وجهة نظر

حينما يدافع أستاذ القانون الدستوري عن خرق الدستور

ظهرت بالمغرب مؤخرا مجموعة من الأصوات تدعو الى إقالة الحكومة الحالية وتنصيب حكومة انقاد وطني ذات كفاءات عالية، للخروج بالبلاد من الازمة الاقتصادية والاجتماعية التي تهددها بسبب جائحة كوفيد 19، ويرى هؤلاء أن الحكومة الحالية غير قادرة على مواجهة مثل هذه الازمات.

كان الكاتب العام لحزب الاتحاد الاشتراكي صاحب هذه الدعوة في البداية، ثم تلاه بعد ذلك بعض الصحفيين وكتاب الرأي، كما كان من بين هذه الأصوات بعض أساتذة القانون الدستوري الذين انخرطوا بكثير من الحماس في الدعوة لحكومة كفاءات، بغض النظر عما يمكن أن يرافق ذلك من رجات دستورية وسياسية، ومنهم من تناول “وصفة” كما سماها يشرح فيها كيفية تجسيد حكومة الكفاءات دستوريا.

قبل الخوض في التداعيات السياسية والدستورية التي يمكن ان يفجرها هذا الطرح، لا بد أولا التذكير باختصار شديد (حتى لا يكون ذلك موضوعنا الأساسي) بمفهوم حكومة الكفاءات أو حكومة التكنوقراط كما دأب المهتمون بالمغرب على تسميتها.

التكنوقراطية في مجملها هي تكليف شخص معين بمسؤولية معينة في مجال معين، اعتمادا على معرفته وكفاءته ومهارته.

وحكومة التكنوقراط إذن، انطلاقا من ذلك هي تكليف وزراء بمسؤولية حكومية انطلاقا من اختصاصهم وخبراتهم وكفاءتهم العلمية والمهنية، بعيدا عن مصالح الأحزاب السياسية وتحالفاتها، ومثال ذلك أن يتم تعيين متخصص في الاقتصاد والمالية كوزير للمالية، أو متخصص في الطب وزيرا للصحة، أو متخصصا في العلاقات الدولية والدراسات الدبلوماسية وزيرا للخارجية ……

وبالعودة الى موضوعنا الأساسي، فان انخراط متخصصين بالقانون الدستوري في هذ الدعوة يستدعي المساهمة في إغناء النقاش وتوضيح مجموعة من النقط.
إن التصور الذي طرحه بعض هؤلاء المتخصصين في دفاعهم عن حكومة انقاد وطني، اعتمد على مجموعة من الفصول الدستورية وهي: الفصل 42 ،47، 62، 88، 70و 172 والتي وجدوا فيها الشرعية الدستورية لإسقاط الحكومة الحالية قبل انتهاء ولايتها.

– الفصل 42: استهل أصحاب هذا الطرح تصورهم بدعوة صريحة الى الاعتماد على هذا الفصل، الذي ينص على أن” الملك رئيس الدولة وممثله الأسمى ورمز وحدة الأمة وضمان الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها يسهر على احترام الدستور وحسن سير المؤسسات الدستورية وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة”.

اللجوء إلى هذا الفصل لشرعنة إسقاط الملك للحكومة الحالية، هو ليس تأويلا دستوريا بل سياسيا، وهو دعوة صريحة لتكريس اللجوء الى الصلاحيات الضمنية للمؤسسة الملكية داخل الدستور، وما يعني ذلك من امكانية ممارسة اختصاصات واسعة وغير مقيدة. وإن اعتماد الملك على مضامين الفصل 42 لإقالة عبد الاله ابن كيران، عندما فشل في تشكيل تحالف حكومي في بداية هذه الولاية، بما يمكن اعتباره خللا في السير العادي للمؤسسات، لا يمكن اسقاطه على اقالة رئيس الحكومة الحالي، والازمة هنا لا تعني توقف السير العادي للمؤسسات الدستورية، والاستناد على هذا الفصل لتشكيل حكومة تكنوقراطية هو ضرب للفصل ذاته الذي نص على أن الملك يسهر على ضمان الاختيار الديمقراطي للمغرب، والاختيار الديمقراطي في الأنظمة البرلمانية لا يمكن أن يخرج عن الاحتكام إلى صناديق الاقتراع.

– أما الفصل 47: فهو واضح وصريح ولا يمكن تأويله خارج تعيين رئيس الحكومة من الحزب الفائز بأكبر عدد من المقاعد، صحيح ان لا نص دستوري يمنع رئيس الحكومة من تعيين جميع أعضاء حكومته خارج الاحزاب. ولكن القول “بتعيين الحكومة من الحزب المتصدر او من يقترحه (المتصدر) لكي يشغل ذلك المنصب شريطة ان يكون شخصية ذات كفاءة عالية”، يعتبر قراءة غير منطقية للدستور.

– الفصل 88: إن التصور على أن ما على رئيس الحكومة التكنوقراطي سوى التقدم أمام مجلسي النواب والمستشارين لعرض برنامجه للحصول على ثقة البرلمان، يصبح غير ذا معنى دون الانتباه إلى أن مسألة منح الثقة تحتاج الى أغلبية برلمانية، وهو ما لا يمكن أن تتوفر عليه حكومة تكنوقراطية.

– الفصل 105: أعتقد أن أصحاب هذا الطرح وقعوا في الخطأ سهوا أثناء الكتابة والتبست عليهم حقوق الحكومة والبرلمان، وذلك من خلال منح الحكومة التكنوقراطية حقا دستوريا لا يوجد في كل نصوص الدستور، يمكنها من امتلاك أدوات الرقابة السياسية لإسقاط نفسها.

أعتقد أن بطلان استخدام الفصل 42 وعدم وجود تأويل اخر للفصل 47 غير ما نص عليه بشكل صريح، يبطل تناول الفصل 174 والفصل 70 في هذه الحالة.

إن فكرة الحكومة التكنوقراطية لا تتعارض وفقط مع النصوص والقواعد الدستورية في انبثاق الحكومة، بل أيضا مع قواعد واليات الممارسة السياسية الديمقراطية، فلا يمكن استغلال جائحة كوفيد 19 لنقل الصراع مع الأحزاب المشكلة للحكومة خصوصا حزب العدالة والتنمية الى مستوى اخر، خارج مجابهتها عن طريق الاقتراع، الذي تمكن من الحصول على المرتبة الأولى انتخابيا لولايتين متتاليتين، مستفيدا من ضعف المشاركة في الانتخابات وتوفره على كتلة ثابتة وتابعة تصوت له، هي شروط تعجيزية بالنسبة للأحزاب الأخرى، وهو ما يمكن أن يجعل أصحاب أطروحة انهاء الولاية الحكومية مبكرا يتحينون مثل هذه الفرص التي يرون فيها سبيلا لإضعاف هذا الحزب.

ومن جهة أخرى، يجب الاعتراف على أن الحكومات المغربية المتعاقبة على السلطة منذ الاستقلال، كانت مرتبطة دائما بالتكنوقراط، فلا تكاد تخلو حكومة من أعضاء غير منتمين الى الأحزاب السياسية، تعينهم المؤسسة الملكية، بل وأن أول حكومة يعينها الملك محمد السادس بعد توليه الحكم، كانت بقيادة تكنوقراطية، فمشاركتهم في الحكم بالمغرب أصبحت من الثوابت.

أما الحديث عن مشكلاتنا الاقتصادية والاجتماعية وفشل سياسات الدولة، فهو ليس وليد لحظة قدوم “كورونا”، ولكنه نقاش قديم دائم ومستمر، وقد أصبح الملك بنفسه يتحدث عنه في الخطابات الأخيرة. ولهذا لا يمكن تحميل الأحزاب السياسية المسؤولية لوحدها، خصوصا إذا ما بحثنا عما قدم التكنوقراط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية بالمغرب على مدار أكثر من 60 سنة، تحمل فيها مسؤولية العديد من القطاعات، كانت وزارة الاقتصاد من أبرزها، ووزارة الداخلية التي شكلت دائما النقطة السوداء في تاريخ الحكومات السابقة.

فالمشكلة إذن ليست فقط في أحزاب أو تكنوقراط، والبحث عن الخلل في أحدهما على حساب الاخر، بل في طبيعة النظام السياسي بالمغرب، الذي تهيمن فيه المؤسسة الملكية على هندسته الدستورية وتسمو على باقي المؤسسات. المشكلة ليست في الكفاءة بل في الاستراتيجيات الصحيحة للدولة في مجموعة من القطاعات الحيوية خصوصا الاجتماعية منها، وبرهان ذلك هو مجموع التعديلات التي طرأت على التشكيل الحكومي منذ 2011، والتي طعمت بكفاءات غير متحزبة لم تغير من واقع الازمات المطروحة منذ مدة شيئا، بل أصبحت جزءا من الازمة.

أعتقد أن النقاش الذي يجب على المهتمين بالدستور إثارته هو المكانة الضعيفة لمؤسسة الحكومة ومؤسسة البرلمان داخل الدستور وضعف أدوارهما وصلاحيتهما، الأولى كسلطة تنفيذية والثانية كسلطة تشريعية، وإحياء نقاش ربط المسؤولية بالمحاسبة كما نص على ذلك الدستور، هذا المبدأ المغيب تماما نظرية وممارسة، خصوصا وأن المشهد السياسي كان في عدة مناسبات مسرحا لإعفاء وزراء وتكليف اخرين دون مساءلة ولا محاسبة ،كان من أبرزها إعفاء الملك مجموعة من أعضاء الحكومة سنة2017 بعد التقرير المشهور للمجلس الأعلى للحسابات الذي أكد على وجود اختلالات خطيرة أكدتها اللغة الغير المألوفة للديوان الملكي التي عبرت بشكل صريح عن غضب الملك، لقد كانت فرصة لتفعيل مبدأ المسؤولية والمحاسبة عوض تفعيل ظهير 1-74-331 الذي منحهم التعويض عن انتهاء مهماتهم.

الدعوة الى خرق القواعد الدستورية يمكن أن يكون مقبولا إذا صدر عن غير المختصين، أما أن يكون صادرا من متخصصين في القانون الدستوري، فذلك لن يكون صائبا مهما كان الصراع مع حزب معين، والرغبة في اضعافه، لأن ذلك سيعبد الطريق لترسيخ ممارسة غير ديمقراطية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *