقسوته سوف تنهوي بكل تأكيد.

وبالنظر الى خطورة ما يقع، تشكلت مجموعات و فرق بحث كفريق « الهوية والاختلاف » بكلية الآداب التابعة لجامعة محمد الأول بوجدة و مجموعات أخرى بآروبا وآسيا و الامريكيتين، مهمتها العمل بطرق مختلفة يطبعها تعدد التخصصات و تلاقحها داخل اطار نقدي تحويلي تحت مسمى «الانسانيات النقدية أو Critical Humanities» هدفه استكشاف الزوايا التي يمكن من خلالها فهم الوضع البشري اليوم انطلاقا من “خلفيات” ثقافية غير متجانسة ووجوب الالتفات اليها كسرديات «Narratives» متصلة ومترابطة. وتكمن أهمية التدريس والبحث في العلوم الإنسانية النقدية في مقاربة الاختلاف الثقافي من مواقع لامركزية. إن مثل هذه المهمة لا مفر منها، بل تعد ضرورة في سياق عالمي بدأت فيه الاضطرابات الهوياتية تظهر تأثيرًا مدمرًا على التعايش السلمي اليوم. وهذا بالتحديد هو ما يؤكد الحاجة الملحة للتفكير الجماعي والبحث الابتكاري العابر للحدود التقليدية والمؤسسية بين التخصصات والمنفتح على أنظمة الاتصالات والعالم الرقمي كمحدد أساسي لمجالات المعنى والفعل في عالمنا اليوم.

وتبدو ممارسة النقد باعتبارها القدرة على تشخيص الإشكاليات، وتجنب الدغمائية وتوفير أدوات تتوخى التحليل التحولي أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. فمن المهم إيجاد طرق للمشاركة النقدية ورفض الهيمنة وابتكار ممارسات وخلق مساحات للخيال الجاد واعتماد أنماط الرفض الإيجابية. فبهذا المعنى يكون النقد عنصرًا حاسمًا في العلوم الإنسانية. وعلى الرغم من الضغوط الاقتصادية المفروضة على التعليم العالي والبحث المستقل بشكل عام وعلى البحث في العلوم الإنسانية بشكل خاص، فإن الفضاء الجامعي لا يزال يمثل المساحة الوحيدة لإجراء التحليل النقدي للواقع الاجتماعي المعاصر حيث يتم تدريس تقنياته و بحث إمكاناته النظرية و العملية.

وغني عن القول إنه في معظم جامعات العالم اليوم، تعيش العلوم الإنسانية في وقت مستعار حيث تغرق الكليات بالصعوبات المتعلقة بتقلص الميزانيات وتدهور ظروف العمل. ومع ذلك، فإن احتمالات تجديد الثقة في العلوم الإنسانية لتوليد التفكير النقدي قد تأتي من العودة إلى الاهتمام بالإشكاليات المجتمعية الملحة وإلى أولوية التفكير النقدي والوعي التاريخي والحكم الأخلاقي التي هي جوهر هذه العلوم.

وبالتالي، يجب إعادة التفكير في الممارسات السائدة وطرق النقد المعتمدة. فالمطلوب منا اليوم هو ممارسة حاسمة تؤكد وتُساءل في نفس الوقت الطبيعة المُتمَوقِعة فكريا وسياسيا لأي تشخيص والتي تَجرُأ مع ذلك على الاستجابة لاحتياجات عالم في حالة ايكولوجية حرجة وترابط رقمي اقتصادي مرعب، وهذا يتطلب تدخلاً نقديًا واستجابات إبداعية، لا نسبيًة ولا كونية ولكن تضع في الاعتبار إمكانيات مستقبل مستدام. فالعمل الجامعي قبل كل شيء مسألة منهجية، وإتقان مفاهيم التحليل النقدي وليس غسل الدماغ. وبهذا المعنى، تقدم الإنسانيات النقدية أفضل الوسائل لتطوير التفكير النقدي القابل للاستمرار لأنها ليست فقط مفتوحة على جميع التخصصات العلمية الأخرى بل هي قادرة على انتقادها ودراستها كمواضيع مجتمعية ومعرفية وتقييم أهميتها لمستقبل الإنسانية.

فقد أصبح الهم الشاغل لعدد من لأكاديميين هو تسليط الضوء على الدور الحاسم للإنسانيات النقدية في معالجة الارتباك العام الذي يشهده القرن الحادي والعشرين وأعراض التوتر التي ورثها عن اضطرابات نهاية القرن الماضي التي حدثت في التسعينيات (سقوط الكتلة الاشتراكية، وفشل سياسات المابعد كولونيالية، وانتصار الرأسمالية العالمية واتساع الفجوة بين الشمال والجنوب، وحرب الخليج الأولى، وظهور الحركات الجهادية العنيفة، وما تبع كل ذلك من غزو للعراق وأفغانستان والانقسام الكبير الذي حدث بين الغرب الإسلام …). كل هذا أحدث ارتدادات لا زال العالم يواجه تحدياتها الى يومنا هذا سواء في شمال أو في جنوب الكرة الارضية. فالديمقراطية التي كانت المجتمعات الغربية وما زالت إلى حد ما تجسيدًا لها على الأقل على مستوى الخطاب بدأت تظهر حقيقة عدم قدرتها على استيعاب الاختلافات العرقية والثقافية في دول الغرب نفسها. أما في جنوب الكرة الأرضية، فقد سجلت الانظمة الما بعد كولونيالية إخفاقات هائلة في التنمية، سواء كانت بشرية أو غير ذلك، ولم تنتج سوى أنظمة فساد غاية في التعقيد.

ومع تصاعد الارهاب والرد الأعمى من قبل الدول الكبرى، أصبح العالم مضطربًا وغير آمن. ففي هذا الجو المقلق يلجأ كثير من الناس إلى خطاب سياسي مبسط للتعبير عن رفضهم للاضطراب العالمي الجديد سواء في الغرب أو في خارجه. وهكذا يسقط آلاف الأشخاص ضحايا الدعاية الشعبوية والخطابات الأخرى التي تبسط الوضعية المعقدة للعالم وتبشر بالحلول السهلة الواعدة التي تركز جميعها على إلقاء اللوم على الآخر (المهاجرون والأجانب والكفار … إلخ.) ففي الوقت الذي أجبر ملايين الناس على الفرار من الحرب، والمناطق المتضررة بيئياً، قررت الدول الشمالية الغنية تحصين نفسها ببناء جدران حقيقية ورمزية بل وحتى داخل الدول الغنية نفسها يتم إنشاء حواجز بين الأقلية الغنية و99٪ الآخرين الذين يعانون من الفقر والبطالة وانعدام الفرص بشكل عام. على جانبي هذه “الجدران” تزدهر خطابات الكراهية والخوف وشيطنة الآخر. في هذه الضوضاء لم يعد يسمع صوت المثقفون الذين يعتبرون مؤتمنون على الضمير الإنساني حيث يتم استبدالهم بـ “الخبراء” كما يتم استبدال التفكير النقدي (التحرري والتحولي) بالخبرة الفنية. في هذا السياق من عدم اليقين، ومع التقنية المهيمنة وإعادة تقسيم عملية إنتاج المعرفة على أساس الانحياز التقني، فإن الخطابات السائدة وسياسات التخويف وتسييس الدين تضيف فقط الوقود إلى وضع قابل للاشتعال.

إن القيام بمقارنة بسيطة ومحدودة بين الخطابات السائدة اليوم حول كراهية الأجانب والتطرف ونظريات المؤامرة والخطاب الشعبوي ونظيرتها في بداية القرن العشرين في اوربا ستظهر لنا أن الاحتقان و التوتر اللذين هيمنا على العقود الأولى من القرن الماضي والتي أدت إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية والمذابح التي لا حصر لها قد غدتها الأيديولوجيات الفاشية السامة التي شوهت الآخر، والأجنبي، وكل من لا ينتمي لدين ومعتقد الاغلبية، وكل من كان لون بشرته مختلف، أو من كانت له ثقافة أو لغة مختلفة … إلخ، أي أولئك الذين لا يمكن دمجهم أو استيعابهم داخل قالب الاثنية المهيمنة أو المعتقد السائد. الجميع يعرف ما نتج عن ذلك من حروب ومذابح وإيديولوجيات شمولية قاهرة، وأنظمة استبدادية ظالمة، ودمار شامل.

اليوم، ومع التوترات المتزايدة المحيطة بقضايا الهجرة والبطالة والإحساس بانعدام الأمن وتغدية تلك الاحاسيس بنظريات المؤامرة، تعمل الإيديولوجيات الشعبوية وخطاب الكراهية سواء كانت تنبني على أسس دينية أو لغوية أو ثقافية أو عرقية على تقاطب المواقف وتحويل المجتمعات والأمم ضد بعضها البعض. وبالتالي، فإن السياقين المحلي والدولي متضعضعين بفعل عودة خطابات القومية المتشددة والخطابات الدينية المتطرفة التي تمكنت من السيطرة إلى حد كبير على العقول والوصول الى السلطة ليس فقط في المجالات السياسية بل حتى في الحياة اليومية للمواطنين العاديين الذين يتم تذكيرهم باستمرار بأن مشاكلهم هي من فعل الآخر. إن التبني الطوعي أو العفوي لمثل هذه الخطابات من قبل الأفراد والجماعات يكشف في الواقع عن مخاوف هوياتية عميقة تؤثر على المجتمعات حيث يزيد من تفاقمها تأثير اقتصاد وثقافة العولمة المتوحشة. ويصاحب ذلك وجود توجه محافظ مجتمعيا وسياسيا، وحركات كراهية الأجانب، وخطر الصراعات العنيفة التي تغذي تطرف جزء من الشباب، في جميع دول المعمور.

في الواقع، إن الموجة الحالية من الشك العدمي الذي يمس كل شيء من السياسة إلى العلم والأخلاق و الذي يتصدر وسائل التواصل الاجتماعي تحت مسميات “الحقائق البديلة” (alternative facts) وعدم الاكتراث بمشاعرالغير(political incorrectness) تسعى في الحقيقة إلى تطبيع الممارسات العنصرية والإسلامفوبيا ومعاداة السامية من خلال الميمات (Memes) والأشكال الرقمية الأخرى ذات الصلة بوسائل التواصل الاجتماعي. هذا كله في الوقت الذي يتم تغييب قيمة التفكير النقدي في مسلسل تحويل الجامعات إلى مؤسسات موجهة للأعمال والتقنيات مع تقليص المساحة المخصصة للعلوم الإنسانية. ففي فبراير من سنة 2009 صدر مقال مهم بصحيفة نيويورك تايمز حول حالة العلوم الإنسانية في الجامعات الأمريكية حيث جاء فيه أنه بعد الأزمة الاقتصادية لعام 2008 “تتعرض العلوم الإنسانية لضغوط أكبر من أي وقت مضى لتبرير وجودها للمسؤولين وصانعي السياسات والطلاب وأولياء أمورهم […] ويعترف بعض أقوى المدافعين عن العلوم الإنسانية بأنهم فشلوا في الدفاع عن قضيتهم بشكل فعال “. ففي الوقت الذي يربط كاتب المقال بين أزمة العلوم الإنسانية والانكماش الاقتصادي الذي نتج عنه تغير مواقف الأسر وصناع القرار تجاه التعليم المبني على الآداب والفنون والعلوم الانسانية (liberal education) يبقى من المؤكد أن أحد جوانب تلك الأزمة هو تدهور العلوم الإنسانية في ثقافة تهيمن عليها أيديولوجيا العلوم والتقنيات. اليوم وبعد أكثر من عشر سنوات عن صدور هذا المقال، فإن الوضع لم يزد إلا سوءًا. ومع ذلك، فإن سلاح التفكير النقدي والمعرفة التاريخية والمنطق الأخلاقي هي أفضل ما لدينا خاصة لمواجهة صعود الشعبوية والتطرف والإرهاب الفكري. وهكذا، تكمن أهمية العلوم الإنسانية في استعادة مكانتها في تعزيز التنمية الفردية والجماعية والمشاركة في منظومة ديمقراطية حرة وتشاركية. وعلى الرغم من أن هذه ليست الطريقة الوحيدة لمعالجة الأزمة المتعددة الأوجه التي تعيشها الإنسانية، إلا أنه قد يكون من المفيد النظر في الطرق التي يمكن ان تمكن الأوساط الأكاديمية معالجة المشكلة من خلال الانفتاح على المجتمع وإشراكه، واكتساح الفضاء العام وتجديد معنى “الفضاء المشترك” لخلق شروط التعايش السلمي داخل المجتمع وبين الأمم.

أن الغرض من هذا المقال على الرغم من عدم تغطيته لكل جوانب الاشكالية هو الاسهام بكل تواضع في النقاش الأخلاقي والنقدي الذي يدور في العلوم الإنسانية والاجتماعية والذي يتصدره البحث في النظريات النقدية. والمأمول هو أن ننجح في إثارة الاهتمام بالممارسات النقدية المتعددة والمتداخلة التخصصات التي تسعى إلى تجديد النقد وتوفير تحليلات بديلة ومبتكرة للأزمة الحالية والتي تتمثل تمظهراتها في تراجع الفكر النقدي وكراهية الاختلاف ومعاداة حرية الفكر والعودة المخيفة للتطرف السياسي والديني في جميع أنحاء العالم.

* أستاذ باحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • كأني.الحسن
    منذ سنتين

    شكرا.لكم.على.هده.المعلومات.القيمه.المتنوره.التي.مااحوجنا.اليها