منتدى العمق

من الإنسان الرقمي إلى الإنسان عن بعد.. إمكانية الحياة عن بعد‎

يبدو أن الفلسفة اليوم تحتاج قبل أي وقت مضى لتجديد مفاهيمها، وخلق مفاهيم جديدة، وتعزيز الرصيد اللغوي والقاموس الفلسفي للإنسان المعاصر، الذي صار أقرب إلى التقنية منه إلى باقي الأشياء، إنسان ساير تطور اللغة والبناء الثقافي، وزامن الإنسان الآلي، وعاصر نضج الروبوتات، ومنه فإن الفلسفة اليوم تحتاج للحديث، ليس عن الإنسان الذي تحدثت عنه فلسفات العصور الغابرة، فلا إنسانية العصر الوسيط والعصر الحديث هي نفسها إنسانية هذا العصر، إنسانية عصر التقنية التي وازت، وعادلت بين الإنسان والروبوهات التي وجدت لتساعد هذا الإنسان في مسار هيمنته على الطبيعة، ألا يعني هذا التغيير على مستوى الحياة، ضرورة تغيير المفاهيم، وخلق مفاهيم جديدة صاحب ظهورها، ظهور هذا الإنسان الآلي، الذي يعتبر الآلة صديقته، وكونه أحيانا من جهاز تلفازه إلى هاتفه الذي مكنه من كثير من الأشياء.

في اللحظة التي وجد الإنسان نفسه في حاجة للعزلة والتفرد والفردانية. جلس في بيته منعزلا عن الجميع إلا من هاتفه، تلفازه، حاسوبه، وربوهاته التي تمكنه من الأشياء التي يرغبها، أو يريدها. إنسان فاقد للسيطرة على هذه الأجهزة في أحيان أخرى، إذ بات من الصعب جدا أن تعزل رجلا عن هاتفه أو أن تعزل امرأة عن مصبنتها..إلخ. إنسان في ظل أزمة كورونا وجد نفسه محتاجا للتواصل، ليس في الفضاءات التواصلية التي تحدث عنها هابرماس رغم ظألتها، فضاءات تواصلية تمكن الإنسان من التواصل مع الآخر، ذاك الجحيم الذي لا يمكن أن نتخلى عنه، أو أن نعيش في بعده، ليس لمدنيتنا، ولكن لكون الحاجة إليه حاجة طبيعية غريزية لا محالة. بين المأكل و المشرب و النوم و الجنس، كل هذه السلوكات نحتاج فيها للآخر، الذي يصنع جحيمنا أو نعيمنا.

في لحظة وجد الإنسان نفسه معزولا في زنزانته، بعيدا عن الآخر أو مُبعدا عنه بقوة القانون من جهة، وقوة الخوف الذي ولدته الطبيعة من جهة أخرى. في اللحظة التي يعيش الإنسان خلالها خيار التعالق أو العيش مع، متخليا عن مفهوم التعايش، في اللحظة التي صارت فيها مرافقة الآخر شرا ونقمة، بعد أن كانت خيرا ونعمة، لحظة التقيد هذه والتكبيل والعيش في معزل عن الآخر، أو بمعنى آخر حديث وجديد العيش مع وعن بعد، عزلة نيتشه عن الجميع، وجد الإنسان الآلي/الرقمي نفسه أمام خيار بديل، هو خيار تطوير العلاقات الإنسانية عن بعد، وتعويضها باللغة التي تحمل في ذاتها كل المشاعر والأحاسيس والرغبات، فصار الإنسان يمارس طقوسه عن بعد، على مسافة شاشة، عكس ما كان عليه قبل اليوم، فالصداقة تمارس عن بعد، والحب عن بعد، والجنس عن بعد، والصراع عن بعد أيضا، هذا الإنسان الذي سماه أحمد الشراك “الإنسان عن بعد”، وجد في البديل تقليلا من الحرمان الذي عاشه، وتعويضا عن الحياة الواقعية للمرور في خيار جديد خيار “الحياة عن بعد” لنطرح مع هذا الخيار سؤال هل يمكن أن نعيش “الحياة عن بعد” بنفس حميمية الحياة الواقعية؟ هل تحافظ العلاقات الانسانية عن بعد على ذات حميمية العلاقات الإنسانية عن قرب؟ أليس في التباعد نفور؟

يبدو أن المفاهيم صارت تعيش التبدل والتغير منذ القدم، ونحن نتساءل عن سبب تغير المفاهيم وأخذها معنى آخر يخالف أو يكاد يختلف عن المعنى الأصلي، دون أن نهتم لتاريخ تغيير المفاهيم وضرورتها، إذ لن يقبل أرسطو اليوم الحديث عن “طلب الصداقة” الذي أوجده مخترع الفايس بوك، إذ الصداقة عند أرسطو ارتبطت بالحضور والتجسد والإقتراب والاحتكاك، وهي علاقات إنسانية حضورية يميز فيها بين صداقة المصلحة عن صداقة المنفعة، عن الصداقة الفضلى التي لا نفع فيها، وسارت معه في نفس المسير ثقافتنا العربية الاسلامية، التي اعتبرت أن الصداقة تبقى حين لا تأخذ من صديقك ولا تعطيه حيث يجسد المقولة التالية:”صديقك إذا أردت أن تبقيه لا تأخذ منه ولا تعطيه”.

أصبح الإنسان اليوم غير مهتم بما يحدث أمامه من تغيرات، فلا هو يهتم بالتحولات الاجتماعية أو الثقافية، ولا هو مهتم بالبعد الايتيقي للحياة لدرجة أنه أصبح يفضل ممارسة طقوس عزلته بالابتعاد عن الانسان الواقعي هاربا في اتجاه أحضان الانسان التخيلي في اللحظة التي تجده لا يقبل من بين أصدقائه أمه، وأبوه، و غيرهما.
أصبح الإنسان الرقمي/ الآلي يفضل أن يتحدث للغريب التخيلي الذي يخرج إليه حروفا في شاشة الهاتف، الكومبيوتر. هذا الهروب من الواقع بحثا عن واقع آخر، رغم أنه واقع تخيلي صرف، جعل الإنسان يبتعد في هروبه عن الثقافة، والهوية، والتقاليد باحثا عن بصمة إعجاب الكائن التخيلي الرافض أحيانا لقيم هذا المجتمع، لكن هذا الهروب سرعان ما يصطدم بالحافة العالية التي لا ينتبه لها الإنسان الآلي/ الإنسان عن بعد/ الإنسان التخيلي، حافة الطرد من المجتمع التخيلي بعملية bloquer. أو سحب الصداقةRetirer، في اللحظة التي لم نكن نهتم واقعيا بسحب هذه الصداقات أو توقيفها. لتجدنا اليوم أمام إنسان يخاف الإعدام وقفا في الحساب أو شنقا بطرد أو رميا بالسحب.

لقد أصبح الإنسان اليوم كما يقول بذلك الدكتور الشراك يمارس كل سلوكاته في الحياة اليومية عن بعد، فالاجتماع عن بعد، والتواصل عن بعد، والصداقة عن بعد، والجنس عن بعد بحثا عن إنجاز المطلوب أحيانا، وبحثا عن تحقيق رغبة في أحيان أخر، إلا أن كل هذه السلوكات كلها تبقى معلقة وموقوفة التنفيذ في انتظار الحضور، والتجسد كي تكتمل، فلا الجنس يمكن أن يتحقق عن بعد ولو بتوظيف الدمى الجنسية التي وضعت لغرض تعويض الأنثى، وإلا فالإنجاب عن بعد قد يتحقق أيضا.
لا يمكن أن نحقق التوقيعات عن بعد أيضا، ولا الجنس يمكن أن يتحقق عن بعد، في زمن الإنسان عن بعد هذا.

لا يمكن للعلاقات الإنسانية أن تكون بنفس حميمية العلاقات الإنسانية الواقعية، إذ يكفي أن يحدث انقطاع في التيار الكهربائي، أو في الشبكة، قد يعصف باللقاء وحميميته، لكنها سلوكات تظل موقوفة التنفيذ إلا من الإنجاز.

فهل يمكن أن نتحدث عن الغيرة، الغضب، والسخط، والفرح، والحزن عن بعد؟

يبقى السؤال اليوم ممكنا للحديث عن الحياة في تفاصيلها الدقيقة ممكنة جدا خلف الشاشة، عن بعد، ما دامت لا تحقق نشوة الحضور والتجسد، والغمز، والركل، والرفس لأن اللغة تظل عاجزة عن نقل الايحاءات، عن تحقيق النشوة والاشباع، نعم يمكن التعبير عن الغيرة لفظيا لكن لن تحمل الألفاظ تعابير جسد بأكمله في لحظة الغيرة، وإلا هل يمكن للحروف والايموجيات أن تعوض لغة الجسد التي تشكل واحدة من أعرق اللغات والتعابير، وإذا اعتبرنا اليوم أن الحياة عن بعد ممكنة فهل يمكن الحديث عن حياة عن بعد ممكنة بالنسبة للفئة التي تعاني واقعيا وحضوريا وهي فئة ذوي الحاجات الخاصة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *