منتدى العمق

ذبلت وردة

قصة قصيرة:

كانت (لكبيرة) في عقدها الخامس يوم وفاة زوجها فجأة؛ فقد رحل دون استشارتها وترك لها بنتا في السادسة عشرة من العمر؛ ولم تجد أمامها من حل سوى الرحيل؛فباعت كل ما ورثته عنه؛ (اثاث البيت؛ و عنزتين وحمار كان يستعمله المرحوم في التنقل بين البيت و الاسواق؛وقليل من القمح والذرة) ؛ و رحلت وهي لا تحمل معها سوى ملابسها وملابس ابنتها وما كسبته من مال بعد بيع الارث؛ في اتجاه المدينة؛حيث استقر رأيها على متابعة ما تبقى من حياتها والاعتناء بابنتها؛اتخذت هذا القرار لأنها طالما سمعت الناس يتحدثون عن وفرة الشغل بالمدينة ايام كان المرحوم على قيد الحياة؛ وكانت تشجعه حينها على الرحيل والاستقرار بالمدينة؛ولكنه كان دائما يرفض اقتراحها ويلوي رأسه عن وجهها الى الجانب الاخر؛ كان المتحدثون يرددون باستمرار على مسامعها( في المدينة لا أحد يموت بالجوع) وهذا ما شجعها على الرحيل.

توقف القطار؛ فصعدت لكبيرة وهي تجر ابنتها خلفها؛ واتخذا لهما موقعا بكرسي قرب الباب؛ حتى لا تجدان صعوبة عند النزول؛ سار القطار يشق الطريق؛ وابنتها ( وردة) تنظر للركاب باستغراب و تطيل التحملق في عيون الجميع؛ كانت كلما حولت نظراتها الى النافذة تشعر بالارتياب والخوف من السرعة التي يسير بها القطار؛انها تركب القطار و تغادر البيت والقرية للمرة الاولى في حياتها؛كانت وجناتاها محمرتين؛وعيناها زرقاوتين و وجه مدور ابيض ناصع كالثلج؛فم صغير وشفتان بارزتان تشعان احمرارا وكانهما مصباحين خلفيين لسيارة جديدة؛كانت رشيقة وتعج حيوية ونشاطا؛ولم تكن تعرف اين تسير؛تعرف فقط انها متجهة الى المدينة كما قالت امها؛أما أمها فكانت تبدو عليها سمات حزن عميق؛ورسمت التجاعيد الملتوية على وجهها آثار معاناة عنيفة؛كانت بعض خصلات شعرها المنفلتة من تحت غطاء رأسها رمادية اللون؛وكانت عيناها الصغيرتين ذابلتين محمرتين من الألم والبكاء؛ وكانت رقبتها نحيفة مجعدة كورقة مرمية في القمامة.

لما توقف القطار عند محطة نهاية السير؛ شعرت لكبيرة بخوف رهيب؛ وبدأت دقات قلبها تتسارع وكأنها تهرب من كلب مسعور يجري خلفها مبرزا أنيابه الحادة؛وقالت :” لماذا صراطي غير مستقيم؛هل ارتكبت جرما لا يغتفر يا ربي؟”؛ وتذكرت أنه قبل أن تركب القطار من قريتها؛ نصحها ذوي الخبرة أن تركب سيارة أجرة فور وصولها حتى لا تتيه؛ أو يسرقها اللصوص؛حاصرها حشد من سائقي سيارة الأجرة؛ يعرضون عليها الركوب؛ و اختارت واحدة بشكل عشوائي؛ و سار السائق بسرعة الى الوجهة المدونة في الورقة التي سلمتها اياه لكبيرة؛ و ساد الصمت داخل السيارة طيلة الرحلة؛؛وكادت وردة تصاب بالدوار؛ لكن ولحسن حظها توقفت السيارة وانتهت الجولة أمام البيت المدون في الورقة؛ترجلت لكبيرة وابنتها ناولت السائق أجره؛ثم قرعت الباب؛ وخرجت عندهما سيدة مسنة مقوسة الظهر بالكاد تستطيع التحرك؛ “من انتن ” سألت العجوز؛”انا لكبيرة زوجة اخيك المرحوم”؛ اه! اهلا وسهلا ادخلا؛ دخلتا وهما متعبتان غير قادرتين على التحرك أو التدقيق في البيت وزواياه؛بعد الترحاب وتناول خبز وشاي؛ذهبتا للنوم في انتظار صباح مجهول؛ لا تدري بما سيطل عليهما.

في الصباح ادركت لكبيرة هول ما وقعت فيه؛ شعرت بالضيق يحاصرها؛واحست وكأن جدران البيت تضمها وتضغط عليها بقوة؛ أدركت لكبيرة أنها بمنزل أرضي؛ به ثلاث غرف مختلفات المساحة؛ ومطبخ متوسط ومرحاض تحت سلم الطابق العلوي لا تستطيع الوقوف داخله؛ و كلما رغبت في قضاء حاجتك؛ لا بد ان تدخل مقوس الظهر؛ فيما كانت الرائحة داخله كريهة تلسع العيون وتخنق الانفاس؛ ترغمك على المغادرة فورا؛ قبل الانتهاء من قضاء حاجتك؛كان الدخول اليه بمثابة عقاب نفسي كريه؛ كان البيت محروما من أشعة الشمس؛و لا تتسرب اليه الا بقدر قليل من نافذة المطبخ قبل العاشرة صباحا؛ كانت الغرفة الكبيرة مخصصة للضيوف؛ والمتوسطة للنوم؛فيما الغرفة الثالثة ستستأجرها لكبيرة وابنتها؛كان طلاء هذه الغرفة قد فقد لونه الاصلي؛ ما جعل الغرفة تصبح أكثر كآبة وظلمة وتعج بالرطوبة القاتلة؛أحست وردة بضيق كبير داخلها؛وهي التي ألفت العيش في الفضاء الواسع والشمس الحارقة؛والهواء النقي والنسيم العليل كل صباح.

لم تستطع لكبيرة النوم تلك الليلة؛قضت ليلها كاملا تتلوى في الفراش؛وترسم الكثير من الطرق ذهابا وايابا؛كيف ستتعامل مع هذا الغول الذي لم تتعرف على جسده الضخم من قبل؛كما لم تتهيأ لمواجهته أو الاندماج مع ظله؛كيف لها أن تنطلق وتتأقلم مع منعرجاته وسراديبه؛ خافت أن يبتلعها دون أن شعور منها أو إحساس؛ احتبست أنفاسها ولم تعد تعرف ما تقدم ولا ما تؤخر؛ و ساورها شعور مخيف وكادت أن تقرر الرجوع الى القرية؛ولكنها ادركت أن واقع القرية أكثر عنفا من هذا الغول؛ هي تعلم أن حظوظ الفقراء في هذا العالم الظالم للعيش المريح منعدمة؛ وليس لهم من حل سوى الامتثال لقانون الأغنياء؛ لكن ما كان يزعجها أكثر؛ هو واقع ابنتها وردة؛فهي لم تغادر يوما القرية؛ كما لم تتلقى تعليما كافيا ينتشلها من غار الجهل المظلم؛و لم تتعلم أي حرفة أو صنعة تمكنها من أكل الخبز؛ ولم تعتد الاختلاط بالناس ومشاركتهم حديثهم؛فكيف ستتدبر أمرها وتندمج مع متاهات هذا الغول المخيف؛فجأة انتشلها صوت أخت المرحوم من بحر تخوفاتها؛ تناديها من الصالون لتناول الفطور هي وابنتها؛ كانت عيناها الصغيرتان مملوءتان دموعا؛ والحزن يجثم على صدرها و يكاد يخنقها؛لم تسمع أي كلمة مما كانت تقوله اخت المرحوم؛ وهي تحدثها و تقترح عليها الاشتغال ببيت أحد الاكابر مقابل قدر من المال في الشهر؛ و وعدتها انها ستجد شغلا لابنتها وردة ايضا: وهكذا سيتغلبان على احتياجاتهما؛ هذا الاقتراح أثلج صدر لكبيرة؛ ولم تجد من كلمات للرد سوى طرق رأسها نحو الأرض وتصمت؛ لكنها ابدت عدم الرضى فيما يخص اشتغال ابنتها؛ هي لا تريدها أن تعاني وتذبل قبل الأوان؛ وتفضل لها الزواج.

لم تستطع رفع رأسها من الارض؛ وبدأت تحدث نفسها وتلومها:”انا السبب في رحيل زوجي قبل الموعد؛لم أكن أقدم له الدعم والمساعدة اللازمين من أجل التغلب على متاعب الشغل واكراهات البيت؛ و كنت لا أقدر اهوال الزمان؛ ولا أسعده حين يعود متعبا مقهورا؛ كنت دائما انعته بالفاشل؛ وأردد على مسامعه كل دقيقة؛ أن ما يجلبه لنا من مال لا يكفينا في شيئ؛لم أكن قنوعة وما رضيت يوما بواقعنا؛ أنا التي كنت أطلب منه المزيد كل يوم وهو لا يستطيع؛ فكنت انغص عليه الحياة كل دقيقة؛لم أفهم يوما أن حياتنا مشتركة ويجب أن نبنيها معا؛ها أنا اليوم أصبحت وحيدة دون معيل؛ولم استطع الحفاظ على زوجي الذي عانى الكثير في صمت؛ دون أن أشعر بذلك يوما؛ أو أن أكون في مستوى تقدير ما كان يقدمه لنا جميعا؛اه! لو كنت ادرك ما ادركته الان؛ لفعلت المستحيل ليكون سعيدا ومرتاحا في بيته وخارجه؛ اه! لقد ارتكبت خطأ لا يغتفر؛ وسيكون الثمن غاليا”.

منذ التحاق لكبيرة بالشغل عند الاكابر؛ وهي تبذل قصارى جهدها؛ لتحظى برضا أولياء نعمتها حتى لا يطردونها؛كانت تقبل بكل ما تؤمر به؛ ولو على حساب كرامتها؛وأدركت حينها معاناة زوجها مع أثرياء البلد اثناء عمله بحقولهم؛ وكانت كلما تذكرت قسوتها تجاهه ينغلق قلبها كما قنديل البحر حين يشعر بالخوف؛ كانت تأكل نصف وجبتها الغذائية؛ وتحتفظ بالنصف الأخر لابنتها؛ لأن ما تتقاضاه من الاكابر مقابل عملها؛ بالكاد يكفيها في استئجار الغرفة وشراء بعض الضروريات للعيش؛ فهي تستيقظ باكرا لتباشر الاشتغال والغسل الى ساعة متأخرة من اليوم؛ فقد هرمت عظامها ولا تستطيع تحمل تلك الاشغال الشاقة؛فكانت تعود الى غرفتها منهكة غير قادرة على التحرك؛ما يجعلها تنام فورا ؛حتى تصبح مستعدة لمواجهة أشغالها المتعبة؛ و رغم أن قلبها لم يعد يقوى على تحمل المعاناة الشاقة؛فليس لها من مفر سوى المواصلة؛ كيف ستغطي تكاليف استئجار الغرفة والاكل والملبس؛أما التطبيب فلا تستطيع التفكير فيه حتى؛لقد تغير لون وجهها كما تتغير أوراق الاشجار في الخريف.

كان خوفها على ابنتها من أنياب الذئاب الحادة؛ هو ما يقلقها أكثر ويرغمها على مواصلة معاناتها عند الاكابر؛كانت تتمنى كل ليلة ان يطرق أحدهم الباب؛ يطلب يد ابنتها للزواج؛ ولكن من سيفكر في طرق باب سيدة عجوز لا تملك قوت يومها- تشتغل خادمة بيوت عند الاكابر- ويتزوج ابنتها البدوية التي لم تدخل المدارس قط؛ وليس لها من ثقافة التحضر نصيبا؛ ان التفكير في هذا الامر يصيبها بالجنون؛إن العالم الخارجي مشبع بالشر والاشرار؛ وبقائها بهذه الغرفة يشعرها بالطمأنينة؛ ولكن الى متى سيدوم هذا الوضع؟ كانت كلما فكرت في مستقبل ابنتها؛ تسيل دموعها و تختنق بالبكاء؛كان الألم يسكنها ويقطع قلبها المنهك من سوء المعاملة اليومية؛ التي تتعرض لها بمكان الشغل؛كل من في البيت ينهرها ويعاملها كأمَةٍ قادمة من الجاهلية العربية؛حتى ضيوف البيت يعرضونها للإهانة والاحتقار.

كل الحيوية والنشاط اللذين كانت تتمتع بهما وردة ذهبا مع حزن الغرفة؛ وظلامها؛ ورطوبتها التي بدأت تنخر عظامها وصدرها؛كانت تقضي معظم أوقاتها؛ أثناء غياب امها؛ في احدى زوايا الغرفة في وضع القرفصاء وتشبك ذراعيها وتضم بهما رجليها الى صدرها؛ لم تكن تدرك جيدا ما يقع بهذه الغرفة/السجن؛ و التي لم تستطع الاندماج معها؛كانت الحياة بالنسبة اليها كحلم مزعج يجثم على صدرها ويخنقها؛لم تكن تصدق أن هذه العجوز الشمطاء؛ التي تقتلع من أمها ثمنا باهظا مقابل تلك الغرفة/ النحس؛هي عمتها واخت المرحوم والدها؛ كانت تحدث ذات نفسها وتخبرها بحزنها ومدى كرهها لعمتها؛ كانت تخاف كل دقيقة من أن تصاب بالجنون ان هي واصلت حياتها مسجونة في هذه الغرفة الكئيبة.

أصبح هذا اليوم كئيبا؛الامطار لا تتوقف و زجاج النوافذ يردد صوت الرعد المخيف؛ولم تستيقظ لكبيرة على غير عادتها؛ انزعجت وردة لعدم ذهاب امها الى الشغل؛ ليس من عادتها أن تتأخر أو تغيب عن العمل؛ نادت عليها ولكنها لم تجب؛ ونهضت وردة مسرعة من فراشها عند أمها؛لمستها فوجدتها متحجرة و باردة ؛حركتها لم تستجب؛ وصاحت صيحة بكاء تجمع على اثرها سكان الحي؛ “ماتت لكبيرة وتركتني لمصيري المجهول يا عمتي” هذا ما كانت تردده وردة في نواحها؛اختتم المأتم بدفن لكبيرة ومعها كل آمال وردة.

بعد مرور ثلاث ايام؛قالت عمتها:” انت تعلمين يا ابنة أخي؛انا امرأة مسنة وليس لي مدخولا اعيش منه؛ سوى تلك الغرفة التي استأجرها؛ولكي نعيش معا؛ لا بد لك من الاشتغال؛ وإلا ساكون مجبرة على افراغ الغرفة؛” نزلت كلمات العمة على وردة كأنها جمل يجثو على صدرها؛وبدا شريط حياتها التعيسة يسرع أمامها؛فحدثت نفسها والدموع تخنقها:”اهذا قدري؟ ماذا فعلت حتى تكون حياتي على هذا المنوال المرعب؟ ما الذنوب التي ارتكبتها وأنا لا أدري؟ من أين سأبدأ؛وكيف سأواجه هذه الحياة وانا لست مستعدة؛” فكرت كثيرا وخططت مرار؛ ثم سألت العمة: ماذا أفعل ياعمتي؟ و كما تعرفين كنت وحيدة والديا وكنت لا أقرب الماء البارد؛ حتى شغل البيت لا أعرف فيه شيئا؛ سأضيع يا عمتي؛”

لن تضيعي يابنتي؛ انت شابة في مقتبل العمر وجميلة؛ ولك قوام مثير؛ لن تضيعي؛  بل ستكسبين مالا كثيرا؛ سأتكفل بكل الأمور؛ فقط لو تقبلين!؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *